فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوُله: {فلا تحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وعْدِهِ رسلَه}.
أي: فقد وعدك الظهورَ عليهم.
قال ابن عباس: يريد بوعده: النصر والفتح وإِظهار الدين.
{إِن الله عزيز} أي: منيع {ذو انتقام} من الكافرين، وهو أن يجازَيهم بالعقوبة على كفرهم.
{يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض}.
وروى أبان {يوم نُبدِّل} بالنون وكسر الدال {الأرضَ} بالنصب، {والسمواتِ} بخفض التاء، ولا خلاف في نصب {غير}.
وفي معنى تبديل الأرض قولان:
أحدهما: أنها تلك الأرض، وإِنما يُزاد فيها ويُنقص منها، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتُمد مَدَّ الأديم، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.
وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «{يوم تبدل الأرض غير الأرض}، قال: ببسطها ويمدها مَدَّ الأديم».
والثاني: أنها تبدَّل بغيرها.
ثم فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنها تُبدَّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمل عليها خطيئة، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود، وعطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
والثاني: أنها تُبدَّل نارًا، قاله أُبيّ بن كعب.
والثالث: أنها تُبدَّل بأرض من فضة، قاله أنس بن مالك.
والرابع: تُبدَّل بخبزة بيضاء، فيأكل المؤمن من تحت قدميه، قاله أبو هريرة، وسعيد بن جبير، والقرظي.
وقال غيرهم: يأكل منها أهل الإِسلام حتى يُفرغ من حسابهم.
فأما تبديل السموات، ففيه ستة أقوال:
أحدها: أنها تُجعَل من ذهب، قاله علي عليه السلام.
والثاني: أنها تصير جِنانًا، قاله أُبيّ بن كعب.
والثالث: أن تبديلها: تكوير شمسها وتناثر نجومها، قاله ابن عباس.
والرابع: أن تبديلها: اختلاف أحوالها، فَمرة كالمُهْل، ومَرَّة تكون كالدِّهان، قاله ابن الأنباري.
والخامس: أن تبديلها أن تُطوى كَطَيِّ السِّجِلِّ للكتاب.
والسادس: أن تنشقَّ فلا تُظِلُّ، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: {وبرزوا لله الواحد القهار} أي: خرجوا من القبور.
قوله تعالى: {وترى المجرمين}.
يعني: الكفار {مُقرَّنين} يقال: قرنتُ الشيء إِلى الشيء: إِذا وصلتَه به.
وفي معنى {مُقرَّنين} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يُقرَّنون مع الشياطين، قاله ابن عباس.
والثاني: أن أيديَهم وأرجلَهم قُرنت إِلى رقابهم، قاله ابن زيد.
والثالث: يُقرَّن بعضهم إِلى بعض، قاله ابن قتيبة.
وفي الأصفاد ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الأغلال، قاله ابن عباس، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، وابن الأنباري.
والثاني: القيود والأغلال، قاله قتادة.
والثالث: القيود، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فأما السرابيل، فقال أبو عبيدة: هي القُمُص، واحدها سِربال.
وقال الزجاج: السِّربال: كل ما لُبس.
وفي القَطِرَانِ ثلاث لغات: فتح القاف وكسر الطاء، وفتح القاف مع تسكين الطاء، وكسر القاف مع تسكين الطاء.
وفي معناه قولان:
أحدهما: أنه النحاس المذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنه قَطِران الإِبل، قاله الحسن، وهو شيء يَتَحلَّب من شجر تُهْنَأ به الإِبل.
قال الزجاج: وإِنما جُعل لهم القَطِرَان، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إِحراقهم بغير ذلك لقَدَرَ، ولكنه حذَّرهم ما يعرفون حقيقته.
وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وعِكرمة، وقتادة، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب: {مِنْ قِطْرٍ} بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين {آنٍ} بقطع الهمزة وفتحها ومدها.
والقِطْر: النحاس، وآن: قد انتهى حَرُّه.
قوله تعالى: {وتغشى وجوهَهم النار} أي: تعلوها.
واللام في {لَيجْزِيَ} متعلقة بقوله: {وبرزوا}.
قوله تعالى: {هذا بلاغ للناس}.
في المشار إِليه قولان:
أحدهما: أنه القرآن.
والثاني: الإِنذار.
والبلاغ: الكفاية.
قال مقاتل: والمراد بالناس: أهل مكة.
قوله تعالى: {ولينذَروا به} أي: أُنزل ليُنذَروا به، وليعلموا بما فيه من الحُجج {أنما هو إِله واحد وليذَّكر} أي: وليتعظ {أولو الألباب}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}.
اسم الله تعالى و{مخلف} مفعولا تحسب؛ و{رُسُلَهُ} مفعول {وَعْدِهِ} وهو على الاتساع، والمعنى: مخلف وعدِه رسلَه؛ قال الشاعر:
تَرَى الثَّوْرَ فيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رأسَهُ ** وسائِرُهُ بادٍ إلى الشَّمْسِ أَجْمَعُ

قال القُتَبيّ: هو من المقدّم الذي يوضحه التأخير، والمؤخّر الذي يوضحه التقديم، وسواء في قولك: مخلف وعدِه رسلَه، ومخلف رسلِه وعدَه.
{إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي من أعدائه.
ومن أسمائه المنتقم وقد بيّناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض}.
أي اذكر يوم تبدّل الأرض، فتكون متعلقة بما قبله.
وقيل: هو صفة لقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.
واختلف في كيفية تبديل الأرض، فقال كثير من الناس: إن تبدّل الأرض عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومدّ أرضها؛ ورواه ابن مسعود رضي الله عنه؛ خرجه ابن ماجه في سننه وذكره ابن المبارك من حديث شَهْر بن حَوْشَب، قال حدّثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرضُ مدَّ الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا؛ وذكر الحديث.
وروي مرفوعًا من حديث أبي هُريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تبدّل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العُكَاظيّ لا ترى فيها عِوجًا ولا أَمْتًا ثم يزجر الله الخلق زجرةً فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها ففي بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها» ذكره الغَزْنَويّ.
وتبديل السماء تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها؛ قاله ابن عباس.
وقيل: اختلاف أحوالها، فمرّة كالمهل ومرة كالدّهان؛ حكاه ابن الأنباريّ؛ وقد ذكرنا هذا الباب مبيَّنًا في كتاب التذكرة وذكرنا ما للعلماء في ذلك، وأن الصحيح إزالة هذه الأرض حسب ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم عن ثَوْبان مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك؛ وذكر الحديث، وفيه: فقال اليهوديّ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الظُّلمة دون الجِسر». وذكر الحديث.
وخرّج عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {يَوْم تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: «على الصراط». خرجه ابن ماجه بإسناد مسلم سواء، وخرجه الترمذيّ عن عائشة وأنها هي السائلة، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ فهذه الأحاديث تنصّ على أن السموات والأرض تُبدَّل وتُزَال، ويخلق الله أرضًا أخرى يكون الناس عليها بعد كونهم على الجِسْر.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحشَر الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاءَ عَفْراء كقُرْصَة النَّقِيّ ليس فيها عَلَمٌ لأحد» وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن عليّ عن قول الله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} قال: تُبدّل خُبْزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8]. وقال ابن مسعود: إنها تبدّل بأرض غيرها بيضاء كالفضة لم يُعمَلْ عليها خطيئة.
وقال ابن عباس: بأرض من فضّة بيضاء.
وقال عليّ رضي الله عنه: تبدّل الأرض يومئذ من فضة والسماء من ذهب وهذا تبديل للعين، وحسبك.
{وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} أي من قبورهم، وقد تقدّم.
قوله تعالى: {وَتَرَى المجرمين} وهم المشركون.
{يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة.
{مُّقَرَّنِينَ} أي مشدودين {فِي الأصفاد} وهي الأغلال والقيود، واحدها صَفْد وصَفَد.
ويقال: صَفَدته صَفْدًا أي قيّدته والاسم الصَّفَد، فإذا أردت التكثير قلت: صَفَّدته تصفِيدًا؛ قال عمرو بن كُلْثوم:
فآبُوا بالنِّهَابِ وبالسَّبَايَا ** وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا

أي مقيّدينا.
وقال حسان:
مِن كلِّ مَأسُورٍ يُشَدُّ صِفَادُهُ ** صَقْرٍ إذَا لاَقَى الْكَرِيهةَ حَامِ

أي غلُّهُ، وأصفدته إصفادًا أعطيته.
وقيل: صَفَدته وأَصْفَدته جاريان في القيد والإعطاء جميعًا؛ قال النابغة:
فَلَمْ أُعَرِّض أَبَيْتَ الَّلْعن بالصَّفَدِ

فالصَّفَد العطاء؛ لأنه يُقيِّد ويُعْبد؛ قال أبو الطيب:
وقَيَّدتُ نفسِي في ذَرَاكَ مَحَبَّةً ** ومَن وَجَدَ الإحسانَ قَيْدًا تَقيَّدَا

قيل: يقرن كل كافر مع شيطان في غُلّ، بيانه قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] يعني قرناءهم من الشياطين.
وقيل: إنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي.
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} أي قمصهم، عن ابن دُرَيد وغيره، واحدها سِربال، والفعل تَسربلتُ وسَربلتُ غيري؛ قال كعب بن مالك:
تَلْقَاكُمُ عَصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ ** مِنْ نَسْجِ دَاودَ في الْهَيْجَا سَرَابِيلُ

{مِن قَطِرَانٍ} يعني قطران الإبل الذي تُهْنَأ به؛ قاله الحسن.
وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم.
وفي الصحيح: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سِربال من قطران ودِرْع من جَرَب.
وروي عن حماد أنهم قالوا: هو النُّحاس.
وقرأ عيسى بن عمر: {قَطْرَانٍ} بفتح القاف وتسكين الطاء.
وفيه قراءة ثالثة: كسر القاف وجزم الطاء؛ ومنه قول أبي النَّجْم:
جَوْنٌ كَأَنَّ الْعَرَقَ الْمَنْتُوحَا ** لَبَّسَهُ الْقِطْرَانَ والْمُسُوحَا

وقراءة رابعة: {مِنْ قِطْرٍآنٍ} رويت عن ابن عباس وأبي هُريرة وعِكْرمة وسعيد بن جُبير ويعقوب؛ والقِطْر النحاس والصُّفْر المذاب؛ ومنه قوله تعالى: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].
والآن: الذي قد انتهى إلى حَرِّه؛ ومنه قوله تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن} [الرحمن: 44].
{وتغشى} أي تضرب {وُجُوهَهُمْ النار} فَتُغَشِّيها.
{لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي بما كسبت.
{إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} تقدّم.
قوله تعالى: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} أي هذا الذي أنزلنا إليك بلاغ؛ أي تبليغ وعظة.
{وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي ليخوَّفوا عقاب الله عز وجل، وقرئ: {وَلِيَنْذَرُوا} بفتح الياء والذال، يقال: نَذِرت بالشيء أَنْذَر إذا علمت به فاستعددتَ له، ولم يستعملوا منه مصدرًا كما لم يستعملوا من عسى وليس، وكأنهم استغنوا بأن والفعل كقولك: سَرَّني أن نَذِرتُ بالشيء.
{وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي وليعلموا وحدانية الله بما أقام من الحجج والبراهين.
{وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي وليتّعظ أصحاب العقول.
وهذه اللامات في {وَلِيُنْذَرُوا} {وَلِيَعْلَمُوا} {وَلِيَذَّكَرَ} متعلقة بمحذوف؛ التقدير: ولذلك أنزلناه.
وروى يَمَان بن رِئَاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وسئل بعضهم هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم؛ قيل: وأين هو؟ قال قوله تعالى: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} إلى آخرها. اهـ.