فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن {إن} بمعنى ما قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ}، وقوله: {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] وقوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] {فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] ومن فتح اللام الأُولى فعلى استعظام مكرهم.
قال ابن جرير: الاختيار القراءة الأُولى؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره قالوا: نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقًا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر، وجعل له بابًا من أعلى وبابًا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعًا في اللحم حتى بعدن في الهواء.
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئًا ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد.
قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخًا بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء.
واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.
قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.
وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم.
قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بالنصر لاؤليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده؛ لأن الخلف يقع بالوعد.
يقول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ** وسائر باد إلى الشمس أجمع

وقال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وهو قولك يخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.
{إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: البدل عرض كالفضة نبضًا نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئه.
وقال علي رضي الله عنه في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب.
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد».
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض نارًا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارًا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.
قال كعب: يصير السماوات جنانًا ويصير مكان البحر نارًا وتبدل الأرض غيرها.
ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.
ثم أنشد:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ** ولا بالدار الدار التي كنت أعرف

وتصديق قول ابن عباس، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيهًا عوجًا وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأُولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها».
وقيل: تبدل الأرض غير الأرض بأرض بيضاء كالفظة.
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: {تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} أين يكون الناس يومئذ قال: على الصراط».
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: «سأل نفر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: هم في الظلمة دون الحشر».
وروى حيكم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم خبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه».
{وَبَرَزُواْ} ظهروا وخرجوا من قبورهم {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت {وَتَرَى المجرمين} المشركين {يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ} مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضًا القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفدًا وأصفادًا التكثر، قلت: صفدته تصفيدًا.
قال عمرو بن كلثوم:
فأتوا بالنهاب وبالسبايا ** وأبناء الملوك مصفدينا

{سَرَابِيلُهُم} قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري {مِّن قَطِرَانٍ} وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض.
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: {قَطرَانٍ} بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قِطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم:
جون كأن العرق المنتوحا ** لبسه القطران والمسوحا

وقرأ عكرمة: برواية زيد: قطران على كلمتين منونتين {قَطِرَانٍ} والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} إلى قوله: {هذا} أي هذا القرآن {بَلاَغٌ} تبليغ وعظة {لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا} حجج الله التي أقامها فيه {أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} لا شريك له {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب}. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة إبراهيم: الآيات 28- 30]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)}.
{بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} أى شكر نعمة الله: {كُفْرًا} لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرًا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا، ونحوه {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أى شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه. ووجه آخر: وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرًا على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدل النعمة. وهم أهل مكة: أسكنهم اللّه حرمه، وجعلهم قوّام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فكفروا نعمة اللّه بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. أو أصابهم اللّه بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقا في أعناقهم. وعن عمر رضى اللّه عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين.
وقيل: هم متنصرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} ممن تابعهم على الكفر {دارَ الْبَوارِ} دار الهلاك. وعطف جَهَنَّمَ على دار البوار عطف بيان. قرئ {لِيُضِلُّوا} بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد، فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد، كما كان الإكرام في قولك: جئتك لتكرمنى، نتيجة المجيء، دخلته اللام وإن لم يكن غرضا، على طريق التشبيه والتقريب تَمَتَّعُوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرًا دونه، وهو أمر الشهوة.
والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ}.

.[سورة إبراهيم: آية 31]

{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)}.
المقول محذوف، لأن جواب {قُلْ} يدل عليه، وتقديره {قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} أقيموا الصلاة وأنفقوا {يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا} وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا، بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول، قالوا: وإنما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الذي هو قُلْ عوض منه، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز.
فإن قلت: علام انتصب {سِرًّا وَعَلانِيَةً}؟ قلت: على الحال، أى: ذوى سرّ وعلانية، بمعنى: مسرين ومعلنين. أو على الظرف، أى وقتى سر وعلانية، أو على المصدر، أى: إنفاق سر وإنفاق علانية، المعنى: إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب: والخلال: المخالة.
فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}؟ قلت: من قبل أنّ الناس يخرجون أَموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أَمثالها أو خيرًا منها. وأمّا الإنفاق لوجه اللّه خالصا كقوله: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال، أى: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة، ولا بما ينفقون به أَموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه اللّه. وقرئ: {لا بيع فيه ولا خلال}، بالرفع.

.[سورة إبراهيم: الآيات 32- 34]

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}.
{اللَّهُ} مبتدأ، و{الَّذِي خَلَقَ} خبره، و{مِنَ الثَّمَراتِ} بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون {مِنَ الثَّمَراتِ} مفعول أخرج، و{رِزْقًا} حالا من المفعول، أَو نصبًا على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق بِأَمْرِهِ بقوله كن {دائِبَيْنِ} يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم {وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظرًا في مصالحكم. وقرئ {من كلّ} بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون ما موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال لا تُحْصُوها لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله: {لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها {كَفَّارٌ} شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.

.[سورة إبراهيم: الآيات 35- 36]

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}.
{هَذَا الْبَلَدَ} يعنى البلد الحرام، زاده اللّه أَمنًا، وكفاه كل باغ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام آمِنًا ذا أمن. فإن قلت: أَى فرق بين قوله: {اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا} وبين قوله: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}؟ قلت: قد سأل في الأوّل أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنًا {وَاجْنُبْنِي} وقرئ: {وأجنبنى}، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد جنبني وأجنبنى، والمعنى: ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها {وَبَنِيَّ} أراد بنيه من صلبه. وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما، واحتج بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم، قالوا: البيت حجر، فحيثما نصبنا حجرًا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار، فاستحب أن يقال: طاف بالبيت، ولا يقال: دار بالبيت {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} فأعوذ بك أن تعصمني وبنىّ من ذلك، وإنما جعلن مضلات، لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ، فكأنهنّ أضللنهم، كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أى افتتنوا بها واغتروا بسببها {فَمَنْ تَبِعَنِي} على ملتي وكان حنيفا مسلما مثلي {فَإِنَّهُ مِنِّي} أى هو بعضى لفرط اختصاصه بى وملابسته لي، وكذلك قوله: «من غشنا فليس منا» أى ليس بعض المؤمنين، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم وَمَنْ عَصانِي {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي. وقيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك.

.[سورة إبراهيم: آية 37]

{رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لعلهم يَشْكُرُونَ (37)}.
{مِنْ ذُرِّيَّتِي} بعض أولادى وهم إسماعيل ومن ولد منه {بِوادٍ} هو وادى مكة {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} لا يكون فيه شيء من زرع قط، كقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا الاستقامة لا غير. وقيل للبيت المحرم، لأنّ اللّه حرم التعرض له والتهاون به، وجعل ما حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار، كالشىء المحرم الذي حقه أن يجتنب، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه، أو لأنه حرّم على الطوفان أى منع منه، كما سمى عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه {لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} اللام متعلقة بأسكنت، أى: ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع، مستسعدين بجوارك الكريم، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك، والطواف به، والركوع والسجود حوله، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} أفئدة من أفئدة الناس، ومن للتبعيض، ويدل عليه ما روى عن مجاهد: لو قال أَفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم، وقيل: لو لم يقل مِنْ لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند. ويجوز أن يكون مِنْ للابتداء، كقولك: القلب منى سقيم، تريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة. وقرى: آفدة، بوزن عاقدة. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون من القلب كقولك: آدر، في أدؤر. والثاني: أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت، أى، جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم. وقرئ: {أفدة}، وفيه وجهان: أن تطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين. وأن يكون من أفد {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا من قوله:
يَهْوِى مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ

وقرئ: {تهوى إليهم}، على البناء للمفعول، من هوى إليه وأهواه غيره. وتهوى إليهم، من هوى يهوى إذا أحب، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ} مع سكناهم واديا ما فيه شيء منها، بأن تجلب إليهم من البلاد {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن اللّه عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أى بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها اللّه بواد غير ذي زرع، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب، متعنا اللّه بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم.