فصل: (سورة إبراهيم: الآيات 38- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة إبراهيم: الآيات 38- 39]

{رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)}.
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى اللّه تعالى: {إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ} تعلم السرَّ كما تعلم العلن علمًا لا تفاوت فيه، لأنّ غيبًا من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولهًا إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما نخفى من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق، وما نعلن: يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى اللّه أكلكم. قالت: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف {وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} من كلام اللّه عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله: {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} أو من كلام إبراهيم، يعنى: وما يخفى على اللّه الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. {ومن} للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما. عَلَى في قوله: {عَلَى الْكِبَرِ} بمعنى مع، كقوله:
إنِّى عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ** أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ

وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر للّه ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: اللّه تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه: سمع اللّه لمن حمده. وفي الحديث «ما أذن اللّه لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيدًا، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أمورًا، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء اللّه سميعا على الإسناد المجازى، والمراد سماع اللّه.

.[سورة إبراهيم: الآيات 40- 41]

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)}.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وبعض ذرّيتى، عطفا على المنصوب في اجعلنى، وإنما بعض لأنه علم بإعلام اللّه أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. {وَتَقَبَّلْ دُعاءِ} أى عبادتي {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في قراءة أبىّ: {ولأبوىّ}. وقرأ سعيد بن جبير: {ولوالدي}، على الإفراد، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى اللّه عنهما: {ولولدىّ}، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ: {لولدي}، بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف: ولذرّيتى. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام. ويأباه قوله: {إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفارًا صحيحا لا مقال فيه، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ} أى يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسنادًا مجازيا، أو يكون مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وعن مجاهد: قد استجاب اللّه له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ الآية، رفعها اللّه فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.

.[سورة إبراهيم: الآيات 42- 43]

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)}.
فإن قلت: يتعالى اللّه عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا}؟ قلت: إن كان خطابا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب اللّه غافلا، كقوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ، كما جاء في الأمر {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} والثاني: أنّ المراد بالنهى عن حسبانه غافلا، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم، المحاسب على النقير والقطمير، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلا، لجهله بصفاته، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه. وقرئ: {يؤخرهم}، بالنون والياء {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} أى أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى {مُهْطِعِينَ} مسرعين إلى الداعي. وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف {مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} رافعيها {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم، أى: لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير:
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ

لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان:
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ

وعن ابن جريج {أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم.

.[سورة إبراهيم: الآيات 44- 47]

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)}.
{يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ} مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى {أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}. {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ} على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدًا وأمّلوا بعيدًا. {وما لَكُمْ} جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: {أَقْسَمْتُمْ} ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا {مِنْ زَوالٍ} والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث، كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} يقال: سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعدّيه بفي، كقولك: قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوّأها وأوطنها. ويجوز أن يكون: سكنوا، من السكون، أى: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقى الأوّلون من أيام اللّه وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} بالإخبار والمشاهدة {كَيْفَ} أهلكناهم وانتقمنا منهم.
وقرئ: {ونبين لكم}، بالنون {وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ} أى صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أى مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} لا يخلوا إمّا أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند اللّه مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند اللّه مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته، أى: وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معدًا لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات اللّه وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتًا وتمكنًا. وتنصره قراءة ابن مسعود: {وما كان مكرهم}. وقرئ: {لتزول}، بلام الابتداء، على: وإن كان مكرهم من الشدّة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ على وعمر رضى اللّه عنهما: {وإن كاد مكرهم} {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} يعنى قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا}، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأوّل؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} ثم قال: {رُسُلَهُ} ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدًا- وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟
وقرئ: {مخلف وعده رسله}، بجرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ {قتل أولادهم شركائهم}. {عَزِيزٌ} غالب لا يماكر {ذُو انتِقامٍ} لأوليائه من أعدائه.

.[سورة إبراهيم: الآيات 48- 51]

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)}.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام.
والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضًا أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. ومنه {بَدَّلْناهُمْ جُلُودًا غَيْرَها} {وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتمًا، إذا أذبتها وسويتها خاتمًا، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى: {فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ ** وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ التي كُنْتَ تَعْلَمُ

وتبدّل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبوابا.
وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى اللّه عنه: تبدّل أرضا من فضة، وسموات من ذهب.
وعن الضحاك: أرضًا من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: {يوم نبدّل الأرض}، بالنون.
فإن قلت: كيف قال: {الْواحِدِ الْقَهَّارِ}؟ قلت: هو كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة {مُقَرَّنِينَ} قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين. أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله: {فِي الْأَصْفادِ} إمّا أن يتعلق بمقرّنين، أى: يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرّنين مصفدين. و{الأصفاد}: القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل:
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَادًا ** بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ

{القطران}: فيه ثلاثة لغات: قطران، وقطران، وقطران: بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ، فتهنأ به الإبل الجربي، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته، والجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران. وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، وكل ما وعده اللّه أو وعد به في الآخرة، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه.
وقرئ: {من قطران}، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآنى: المتناهي حرّه {وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ}، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ} لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه، كالقلب في باطنه، ولذلك قال: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} وقرئ: {وتغشى وجوههم}، بمعنى تتغشى: أى يفعل بالمجرمين ما يفعل {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ} مجرمة {ما كَسَبَتْ} أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.

.[سورة إبراهيم: آية 52]

{هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)}.
{هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} كفاية في التذكير والمواعظة، يعنى بهذا ما وصفه من قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّ} إلى قوله: {سَرِيعُ الْحِسابِ}. {وَلِيُنْذَرُوا} معطوف على محذوف، أى لينصحوا ولينذروا بِهِ بهذا البلاغ. وقرئ: {ولينذروا}، بفتح الياء، من نذر به إذا علمه واستعدّ له {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ} لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد». اهـ.