فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{البلد آمِنًا} ذكر في [البقرة: 125] {واجنبني} أي امنعني، والماضي منه جنب، يقال جنب وجنب بالتشديد، وأجنب بمعنى واحد {وَبَنِيَّ} يعني بنيّ من صلبي وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام {وَمَنْ عَصَانِي} يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق.
{أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} يعني ابنه إسماعيل عليه السلام، لما ولدته أمه هاجر غارت منها سارة زوجة إبراهيم فحمله مع أمه من الشام إلى مكة {بِوَادٍ} يعني مكة، والوادي ما بين جبلين وإن لم يكن فيه ماء {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} يعني الكعبة، فإما أن يكون البيت أقدم من إبراهيم على ما جاء في بعض الروايات، وإما أن يكون إبراهيم قد علم أنه سيبني هناك بيتًا {لِيُقِيمُواْ الصلاة} اللام يحتمل أن تكون لام الأمر بمعنى الدعاء، أو لام كي وتتعلق بأسكنت وجمع الضمير يدل على أنه كان علم أنه ابنه يعقب هناك نسلا و{تهوى إِلَيْهِمْ} أي تسير بجد وإسراع، ولهذه الدعوة حبب الله حج البيت إلى الناس، على أنه قال من الناس بالتبعيض، قال بعضهم: لو قال أفئدة الناس لحجته فارس والروم {وارزقهم مِّنَ الثمرات} أي ارزقهم في ذلك الوادي مع أنه غير ذي زرع، وأجاب الله دعوته فجعل مكة يُجبى إليها ثمراتَ كل شيء {وَمَا يخفى عَلَى الله} الآية: يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو حكاية عن إبراهيم.
{وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} روي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبع عشر عامًا، وروي أقل من هذا، وإسماعيل أسن من إسحاق {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول: الاستجابة، وإن أراد بالدعاء العبادة، فالقبول على حقيقته.
{رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} قيل إنما دعا بالمغفرة لأبويه الكافرين بشرط إسلامهما، والصحيح أنه دعا لهما قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله حسبما ورد في براءة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا} هذا وعيد للظالمين وهم الكفار على الأظهر، فإن قيل: لمن هذا الخطاب هنا وفي قوله: {ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله}؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره، فإن كان لغيره فلا إشكال، وإن كان له فهو مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب أن الله غافلًا، وتأويل ذلك بوجهين: أحدهما أن المراد الثبوت على علمه بأن الله غير غافل وغير مخلف وعده، والآخر أن المراد إعلامه بعقوبة الظالمين فمقصد الكلام الوعيد لهم {تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي تحد النظر من الخوف {مُهْطِعِينَ} قيل: الإهطاع الإسراع، وقيل: شدّة النظر من غير أن يطرف {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} قيل: الإقناع هو رفع الرأس، وقيل خفضه من الذلة {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يطرفون بعيونهم من الحذر والجزع.
{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي منحرفة لا تعي شيئًا من شدّة الجزع فشبهها بالهواء في تعريفه من الأشياء، ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم.
{يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يعني يوم القيامة، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثان لأنذر، ولا يجوز أن يكون ظرفًا {أَوَلَمْ تكونوا} تقديره: يقال لهم أو لم تكونوا الآية: {مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} هو المقسم عليه، ومعنى من زوال، أي من الأرض بعد الموت أي حلفتم أنكم لا تبعثون.
{وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي جزاء مكرهم {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} إن هنا نافية، واللام لام الجحود، والجبال يراد بها الشرائع والنبوات، شبهت بالجبال في ثبوتها، والمعنى مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة؛ وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام ورفع تزول وإن على هذه القراءة مخففة من الثقيلة، واللام للتأكيد، والمعنى تعظيم مكرهم أي أن مكرهم من شدته تزول منه الجبال، ولكن الله عصم ووقى منه {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} يعني وعد النصر على الكفار، فإن قيل: هلا قال: مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلًا على الإطلاق، ثم قال: رسله، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه فقدم الوعد أولًا بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} العامل في الظرف ذو انتقام أو محذوف، وتبديل الأرض بأن تكون يوم القيامة بيضاء عفراء كقرصة النقي هكذا ورد في الحديث الصحيح {والسماوات} تبديلها بانشقاقها وانتشار كواكبها، وخسوف شمسها وقمرها وقيل: تبدل أرضًا من فضة، وسماء من ذهب وهذا ضعيف.
{وَتَرَى المجرمين} يعني الكفار {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} أي مربوطين في الأغلال {سَرَابِيلُهُم} أي قمصهم والسربال القميص {مِّن قَطِرَانٍ} متعلق بمحذوف أي جعل الله فيه ذلك وهو الذي تهنأ به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه {لِيَجْزِىَ} يتعلق بمحذوف أي فعل الله ذلك ليجزي {هذا بلاغ} إشارة إلى القرآن أو إلى ما تضمنه هذه السورة {وَلِيُنذَرُواْ} معطوف على محذوف تقديره لينصحوا به ولينذروا {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي هذا الذكر لأولي العقول، وهم أهل العلم رضي الله عنهم. اهـ.

.قال البيضاوي:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا}.
أي شكر نعمته كفرًا بأن وضعوه مكانه، أو بدلوا نفس النعمة كفرًا، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة، خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلاء، فبقوا مسلوبي النعمة وموصوفين بالكفر، وعن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} الذين شايعوهم في الكفر. {دَارَ البوار} دار الهلاك بحملهم على الكفر.
{جَهَنَّمَ} عطف بيان لها. {يَصْلَوْنَهَا} حال منها أو من القوم، أي داخلين فيها مقاسين لحرها، أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم. {وَبِئْسَ القرار} أي وبئس المقر جهنم.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بفتح الياء، وليس الضلال ولا الاضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. {قُلْ تَمَتَّعُواْ} بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لافضائه إلى المهدد به، وأن الأمرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} وأن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع.
{قُل لِّعِبَادِىَ الذين ءَامَنُواْ} خصهم بالإضافة تنويهًا لهم وتنبيهًا على أنهم المقيمون لحقوق العبودية، ومفعول {قُلْ} محذوف يدل عليه جوابه: أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا. {يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} فيكون إيذانًا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، ويجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما وإنما حسن ذلك ها هنا ولم يحسن في قوله:
مُحَمَّدٌ تفد نَفْسَكَ كُلُّ نَفْس ** إِذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ تَبَالاَ

لدلالة قل عليه. وقيل هما جوابًا أقيموا وأنفقوا مقامين مقامهما، وهو ضعيف لأنه لابد من مخالفة ما بين الشرط وجوابه ولأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدًا. {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} منتصبان على المصدر أي إنفاق سر وعلانية، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية، أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية، والأحب إعلان الواجب وإخفاء المتطوع به. {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدى به نفسه. {وَلاَ خلال} ولا مخالة فيشفع لك خليل، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالانفاق لوجه الله تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على النفي العام.
{الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} مبتدأ وخبر {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَكُمْ} تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس مفعول لأخرج و{مِنَ الثمرات} بيان له وحال منه ويحتمل عكس ذلك ويجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ في البحر بِأَمْرِهِ} بمشيئته إلى حيث توجهتم. {وَسَخَّرَ لَكُمْ الأنهار} فجعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم وقيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَين} يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاح ما يصلحانه من المكونات. {وَسَخَّر لَكُمُ اليل والنهار} يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئًا، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة الله تعالى، ولعل المراد ب {مَا سَأَلْتُمُوهُ} ما كان حقيقًا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل، وما يحتمل أن تكون موصولة وموصوفة ومصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول. وقرئ {مِنْ كُلِّ} بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال، ويجوز أن تكون {ما} نافية في موقع الحال أي وآتاكم من كل شيء غير سائليه.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} لا تحصروها ولا تطيقوا عد أنواعها فضلًا عن أفرادها، فإنها غير متناهية. وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإِضافة. {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان. {كَفَّارٌ} شديد الكفران. وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع.
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا البلد} بلدة مكة. {آمِنًا} ذا أمن لمن فيها، والفرق بينه وبين قوله: {اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه وتصييره آمنًا، وفي الثاني جعله من البلاد الآمنة. {واجنبنى وَبَنِىَّ} بعدني وإياهم، {أَن نَّعْبُدَ الأصنام} واجعلنا منها في جانب وقرئ {واجنبنى} وهما على لغة نجد وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره. وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم وهو بظاهره، لا يتناول أحفاده وجميع ذريته. وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام لم يعبدوا الصنم محتجًا به وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمونها الدوار ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرًا فهو بمنزلته.
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس} فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإِضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}. {فَمَن تَبِعَنِى} على ديني. {فَإِنَّهُ مِنِّى} أي بعضي لا ينفك في أمر الدين. {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فلِلَّهِ أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره.
{رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى} أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه قال إسكانه متضمن لإسكانهم. {بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ} يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت. {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظمًا ممنعًا يهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقًا أي أعتق منه. ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه. روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورًا فقالوا لا طير إلا على الماء، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت. {رَّبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} اللام لام كي وهي متعلقة ب {أَسْكَنتُ} أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها.
وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإِقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها. {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس} أي أفئدة من أفئدة الناس، و{مِنْ} للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى، أو للابتداء كقولك: القلب مني سقيم أي أفئدة ناس. وقرأ هشام {أفئيدة} بخلف عنه بياء بعد الهمزة. وقرئ {آفدة} وهو يحتمل أن يكون مقلوب {أفئدة} كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم و{أفدة} بطرح الهمزة للتخفيف، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين ويجوز أن يكون من أفد. {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} تسرع إليهم شوقًا وودادًا. وقرئ {تهوى} على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و{تهوى} من هوى يهوي إذا أحب، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع. {وارزقهم مِّنَ الثمرات} مع سكناهم واديًا لا نبات فيه. {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} تلك النعمة، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} تعلم سرنا كما تعلم علننا، والمعنى إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارًا لعبوديتك وافتقارًا إلى رحمتك واستعجالًا لنيل ما عندك. وقيل ما نخفي من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك، وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجأ إلى الله تعالى. {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم، ومن للاستغراق.
{الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر} أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظامًا للنعمة وإظهارًا لما فيها من آلائه. {إسماعيل وإسحاق}. روي أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة. {إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء} أي لمجيبه من قولك سمع الملك كلامي إذا اعتد به، وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله على إسناد السماع إلى دعاء الله تعالى على المجاز، وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها.
{رَبِّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة} معدلًا لها موَاظبًا عليها. {وَمِن ذُرِّيَّتِى} عطف على المنصوب في {اجعلنى}، والتبعيض لعلمه بإعلام الله أو استقراء عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار. {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} واستجب دعائي أو وتقبل عبادتي.
{رَبَّنَا اغفر لِى وَلِوَالِدَىَّ} وقرئ {ولأبويّ}، وقد تقدم عذر استغفاره لهما. وقيل أراد بهما آدم وحواء. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} يثبت مستعار من القيام على الرجل كقولهم: قامت الحرب على ساق، أو يقوم إليه أهله فحذف المضاف أو أسند إليه قيامهم مجازًا.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به تثبيته على ما هو عليه من أنه تعالى مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة، أو لكل من توهم غفلته جهلًا بصفاته واغترارًا بإمهاله. وقيل إنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} يؤخر عذابهم وعن أبي عمرو بالنون. {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي تشخص فيه أبصارهم فلا تقر في أماكنها من هول ما ترى.
{مُهْطِعِينَ} أي مسرعين إلى الداعي، أو مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة وخوفًا، وأصل الكلمة هو الإِقبال على الشيء. {مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ} رافعيها. {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} بل تثبت عيونهم شاخصة لا تطرف، أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} خلاء أي خالية عن الفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه يقال للأحمق وللجبان قلبه هواء أي لا رأي فيه ولا قوة قال زهير:
من الظلمان جؤجؤه هواء

وقيل خالية عن الخير خاوية عن الحق. {وَأَنذِرِ الناس} يا محمد. {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يعني يوم القيامة، أو يوم الموت فإنه أول أيام عذابهم، وهو مفعول ثان ل {أُنذر}. {فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ} بالشرك والتكذيب. {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أخر العذاب عنا أو ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك. {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} جواب للأمر ونظيره {لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين} {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّنْ زَوَالٍ} على إرادة القول و{مَا لَكُمْ} جواب القسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية، والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت، ولعلهم أقسموا بطرًا وغرورًا أو دل عليه حالهم حيث بنوا شديدًا وأملوا بعيدًا. وقيل أقسموا أنهم لا ينتقلون إلى دار أخرى وأنهم إذا ماتوا لا يزالون على تلك الحالة إلى حالة أخرى كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} {وَسَكَنتُمْ في مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي كعاد وثمود، وأصل سكن أن يعدى بفي كقرَّ وغني وأقام، وقد يستعمل بمعنى التبوّء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار. {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم. {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.