فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} المستفرغ فيه جهدهم إبطال الحق وتقرير الباطل.
{وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالًا له. {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العظم والشدة. {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مسوى لإزالة الجبال. وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه. وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتًا وتمكنًا من آيات الله تعالى وشرائعه. وقرأ الكسائي {لَتَزُولَ} بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة، ومعناه تعظيم مكرهم. وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و{إن كاد مكرهم}.
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} مثل قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانًا بأنه لا يخلف الوعد أصلًا كقوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وإذا لم يخلف وعده أحدًا فكيف يخلف رسله. {إِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يماكر قادر لا يدافع. {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه.
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} بدل من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده. ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعده. {وَالسَّمَواتِ} عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل يكون في الذات كقولك: بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله: {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} وفي الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتمًا إذا أذبتها وغيرت شكلها، وعليه قوله: {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} والآية تحتملهما، فعن علي رضي الله تعالى عنه: تبدل أرضًا من فضة وسموات من ذهب، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي تلك الأرض وإنما تغير صفاتها. ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي» {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} اعلم أنه لا يلزم على الوجه الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضًا وسماء على الحقيقة، ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} وقوله: {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ} {وَبَرَزُواْ} من أجداثهم {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} لمحاسبته ومجازاته، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله: {لمنِ الملك اليوم للهِ الواحد القهار} فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.
{وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ} قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله: {وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلًا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم. {فِى الأصفاد} متعلق ب {مُقْرِنِينَ} أو حال من ضميره، والصفد القيد. وقيل الغل قال سلامة بن جندل:
وَزَيْدُ الخَيْل قَدْ لاَقَى صِفَادًا ** يَعضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمٍ سَاقَ

وأصله الشد.
{سَرَابِيلُهُم} قمصانهم. {مِّن قَطِرَانٍ} وجاء قطران لغتين فيه، وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإِبل الجربى فيحرق الجرب بحدته، وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه مع إسراع النار في جلودهم، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، ويحتمل أن يكون تمثيلًا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعًا من الغموم والآلام، وعن يعقوب {قطرآن} والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره، والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في {مُقْرِنِينَ}. {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِم} {لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ} أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة. {مَّا كَسَبَتْ} أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا بين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم، ويتعين ذلك أن علق اللام ب {بَرَزُواْ}. {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لأنه لا يشغله حساب عن حساب.
{هذا} إشارة إلى القرآن أو السورة أو ما فيه العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله} {بلاغ لّلنَّاسِ} كفاية لهم في الموعظة. {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} عطف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ، فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره: ولينذروا به أنزل أو تلي. وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدله.
{وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المبهة على ما يدل عليه {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب، تكميل الرسل للناس، واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)}.
التفسير: إن قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم يحتمل أن تكون مثالًا للكلمة الطيبة وأن تكون دعاء إلى التوحيد وإنكار لعبادة الأصنام، وأن تكون تعديدًا لبعض نعمه على عبيده فإن وجود الصالحين ولاسيما الأنبياء والمرسلين رحمة فيما بين العالمين كما قال: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا} [آل عمران: 164]. وذلك بدعاء إبراهيم ومن نسله صلى الله عليه وسلم نبينا صلى الله عليه وسلم. حكى الله سبحانه عنه طلب أمور منها: قوله: {رب اجعل هذا البلد آمنًا} وقد مر في البقرة الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك. ولا ريب أن في مكة مزيد أمن ببركة دعائه حتى إن الناس مع شدة العداوة بينهم كانوا يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضًا، وكان الخائف إذا التجأ بمكة أمن، وللوحوش هناك استئناس ليس في غيرها، وإنما قدم طلب الأمن على سائر المطالب لأنه لولاه لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من مهمات الدين والدنيا ومن هنا جاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه.
وسئل بعض الحكماء أن الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن دليله أن شاء لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل وإنها لو ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناول شيئًا إلى أن تموت، فدل ذلك على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الألم الحاصل للجسد. ومنها قوله: {واجنبني ونبيّ أن نعبد الأصنام} قال جار الله: أهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد. وأهل نجد: جنبني وأجنبني. وفائدة الطلب- والاجتناب حاصل- التثبت والإدامة ولا أقل من هضم النفس وإظهار الفقر والحاجة والتماس العصمة من الشرك الخفي. أما قوله: {وبني} فقيل: أراد بنيه من صلبه وأنهم ما عبدوا صنمًا ببركة دعائه. وقيل: أولاده وأولاد أولاده ممن كانوا موجودين حال دعوته. وقال مجاهد وابن عيينة: لم يبعد أحد من ولد إبراهيم صنمًا وهو التمثال المصور، وإنما عبدت العرب الأوثان يعني أحجارًا مخصوصة كانت لكل قوم زعموا أن البيت حجر فحيثما نصبنا حجرًا فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ولذلك استحب أن يقال: طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت. وضعف هذا الجواب بأنه إذا عبد غير الله فالوثن والصنم سيان، على أنه سبحانه وصف آلهتهم بما ينبىء عن كونهم مصورين كقوله: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف: 198] الآيات إلى قوله: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198]. وقيل: إن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله: {فمن تبعني فإنه مني} أي من أهلي فإنه يفهم منه أن من لم يتبعه في دينه فإنه ليس من أهله كقوله لابن نوح {إنه ليس من أهلك} [هود: 46] وقيل: إنه وإن عمم الدعاء إلا أنه أجيب في البعض كقوله: {ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]. قالت الأشاعرة: لو لم يكن الإيمان والكفر بخلق الله تعالى لم يكن لالتماس التبعيد عن الكفر معنى. وحمله المعتزلة على منح الألطاف.
أما قوله: {رب إنهن أضللن كثيرًا} فاتفقوا على أن نسبة الإضلال إليهن مجاز لأنهن جمادات فهو كقولهم فتنتهم الدنيا وغرتهم أي صارت سببًا للفتنة والاغترار بها {فمن تبعني} بقي على الملة الحنيفة {فإنه مني} أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} قال السدي: معناه ومن عصاني ثم تاب. وقيل: إن هذا الدعاء كان قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك. وقيل: المراد أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإسلام. وقيل: أراد أن يمهلهم حتى يتوبوا وقيل: ومن عصاني فيما دون الشرك فاستدل الأشاعرة بإطلاقه من غير اشتراط التوبة على أنه شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر، وإذا ثبت هذا في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثبت في حق نبينا بالطريق الأولى.
ثم أراد أن يعطف الله بدعائه قلوب الناس كلهم أو جلهم على إسماعيل ومن ولد منه بمكة وأن يرزقهم من الثمرات فمهد لذلك مقدمة فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي} أي بعضهم {بواد غير ذي زرع} أي لم يكن فيه شيء من زرع قط كقوله: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج} [الزمر: 28] أي لا اعوجاج فيه أصلًا ولم يوجد ذلك فيه في زمن من الأزمان. وقد سبق في سورة البقرة قصة مجيء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بإسماعيل وأمه هاجر إلى هنالك. وفي قوله: {عند بيتك الحرام} دليل على أنه دعا هذه الدعوة بعد بناء البيت لا في حين مجيئه بهما. ومعنى كون البيت محرمًا أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرمًا لأجل حرمته، وأنه لم يزل ممتنعًا عزيزًا يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب. وقيل: سمي محرمًا لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقًا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو حرم على المكلفين أن يقربوه بالدماء والأقذار، أو لأنه أمر الصائرون إليه يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل {ربنا ليقيموا الصلاة} أي ما أسكنتهم بهذا الوادي القفر إلا لإقامة الصلاة عند البيت وعمارته بالذكر والطواف. {فاجعل أفئدة من الناس} {من} للتبعيض أي أفئدة من أفئدة الناس. قال مجاهد. لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وعن سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجة اليهود والنصارى والمجوس ولكنه أراد أفئدة المسلمين. وجوز في الكشاف أن يكون {من} للابتداء كقولك القلب مني سقيم. وعلى هذا فإنما يحصل التبعيض من تنكير أفئدة فكأنه قيل: أفئدة ناس. ومعنى {تهوي} تسرع {إليهم} وتطير نحوهم شوقًا ونزاعًا. وقيل: تنحط وتنحدر. الأصمعي: هوى يهوي هويًا بفتح الهاء إذا سقط من علو إلى سفل وفي هذا الدعاء فائدتان: إحداهما ميل الناس إلى تلك البلدة للنسك والطاعة، والأخرى نقل الأقمشة إليه للتجارة، وفي ضمن ذلك تتسع معايشهم وتكثر أرزاقهم ومع ذلك قد صرح بها فقال: {وارزقهم من الثمرات} فلا جرم أجاب الله دعاءه فجعله حرامًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقيل: أراد أن يحصل حواليها القرى والمزارع والبساتين. ثم ختم الآية بقوله: {لعلهم يشركون} ليعلم أن المقصود الأصلي من منافع الدنيا وسعة الرزق هو التفرغ لأداء العبادات وإقامة والوظائف الشرعية.
ثم أثنى على الله سبحانه تمهيدًا لدعوة أخرى وتعريضًا ببقية الحاجات فقال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} على الإطلاق لأن الغيب والشهادة بالإضافة إلى العالم بالذات سيان.
وقيل: ما نخفي من الوجد بسبب الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء والدعاء، أو أراد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قال المفسررون: {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} من كلام الله عز وجل تصديقًا لإبراهيم، ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم. و{من} للاستغراق أي لا يخفى على الذين يستحق العبادة لذاته شيء ما في أيّ مكان يفرض. {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر} أي مع كبر السن وفي حال الشيخوخة {إسماعيل وإسحاق} ذكر أوّلًا كونه تعالى عالمًا بالضمائر والسرائر، ثم حمده على هذه الموهبة لأن المنة بهبة الولد في حال وقوع اليأس من الولادة أعظم لأنها تنتهي إلى حد الخوارق فكأنه رمز إلى أنه يطلب من الله سبحانه أن يبقيهما بعده ولهذا ختم الآية بقوله: {إن ربي لسيمع الدعاء} وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي مجيب الدعاء، أو إلى فاعلها بأن يجعل دعاء الله سميعًا على الإسناد المجازي، والمراد سماع الله تعالى، ويحتمل أن يكون قوله: {إن ربي لسميع الدعاء} رمزًا إلى ما كان قد دعا ربه وسأله الولد بقوله: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة. وقيل: إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة.
ثم ختم الأدعية بقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} أي مديمها {ومن ذريتي} أي واجعل بعض ذريتي كذلك لم يدع للكل لأنه علم بإعلام والله تعالى أنه يكون في ذريته كفار وذلك قوله سبحانه: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] {ربنا وتقبل دعائي} عن ابن عباس: أي عبادتي، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد {ربنا اغفر لي} طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين. أما قوله: {ولوالدي} فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام، وزيف بأن قوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} [الممتحنة: 4] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم، ولو كان استغفاره مشروطًا بإسلام أبيه لكان استغفارًا صحيحًا فلم يحتج إلى الاستثناء. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه {يوم يقوم الحساب} أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم قامت الحرب على ساقها أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسنادًا مجازيًا، أو المضاف محذوف مثل {واسأل القرية} [يوسف: 82]. ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد انجر إلى ذكر الحساب فقال: {ولا تحسبن الله غافلًا} إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالمًا بجميع المعلومات، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وعن ابن عيينة: تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. قالت: لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلًا عن الظلم أو عاجزًا عن الانتقام أو راضيًا بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} أي أبصارهم كقوله: {واشتعل الرأس} [مريم: 4] شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة {مهطعين} مسرعين قاله أبو عبيدة. والغالب من حال من يبقى بصره شاخصًا من شدة الخوف أن يبقى واقفًا، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء. وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع. وقيل: هو الساكت {مقنعي رؤوسهم} رافعيها وهذا أيضًا بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه لكيلا يراه {لا يرتد إليهم طرفهم} الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه. وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم. والمراد دوام الشخوص المذكور. وقيل: أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم {وأفئدتهم هواء} والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام. وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه، ويقال للأحمق أيضًا قلبه هواء. والمعنى. أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخوطر والأفكار لعظم ما نالهم، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب. والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله: {يوم يقوم الحساب} وقيل: هي عندما يتميز السعداء من الأشقياء. وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وعن ابن جريج: أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه. قال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره، أو للمعلوم وهو عذاب النار. ومعنى {أخرنا} أمهلنا {إلى} أمد وحد من الزمان {قريب} أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى {أو لم تكونوا} على إضمار القول أي فيقال لهم ذلك.