فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديدًا وأملوا بعيدًا، وإما بلسان المقال أشرًا وبطرًا وجهلًا وسفهًا. و{ما لكم من زوال} جواب القسم. ولو قيل ما لنا من زوال على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية. والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38].
ثم زادهم توبيخًا بقوله: {وسكنتم} استقررتم {في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم {وتبين لكم} بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان {كيف فعلنا بهم} من أصناف العقوبات {وضربنا لكم الأمثال} قال جار الله: أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. وقال غير: المراد ما أورد في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل. ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال: {وقد مكروا مكرهم} أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. وقيل: الضمير عائد إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} [الأنفال: 30] وقيل: أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتًا وربط قوائمه الأربع بأربع نسور، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصيًا أربعًا وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت. فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض. وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقدم عاقل على مثل هذا الخطر. {وعند الله مكرهم} إن كان مضافًا إلى الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك، وإن كان مضافًا إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون. أما قوله: {وإن كان مكرهم لتزول} من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان: أحدهما أن تكون {إن} مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معدًا لذلك. وثانيهما أن تكون {إن} نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر. ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة، والمعنى كما مر.
ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازيًا لأهل المكر على مكرهم بقوله: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} قال جار الله: قدم المفعول الثاني- وهو الوعد- على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق. ثم قال: {رسله} تنبيهًا على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته. والمراد بالوعد قوله: {إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51] {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] ونحوهما من اللآيات. قوله: {إن الله عزيز ذو انتقام} قد مر في أول آل عمران {يوم تبدل الأرض} قال الزجاج: انتصاب يوم على البدل من {يوم يأتيهم} أو على الظرف للانتقام. والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف. ومعنى قوله: {والسموات} أي وتبدل السموات قال أهل اللغة: التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير وفي الأوصاف كقولك بدلت الحلقة خاتمًا إذا أذبتها وسوّيتها خاتمًا فنقلتها من شكل إلى شكل. وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال: هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت، وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابًا. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا» وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها. نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم. وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي كرم الله وجهه: تبدل أرضًا من فضة وسموات من ذهب وعن الضحاك: أرضًا من فضة بيضاء كالصحائف. وقيل: لا يبعد أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة. {وبرزوا لله} قد ذكرناه في أول السورة. وتخصيص {الواحد القهار} بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه.
ومن نتائج قهره قوله: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين} قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم. قالت الحكماء: هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان. وقوله: {في الأصفاد} أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفًا مستقلًا أي مقرنين مصفدين. وقيل: الأصفاد الأغلال. والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء. {سرابيلهم} جمع سربال وهو القميص {من قطران} هو ما يتحلب أي يسيل من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب وسائر آثار الملكات الردية فيه.
ومن قرأ {من قطرآن} فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال ابن الأنباري: وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم {وتغشى وجوههم النار} خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل. قوله: {ليجزي} اللام متعلقة ب {تغشى} أو بجميع ما ذكر كأنه قيل: يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي {الله كل نفس ما كسبت} قال الواحدي: أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم. ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم. ثم أشار إلى القرآن إلى ما في السورة أو إلى ما مر من قوله: {ولا تحبسن الله غافلًا} إلى هاهنا فقال: {هذا بلاغ} كفاية {للناس} في التذكير والموعظة لينصحوا {ولينذروا به} بهذا البلاغ. ثم رمز إلى استكمال القوّة النظرية بقوله: {وليعلموا أنما هو إله واحد} وإلى استكمال القوة العملية بقوله: {وليذكر أولوا الألباب} لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ثم إنه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال: {ألم تر}، أي: تنظر، وفي المخاطب ما تقدّم {إلى الذين بدّلوا} والتبديل جعل الشيء مكان غيره {نعمة الله}، أي: التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد ومن جميع النعم الدنيوية وتيسير الرزق وغير ذلك بأن جعلوا مكان شكرها {كفرًا} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم هممًا في الوفاء وأبعدهم عن الجفاء {وأحلوا}، أي: أنزلوا {قومهم}، أي: الذين تابعوهم في الكفر بإضلالهم إياهم {دار البوار}، أي: الهلاك مع إدعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلًا عن الأهل. روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة، وقوله تعالى: {جهنم} عطف بيان {يصلونها}، أي: يدخلونها {وبئس القرار}، أي: المقر هي.
{وجعلوا لله}، أي: الذين يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا رزقهم؛ لأنّ له الكمال كله {أندادًا}، أي: شركاء، وقوله تعالى: {ليضلوا عن سبيله}، أي: دين الإسلام، فيه قراءتان: قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من ضلّ، يضلّ والباقون بضم الياء من أضل يضل، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل}، أي: تهديدًا لهم، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا {تمتعوا} بدنياكم قليلًا {فإن مصيركم}، أي: مرجعكم {إلى النار} في الآخرة، ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى: {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحببًا لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى: {الذين آمنوا}، أي: أوجدوا هذا الوصف {يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم} فيه وجهان: أحدهما: يصح أن يكون جوابًا بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا: أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني: يصح أن يكون هو أمرًا مقولًا محذوفًا منه اللام، أي: ليقيموا ليصح تعلق القول بهما، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله:
محمد تفد نفسك كل نفس ** إذا ما خفت من شيء تبالا

أي تبالى به، أي: تكثرت به لدلالة قل عليه: {سرًا وعلانية}، أي: ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.
تنبيه:
في انتصاب سرًّا وعلانية وجوه: أحدها: أن يكون على الحال، أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني: على الظرف، أي: وقت سر وعلانية. وثالثها: على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل: {من قبل أن يأتي يوم}، أي: عظيم جدًّا ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها {لا بيع فيه}، أي: فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه {ولا خلال}، أي: مخالة، أي: صداقة تنفع في ذلك اليوم.
قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}.
فإن قيل: كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}؟
أجيب: بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى. ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى: {الله}، أي: الملك الأعلى المحيط بكل شيء، ثم اتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل: أوّلها: قوله تعالى: {الذي خلق السموات} وثانيها: قوله تعالى: {والأرض} وهما أكبر خلقًا منكم وأعظم شأنًا. وثالثها قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم} تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس.
تنبيه:
الله مبتدأ، وخبره الذي خلق، ورزقًا مفعول لأخرج، ومن الثمرات بيان له حال منه، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقًا من السمو والارتفاع، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة، وفي غيرها، ورابعها قوله تعالى: {وسخر لكم الفلك}، أي: السفن {لتجري في البحر}، أي: بالركوب والحمل {بأمره}، أي: بمشيئته وإرادته، وخامسها: قوله تعالى: {وسخر لكم الأنهار}، أي: ذللها لكم تجرونها حيث شئتم؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى، وسادسها وسابعها: قوله تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين}، أي: جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها، والشمس سلطانها النهار، وبها تعرف فصول السنة، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها، والقمر سلطانه الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور، وكل ذلك بتسخير الله تعالى وإنعامه، وثامنها وتاسعها: قوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان فيكم بالضياء والظلمة، والزيادة والنقصان، وذلك من نعم الله تعالى على عباده حيث جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليبتغوا فيه من فضله. وعاشرها: قوله تعالى: {وآتاكم من كل ما سألتموه}، أي: مما أنتم محتاجون إليه على حسب مصالحكم، فأنتم سألتموه بالقوّة. ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما أنعم به على عباده بين أنّ العبد عاجز عن حصرها وعدّها بقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، أي: لا تحيطوا بها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال، وأمّا على التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. {إنّ الإنسان}، أي: الكافر، وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. {لظلوم}، أي: كثير الظلم لنفسه {كفار}، أي: كفور لنعم ربه، وقيل: ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع. فإن قيل: لم قال تعالى هنا: {إنّ الإنسان لظلوم كفار} وفي النحل: {إنّ الله لغفور رحيم}؟
أجيب: بأنه تعالى يقول للعبد: إذاحصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان، وهما كونك ظلومًا كفارًا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورًا رحيمًا، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلومًا فأنا غفور وإن كنت كفارًا فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن والعاقبة والرحمة. ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة لأن لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة، حكي عن إبراهيم عليه السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى: {وإذ}، أي: واذكر لهم مذكرًا بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب}، أي: المحسن إليّ بإجابة دعائي {اجعل هذا البلد}، أي: مكة {آمنًا}، أي: ذا أمن، وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرمًا لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل:، أي: فرق بين قوله: {اجعل هذا بلدًا آمنًا} وبين قوله: {اجعل هذا البلد آمنًا}؟
بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة، وهي الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنًا.
فإن قيل: كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها؟
أجيب: بجوابين: أحدهما: أنّ إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل: يرد على هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»؟
أجيب: بأنّ قوله تعالى: {اجعل هذا البلد}.
يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين، والجواب الثاني: أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف:82]، أي: أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله: {ويتخطف الناس من حولهم}.
وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها {واجنبني}، أي: بعدني {وبنيّ أن}، أي: عن أن {نعبد الأصنام}، أي: اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.