فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل؛ وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر. وحدود العقيدة أبعد كثيرًا من مجرد الاعتقاد الساكن.. إن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة.. وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام هي قضية عقيدة. كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة. فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم؛ كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء..
ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين، وقبل أن ندرك مدلولات: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله على هذا المستوى الواسع البعيد الآماد. وقبل أن نفهم مدلول: العبادة لله وحده؛ ونحدده بأنه الدينونة لله وحده؛ لا في لحظات الصلاة، ولكن في كل شأن من شؤون الحياة!
إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها، لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم، أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى، مجسمة في أحجار أو أشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو نار، أو أرواح أو أشباح..
إن هذه الصور الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للاصنام من دون الله. والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها؛ ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة!
ولابد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها؛ كما أنه لابد من التعمق في معنى الأصنام، وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة!
إن الشرك بالله المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده.
ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته، بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله، حتى تتحقق صورة الشرك وحقيقته.. وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة.. والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته.. إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده؛ ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر. بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشرائع من عند غير الله. ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات، من صنع غير الله. ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء مخالفة لشرع الله وأمره إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته؛ ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله في أخص حقيقتها.. وهذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخص وتميع، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان ومكان!
والأصنام.. ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصور الأولية الساذجة.. فالأصنام ليست سوى شعارات للطاغوت، يتخفى وراءها لتعبيد الناس باسمها، وضمان دينونتهم له من خلالها..
إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر.. إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها؛ يتمتم حولها بالتعاويذ والرقى.. ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير وتذليلها!
فإذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان، ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال.. فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها!
إذا رفعت القومية شعارًا، أو رفع الوطن شعارًا، أو رفع الشعب شعارًا، أو رفعت الطبقة شعارًا... ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله؛ وعلى التضحية لها بالنفوس والأموال والأخلاق والأعراض. بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعليماته مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها، نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعاليمه، ونفذت إرادة تلك الشعارات أو بالتعبير الصحيح الدقيق: إرادة الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله.. فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة؛ ولقد يكون الصنم مذهبًا أو شعارًا!
إن الإسلام لم يجئ لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية! ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة، من موكب الرسل الموصول؛ ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات والآلام، لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب!
إنما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن؛ وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة.
ولابد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة، وتقرير ما إذا كانت توحيدًا أم شركًا؟ دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام!
والذين يظنون أنفسهم في دين الله لأنهم يقولون بأفواهم نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدينون لله فعلًا في شؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث.. بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله؛ ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله وكثرتها مما يخالف مخالفة صريحة شريعة الله ثم هم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم أرادوا أم لم يريدوا ليحققوا ما تتطلبه منهم الأصنام الجديدة. فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام، نبذت أوامر الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام..
الذين يظنون أنفسهم مسلمين وفي دين الله وهذا حالهم.. عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه من الشرك العظيم!!!
إن دين الله ليس بهذا الهزال الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم مسلمين في مشارق الأرض ومغاربها! إن دين الله منهج شامل لجزيئات الحياة اليومية وتفصيلاتها. والدينونة لله وحده في كل تفصيل وكل جزئية من جزيئات الحياة اليومية وتفصيلاتها فضلًا على أصولها وكلياتها هي دين الله، وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه.
وإن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه؛ ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه..
وإن عبادة الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب؛ بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات!
ولينظر الناس في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ ولمن الطاعة والاتباع والامتثال؟ فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله. وإن كان لغير الله معه أو من دونه فهم في دين الطواغيت والأصنام.. والعياذ بالله..!
{هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وَلِيَذَّكَّرَ أولوا الألباب}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، وفي سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية إبراهيم بقوله: {ليذكر} وآية ص بقوله: {ليتذكر} بتاء التفعيل؟
والجواب، والله أعلم: أن كلا الموضعين حاصل فيه التناسب، أما آية ص ففي قوله: {ليدبروا} حرفان من الحروف الشديدة وهما الباء والدال وثانيهما مضعف فنسق عليهما قوله: {وليتذكر} وفيه أيضًا حرفان من حروف الشدة وهما الكاف والتاء وثانيهما مضعف، والتناسب بهذا واضح. وأما آية إبراهيم فورد فيها: {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا}، وقد عربت الكلمتان من حروف الشدة وإنما جميعها من الرخوة وهي ضد الشديدة، فناسبها عطفًاعليها قوله: {وليذكر} إذ ليس فيه من الحروف الشديدة غير الكاف، وأيضًا فإن يذكر ويتذكر معناهما واحد، والأصل للمدغم مفكوكة، فلفظ يذكر ثان عن يتذكر، وهو أكثر استعمالًا وأخف لفظًا، فقدم في سورة إبراهيم وأخر الأثقل في سورة ص على الترتيب المتقرر، على ما تقدم في قوله تعالى: {هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] في البقرة وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} [طه: 123] في سورة طه. وقد تقدم من هذا نظائر، وسيأتي أمثالها، واطراد ذلك شاهد برعيه، فحصل التناسب اللفظي من هذين الوجهين، وإن عكس الوارد لا يناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}.
أي لا تحسبنَّه يخلف رسله وعده؛ لأنه لا يخلف الوعد لصدقه في قوله، وله أن يعذبهم بما وعدهم لحقِّه في مُلْكِه، وهو {عَزِيزٌ} لا يصل إليه أحد، وإن كان وليًا. {ذُو انتِقَامٍ} لا يفوته أحد وإن كان (...).
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}.
لا يختلف عَيْنُها وإنما تختلف صورتها، وكذلك إذا انكدرت النجوم، وانشقت السماء يقال ما بدّل عينها وإنما بدَّل الأزمانَ والمكانَ على الناس باختلافهم أحوالهم في السرور والمحن؛ كَمَنْ صار من الرخاء إلى البلاء يقول: تغيَّر الزمانُ والوقتُ... وكذلك من صار من البلاء إلى الرخاء.
ويقال إن آدم لما قتل أحدُ ابنيه الآخرَ قال:
تغيرت البلادُ ومَنْ عليها ** فوجهُ الأرضِ مُعْبَرٌّ قبيحُ

وفي هذه القصة من كان صاحب بسطٍ فَرُدَّ إلى حال القبض، ومن كان صاحب أُنسٍ فصار صاحب حجاب- يصحُّ أنيقال بدل له الأرض، قال بعضهم:
ما الناس بالناس الذي عهدي بهم ** ولا البلاد بتلك التي كنت أعرفها

وكذلك العبد المريد إذا وقعت له وقفة أو فترة كانت الشمس له كاشفة، وكانت الأرض به راجفة، وكان النهار له ليلًا، وكان الليل له ويلا، وكما قيل:
فما كانت الدنيا بسهل ولا الضحا ** بِطَلْقٍ ولا ماءُ الحياة ببارد

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}.
الأصفاد الأغلال. الأصفاد تجمعهم، والسلاسل تقيدهم، والقطران سرابيلهم، والحميم شُرْبُهم، والنارُ محيطةٌ بهم.. وذلك جزاء مَنْ خَالَف إلهه.
{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}.
الحجج ظاهرة، والأمارات لائحة، والدواعي واضحة، والمهلة متسعة، والرسول عليه السلام مُبَلِّغ، والتمكين من القيام بحق التكليف مساعد. ولكنَّ القسمةَ سابقةٌ، والتوفيقَ عن القيام ممنوعٌ، والربُّ- سبحانه- فعَّالٌ لما يريد، فَمَنْ اعتبر نجا، ومن غفل تردَّى. ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

باب أين يكون الناس؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات:
مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد وذكر الحديث وفيه فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر الحديث بطوله وسيأتي.
وخرج مسلم أيضًا وابن ماجه جميعًا قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط.
وأخرجه الترمذي قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن داود بن هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: يا رسول الله والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال: على الصراط يا عائشة قال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري. حدثتني عائشة أنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} قال: فقلت: فأين الناس يا رسول الله؟ قال: على جسر جهنم قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
فصل:
هذه الأحاديث نص في أن الأرض والسموات تبدل وتزال ويخلق الله أرضًا أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط. لا كما قال كثير من الناس أن تبدل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها ومد أرضها، ورواه ابن مسعود رضي الله عنه. خرجه ابن ماجه وسيأتي ذكره في الاشتراط إن شاء الله.
وذكر ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال: حدثني ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها كذا وكذا وذكر الحديث. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم ذكره الثعلبي في تفسيره.
وروى علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه ذكره الماوردي، وما بدأنا بذكره أصح لأنه نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قائل: إن بدل في كلام العرب معناه: تغيير الشيء، ومنه قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} وقال: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم}، ولا يقتضي هذا إزالة العين وإنما معناه تغيير الصفة. ولو كان المعنى لإزالة لقال يوم تبدل الأرض مخففًا من أبدلت الشيء إذا أزالت عنه وشخصه قيل له: ما ذكرته صحيح، ولكن قد قرئ قوله عزو جل {عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها} مخففًا ومثقلًا بمعنى واحد. قال: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا} وقال: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وكذا ذكر تاج اللغة أبو نصر الجوهري في الصحاح، وأبدلت الشيء بغيره وبدله الله من الخوف أمنًا وتبديل الشيء أيضًا تغييره، فقد دل القرآن وكلام العرب على أن بدل وأبدل بمعنى واحد، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم أحد المعنيين، فهو أعلى ولا كلام معه.
قال ابن عباس وابن مسعود: تبدل الأرض أرضًا بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة قط. وقال ابن مسعود أيضًا تبدل الأرض نارًا والجنة من ورائها يرى أكوابها وكواعبها. وقال أبو الجلد حيان بن فروة: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشعل نارًا يوم القيامة. وقال علي رضي الله عنه: تبدل الأرض فضة، والسماء ذهبًا، وقال جابر: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة. ثم قرأ {وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام} وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.
قلت: وهذا المعنى الذي قاله سعيد بن جبير ومحمد بن كعب مروي في الصحيح وسيأتي. وإليه ذهب ابن برحان في كتاب الإرشاد له. وأن المؤمن يطعم يومئذ من بين رجليه ويشرب من الحوض، فهذه أقوال الصحابة والتابعين دالة على ما ذكرنا.
وأما تبديل السماء فقيل تكوير شمسها وقمرها وتناثر نجومها. قاله ابن عباس وقيل: اختلاف أحوالها قتارة كالمهل، وتارة كالدهان. حكاه ابن الأنباري. وقال كعب: تصير السماء دخانًا، وتصير البحار نيرانًا، وقيل تبديلها: أن تطوي كطي السجل للكتاب، وذكر أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن حيدرة في كتاب الإفصاح له: أنه لا يعارض بين هذه الآثار، وأن الأرض والسماوات تبدل كرتين إحداهما هذه الأولى وأنه سبحانه يغير صفاتها قبل نفخة الصعق فتنتثر أولًا كواكبها، وتكسف شمسها وقمرها وتصير كالمهل، ثم تكشط عن رؤوسهم، ثم تسير الجبال ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيرانًا، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر فتصير الهيئة غير الهيئة، والبنية غير البنية، ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء ودحيت الأرض، وبدلت السماء سماء أخرى، وهو قوله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} وبدلت الأرض: تمد مد الأديم العكاظي. وأعيدت كما كانت فيها القبور. والبشر على ظهرها وفي بطنها. وتبدل أيضًا تبديلًا ثانيًا. وذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها الساهرة يجلسون عليه وهو أرض عفراء وهي البيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام قط، ولا جرى عليه ظلم قط، وحينئذ يقوم الناس على الصراط، وهو لا يسع جميع الخلائق وإن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعودًا وألف سنة هبوطًا وألف سنة استواء، ولكن الخلق أكثر من ذلك فيقوم من فضل على الصراط، على متن جهنم، وهي كإهالة جامدة وهي الأرض التي قال عبد الله إنها أرض من نار يعرق فيها البشر، فإذا حوسب عليها أعين الأرض المسماة بالساهرة وجاوزوا الصراط وجعل أهل الجنان من وراء الصراط، وأهل النيران في النار وقام الناس على حياض الأنبياء يشربون بدلت الأرض كقرصة النقي، فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي قرصًا واحدًا يأكل منه جميع الخلق ممن دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور في الجنة وزيادة كبد النون على ما يأتى. اهـ.