فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويُطلقُ على ما يُحَصَّنُ في الحَرْب، من الدِّرْع وشبهِه، قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81].
والقَطِران: ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به. وفيه لغاتٌ: قَطِران بفتح القاف وكسر الطاء، وهي قراءةُ العامَّة. وقَطْران بزنة سَكْران وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقال أبو النجم:
لَبَّسَه القَطْرانَ والمُسُوحَا

وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء بزنة سِرْحان، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت.
وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن {بَقَطِرٍ} بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء، {آنٍ} بوزن عانٍ، جعلوهما كلمتين والقَطِر: النحاس، والآني: اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني، أي: تناهى في الحرارةِ كقوله: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]، وعن عمرَ رضي الله عنه ليس بالقَطْران، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه.
وقرئ: {وتَغَشَّى} بتشديدِ الشينِ، أي: وتَتَغشَّى، فحذف إحدى التاءين.
وقُرِئ برفعِ {وجوهُهم} ونصبِ {النار} على سبيلِ المجاز، جَعَلَ ورودَ الوجوهِ النارَ غِشْيانًا.
والجملةُ من قوله: {وتَغْشى} قال أبو البقاء: حالٌ أيضًا، يعني أنها معطوفةٌ على الحال، ولا يَعْني أنها حالٌ، والواوُ للحال؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ}: في هذه الآيةِ وجهان. أولاهما: أن يتعلَّق ب {بَرَزُوا}، وعلى هذا فقوله: {وَتَرَى} جملةٌ معترضةٌ بين المتعلِّق والمتعلِّق به. والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: فَعَلْنا بالمجرمين ذلك ليَجْزي كلَّ نفس؛ لأنه إذا عاقب المجرمَ أثاب الطائعَ.
{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}.
وقوله تعالى: {هذا} إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ} [إبراهيم: 47] إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن نُزِّل مَنْزِلةَ الحاضر.
قوله: {وَلِيُنْذَروا} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: وليُنْذِرُوا به أَنْزَلْنا عليك.
الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، ذلك المحذوفُ متعلقٌ ب {بلاغ}، تقديره: ليُنْصَحوا ولِيُنْذَروا. الثالث: أن الواوَ مزيدةٌ و{لِيُنْذَروا} متعلقٌ ب {بلاغ}، وهو رأيُ الأخفش، نقله الماوردي. الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليُبَلَّغُوا ولِيُنْذَرُوا. الخامس: أن اللامَ لامُ الأمر. قال بعضُهم: وهو حسنٌ لولا قوله: {ولِيَذَّكَّر} فإنه منصوبٌ فقط. قلت: لا محذورَ في ذلك فإنَّ قوله: {ولِيَذَّكَّرَ} ليس معطوفًا على ما تقدَّمه، بل متعلِّقٌ بفعلٍ مقدر، أي: ولِيَذَّكَّر أَنْزَلْناه وأَوْحيناه. السادس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. التقدير: هذا بلاغٌ وهو ليذَّكَّر، قاله ابن عطية. السابع: أنه عطفُ مفردٍ على مفردٍ، أي: هذا بلاغٌ وإنذار، قاله المبرد، وهو تفسيرُ معنى لا إعرابٍ.
الثامن: أنه معطوفٌ على قوله: {لِتُخْرِجَ الناس} [إبراهيم: 1] في أولِ السورة. وهذا غريبٌ جدًا. التاسع: قاله أبو البقاء: المعنى: هذا بلاغٌ للناسِ وللإِنذار، فتعلَّق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جَعَلْتَ الناس صفةً، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: ولِيُنْذَروا به أُنْزِل وتُلِي. قلت: فيؤدي التقدير إلى أَنْ يَبْقى التركيبُ: هذا بلاغٌ للإِنذار، والإِنذارُ لا يتأتَّى فيه ذلك.
وقرأ العامَّة: {لِيُنْذَرُوا} مبنيًا للمفعول، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس: {ولِتُنْذِرُوا} بتاءٍ مضمومة وكسرِ الذال، كأنَّ البلاغَ للعموم والإِنذار للمخاطبين.
وقرأ يحيى بن عُمارة الذارع عن أبيه، وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي. {ولِيُنْذَرُوا} بفتح الياء والذال مِنْ نَذَر بالشيء، أي: عَلِم به فاستعدَّ له، قالوا: ولم يُعرف له مصدرٌ فهو كَعَسَى وغيرِها من الأفعالِ التي لا مصادرَ لها. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {وإذ قال إبراهيم} الروح {رب اجعل} بلد القلب {آمنًا} من وسوسة الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى {واجنبني وبني} هم الفؤاد والسر والخفى {أن نعبد الأصنام} وهو كل ما سوى الله. فصنم النفس الدنيا، وصنم القلب العقبى، وصنم الروح الدرجات العلى، وصنم السر العرفان والقربات، وصنم الخفى الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات {ومن عصاني فإنك غفور} فيه نكتتان: إحداهما لم يقل ومن عصاك إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة، والثانية لم يقل فأنا أغفره وأرحم عليه لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق {أسكنت من ذريتي} هم صفات الروح والعقل والسر والخفى {بواد غير ذي زرع} وهو وادي النفس {عند بيتك المحرم} على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتًا لغير الله لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن.
وفيه أنه توسل في أجابة الدعاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكأنه قال: إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمدًا. وفي قوله: {ليقيموا الصلاة} إشارة إلى أنه لولا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية، وأنه لولا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق {فاجعل أفئدة} الفات الناسوتية {تهوي} إلى الصفات الروحانية {وارزقهم من} ثمرات الصفات اللاهوتية {لعلهم يشكرون} هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إنشاؤه {ربنا إنك تعلم ما نخفي} من حقائق الدعاء {وما نعلن} من ظاهر القصة {وما يخفى على الله من شيء} في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب {على الكبر} أي بعد تعلق الروح بالقالب {إسماعيل} السر {وإسحاق} الخفي {مقيم الصلاة} دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن {ربنا اغفر لي} استرني وامنحني بصفة معرفتك {ولوالدي} من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجبوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين. {ولا تحسبن} أي لم يكن {الله غافلًا} في الأزل بل الكل بقضائه وقدره {وإنما يؤخرهم} ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم {ما لكم من زوال} فيه من إبطال مذهب التناسخية. زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا} تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة {وعند الله} مقدار {مكرهم وإن كان مكرهم} بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه {يوم تبدل} أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار القلوب، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها، بل تبدل أرض الوجود المجازي عن إشراق تجلي أنوار هويته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال: {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] وحينئذ {برزوا لله الواحد القهار} فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية. {وترى المجرمين} يوم التجلي {مقرنين} في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله. {سرابيلهم من قطران} المعاصي وظلمات النفوس فهم محجوبون بهما عن الله: {وتغشى وجوههم} نار الحسرة والقطيعة {هذا بلاغ للناس} الذين نسوا عالم الوحدة {وليذروا به} قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع {وليعلموا أنما هو إله واحد} فيعبدوه ولا يتخذوا إلهًا غيره من الدنيا والهوى والشيطان {وليذكر أولوا الألباب} علام الشهود فيخرجوا من قشر الوجود، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا}.
قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنًا من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] من المغوبات الدنية والمشتهيات الحسية.
وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنًا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان ضمنه فاستعاذ من ذلك.
وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبنى أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس نَّعْبُدَ الاصنام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى} في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك {فَإِنَّهُ مِنّى} طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي {وَمَنْ عَصَانِى} وفعل ما يقتضي الحجاب عنك {فإنك غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك.
قيل: إن هذا منه عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بإفاضة الكمال عليه بعد المغفرة.
ومن كلام نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله: {وَمَنْ عَصَانِى} إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: ومن عصاك ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة الأوربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عز وجل وأجله من أن يثبت أن أحدًا يجترىء على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال: {فمن تبعني} {ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلى خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عز وجل، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وايوائهم إلى جوار كرامته {ربنا ليقيموا الصلاة} التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} تميل بوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطاع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لم قطع أهله عن الخلق والأسباب قال: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ وارزقهم مّنَ الثمرات} قيل: أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة.
وقال الواسطي: ثمرات القلوب وهو أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وتمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الاشجار تزيل أمراض النفوس.
وقيل: أي أرزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم المعنى له بقوله: {ربنا وابعث فيهم رسولًا} [البقرة: 129] وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الوجود.
ونور حديقة الكرم واجلود.
ونور حدقة كل موجود صلى الله عليه وسلم عليه إلى اليوم المشهود {ربنا انك تعلم ما نخفي وما نعلن} قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك.
وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب، وقيل: ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك، وأيضًا ما نخفى من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك، وأيضًا ما نخفى من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات:
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دمائهم ** وكذا دماء البائحين تباح

وإن همو كتموا تحدث عنهم ** عند الوشاة المدمع السحاح

وقال السيد على البندنيجي قدس سره:
كتمت هوى حبيه خوف إذاعة ** فلله كم صب أضربه الذيع

ولكن بدت آثاره من تأوهى ** إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع

{وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء في الأرض وَلاَ في السماء} [إبراهيم: 38] فيعلم ما خفى وما علن {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] قيل: الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعمًا أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجي بحر الفناء، توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب:
إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكى ممن تباكى

وقوله سبحانه: {مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} [إبراهيم: 43] شرح لأحوال أصحاب الأبصار الشاخصة وهم سكارى المبحة على الحقيقة، قال ابن عطاء في: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} هذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ} [إبراهيم: 44] الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه.
وقيل: الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة، وقيل: تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب، وسماء القلب بسماء السر، وكذا تبدل أرض النفس بارض القلب، وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات.
{وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد} [إبراهيم: 49] بسلاسل السهوات {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} وهو قطران أعمالهم النتنة {وتغشى} تستر {وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الارباب.
{هذا بلاغ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [إبراهيم: 52] وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه. اهـ.