فصل: مطلب استراق السمع والرمي بالنجوم وماهية الأرض وأن كل ما فيها له وزن خاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة والعشرون سعد بلع على وزن زفر وهو كوكبان على كف ساكب الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع، وبقرب مقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه، فلهذا سمي به.
وقيل هو كوكبان مستويان في المجرة أحدهما خفي والآخر مضيء يطلعان في آخر ليلة من كانون الثاني ويسقطان بأول ليلة من آب.
وسمي بلع لأنه حين يرى أحدهما كأنه يبلع الآخر، وجاء في القاموس أنهما طلعا حين قال اللّه: {يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ}، ولهذا تقول العامة إن الأمطار فيه لا تمكث على سطح الأرض والقمر يقارب اجنبيهما ولا يكسفه.
الرابعة والعشرون سعد السعود وهو كوكبان وقيل ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجبنهما من القدر الخامس على طرف ذنب الجنوبي والقمر يقرب منه وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في قول آخر من كواكب القوس، وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيش الناس ومواشيهم.
الخامس والعشرون سعد الأخبية وهي أربعة كواكب من القدر الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا، والرابع وسطه وهو السعد والثلاثة خباؤه، ولذلك سمي بذلك، وقيل لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج فيه من الهوام ما كان مخبأ والقمر يقاربها من ناحية الجنوب وما قيل إنه عبارة عن كواكب مستديره فيه تسامح، قال في القاموس سعود النجوم عشرة الأربعة المذكورة في منازل القمر وسنة ليست بمنازل وهي سعد ناشرة وسعد الملك وسعد العليم وسعد الغمام وسعد البارح وسعد مطر، وكل منها كوكبان بينهما نحو ذراع.
السادسة والعشرون فرع الدلو المقدم، ويقال الأعلى، وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبيهما على متن الفرس الأكبر المجتح، أي ذي الجناحين، وأشملهما على منكبه، والقمر يمرّ بالبعيد منها.
السابعة والعشرون فرع الدلو المؤخر ويسمى الأسفل وهو كوكبان نيّران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبيهما على جناح الفرس وأشمليهما مشترك بين سرّته ورأس السلسلة شبهت العرب هذه النجوم الأربعة فيهما بقرع الدلو بفتح الفاء وسكون الراء وهو مصب الماء منه لكثرة الأمطار فيهما.
الثامنة والعشرون بطن الحوت وتسمى الرشا بكسر الراء أي رشا الدلو وهو حبله، ويقال له قلب الحوت أيضا، وهو كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة، يحاذي القمر ولا يقاربه، وسمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها في العرب في سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من السلسلة وبعضها من إحدى سكن الحوت.
هذا وإن الأربعة عشر الأولى أي من الشرطين إلى السماك تسمى شامية، الأربعة عشر الأخيرة من الغفر إلى بطن الحوت تسمى يمانية والسنّة القمرية عبارة عن اجتماع القمر مع الشمس اثنى عشر مرة، ويتم زمانها في ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، ولا يوجد شهر أقل من تسعة وعشرين يوما ولا أكثر من ثلاثين، ولا سنة أقل مما ذكر أعلاه ولا أكثر من ثلاثمائة وخمس وخمسين يوما.
ولما ذكر اللّه تعالى حال منكري النبوة وكانت متفرعة على التوحيد وقال جلّ شأنه لو رأوا الآية المطلوبة من السماء لما آمنوا ولبقوا مصرين على كفرهم عقب ذلك بذكر الدلائل السماوية والأرضية، فقال وأن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه، فقال {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجًا} هي عبارة عن أجزاء الفلك الأعظم المحدد المسمى بالفلك الأطلس وفلك الأفلاك وسماه الشيخ الأكبر قدس سره فلك البروج ويسمونه الفلك الثامن وفلك التوايت.
قال تعالى: {وَزَيَّنَّاها} أي السماء بالشمس والقمر والميزان والثريا والكواكب السبعة والمحيرة وغيرها زينة بديعة {لِلنَّاظِرِينَ} حديدي النظر في ملكوت اللّه يستدلون بها على قدرة مكونها ليؤمنوا بخالقها ويرشدوا أقوامهم إلى الإسلام والإيمان {وَحَفِظْناها} أي النجوم، وإنما أعيد الضمير إلى السماء لكون النجوم فيها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه، فالسماء المحل والنجوم حالة فيها {مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ} مرجوم بالشهب ملعون مطرود عنها، كما هو مطرود من رحمة اللّه {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} منها استثناء منقطع أي الذي يقع منه الاستراق يعرض نفسه للهلاك.

.مطلب استراق السمع والرمي بالنجوم وماهية الأرض وأن كل ما فيها له وزن خاص:

لأنه إذا تصدى ذلك فيتبعه ما يحرقه وجاء بالماضي {فَأَتْبَعَهُ}... {شِهابٌ مُبِينٌ} أو شعلة ساطعة من نار سمي الكوكب شهابا لما فيه من البريق كشهاب النار.
واعلم أن قوله تعالى: {وزيّناها} يعود إلى السماء باعتبار أل فيها للجنس فتشتمل السموات السبع، لأن الكواكب ليست بسماء الدنيا فقط بل فيها كلها يدل على هذا قوله:
زحل شرى مرّيخه من ** شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار

لأن زحل في السابعة والقمر في الأولى والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والزهرة في الثالثة وعطارد في الثانية، وكل منها معها نجوم لا تعد ولا تحصى، وإن قالوا إنهم أحصوها، وأن قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ} بالنسبة لما يبدو لنا وإلا فالتزيين لكل السموات، والمراد بحفظها من الشياطين عدم قربانهم لها كما يحفظ الإنسان داره من العيون والجواسيس، وإلا فهي محفوظة بحفظ اللّه لا قدرة للشيطان على هدمها وإفساد ما فيها وإنما يحفظها من استراقهم ما يقع فيها من الكلام الذي تتلقاه الملائكة من رب العزّة، وما يأتي عليك الآن روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إذا قضى اللّه الأمر في السما حتى ضربت الملائكة أجنحتها خفقانا لقوله كالسلسلة على صفوان إذا فزّع عن قلوبهم {قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا} للذي قال {قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض.
ووصف سفيان بكفيه فحدقهما ومدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال له أليس قد قال لنا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
قال ابن عباس لما ولد عيسى عليه السلام منعت الشياطين من ثلاث سموات، ثم منعوا من الكل عند ولادة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، والرمي بالنجوم كان موجودا قبل مبعثه وإنما زاد وشدد بعده.
وقد جاء له ذكر في الشعر الجاهلي قال بشر بن أبي خازم:
فالعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفها انقضاض الكواكب

وقال أويس بن حجر الجاهلي:
فانقض كالدرّي يتبعه ** نقع يثور تخاله طينا

بما يدل على أن الانقضاض لم يكن قبل بمجرد كوفه غير جاهلي، وإذ كنا {مَدَدْناها} على وجه الماء أو بسطناها بالنسبة لما نراه، لأن النّملة إذا مشت على البيضة تحسبها مفروشة ممهدة مبسوطة وقال أهل الهيئة بعضها في الماء وبعضها خارج عنه وهو الجزء المعمور، ولعظمها يكون بالنظر كل جزء منها ممدودا مبسوطا، ولا منافاة بين الآية على ما قاله المفسرون وبين قولهم هذا من حيث المعنى كما ذكرنا، لأن الكرة إذا كانت عظيمة كان كل جزء منها سطحا عظيما بالنسبة لمن فوقه {وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ} أراد وهو أعلم بالرواسي الجبال العظام الثوابت حيث ثقلها بها لئلا تتحرك قال تعالى في الآية 16 من سورة النمل الآتية: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} والآية 22 من سورة الأنبياء الآتية أيضا بمعناها مما يدل على أنها طائفة والقرآن يفسر بعضه فلولا تثقيلها بالجبال لبقيت مضطربة لا يستفاد منها قال ابن عباس أن اللّه لما بسط الأرض على الماء ما لت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وما قاله الإمام الرازي في أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تحيد الناس عن الجادة المستقيمة، ولا يقعون في الضلال، لا يسوغ الذهاب إليه، لأن الأخبار تأباه، وكان هو رحمه اللّه لم يرض به لتصدير قوله بيجوز، لأن العالم إذا تردد في شيء صدره بكلمة يجوز إعلاما بعدم تحققه لديه لعدم العثور على مايجزم به فيه {وَأَنْبَتْنا فِيها} أي الأرض بما فيها الجبال لأنها منها، وإن أحسن النبات يكون فيها فضلا عن أن أكثر المعادن تكون فيها، وقد يوجد فيها ما لا يوجد في غيرها، كيف لا وهي مخازن المياه، لهذا فإن من قصر عود الضمير على الأرض فقد قصر كما أن تخصيص عود الضمير للجبال فقط غير جائز، ولهذا فإن عود الضمير لكليهما أولى وأوفى بالمرام {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} بميزان الحكمة معلوم القدر والثقل، فكل ما ينبت أو يكون في الأرض والجبال والأودية له وزن خاص به سواء كان نباتا أو معدنا، لأن المعادن كلها موزونة، ولا يقال إن موزون لا يعود إلى النبات، لأن النبات لا بوزن بل يعود إليه أيضا، ولأن ما يحصل من النبات منه ما هو موزون، وفيه ما هو مكيل والكيل يرجع إلى الوزن.
واعلم أن هذه الآية تشير إلى ما يسميه علماء هذا العصر بالثقل النوعي، فالإخبار به في عصر نزول القرآن من المعجزات العظام إذ لا يوجد من يعرف إذ ذاك ممن عاصر حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم في مكة وحواليها بأن كل شيء يخرج من الأرض والجبال والأودية مائع أو جامد له ثقل مختص به لا يشاركه غيره فيه، فثقل الذهب النوعي [5/ 19] والفضة [5/ 10] والنكل [28/ 9] والزئبق [59/ 12] والراديوم الذي عنصره مثل عنصر الزئبق يشبه ملح الطعام، ولا يوجد منه في العالم كله {كما يزعمون} إلا بضع أوقيات، وقد اهتم العلماء به لأنه يشع حرارة وضوءا لا ينطفىء ولا يبرد مهما مضى عليه من السنين، فكأنه شمس تحتوي على كمية كبيرة منه، ويستخرج من مادة تدعى بنسيلند توجد في مناجم الرصاص والفضة والقصدير، وهلم جرا في بقية الأجسام والمائعات المختلفة في الوزن كما هي مختلفة بالنوع والصفة، وهذا برهان قاطع على علائم نبوته صلّى اللّه عليه وسلم وكما يطلق لفظ موزون على ذلك يطلق على الكلام المتناسب.
قال عمرو بن ربيعة في هذا:
وحديث النوى وهو مما ** تشتهيه النفوس بوزن وزنا

وأبواب الشعر لها أوزان مخصوصة أبلغوها إلى ستة عشر عدا الرجز كما هو مبين في علم العروض {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ} تنمون بها حياتكم {وَمَنْ} ولمن على تقدير الجار، لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، وعليه فلا يكون محل من مجرورا بالعطف على الكاف من لكم فيكون المعنى ومعايش لمن {لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور والحيتان والوحوش والديدان وغيرها.

.مطلب كل شيء من عند اللّه وبسط الرزق وقبضه لحكمة أرادها ومعنى الريح والرياح:

فإن اللّه تعالى يرزق خلقه كافة، وأنتم تنتفعون من مخلوقاته تلك من غير أن ترزقوها، لأن اللّه يرزقكم وإياها، فلا تظنوا أنكم الرازقون لها ولما خولكم منها.
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} من كل ما يطلق عليه لفظ شيء وتخصيص بعض المفسرين كلمة شيء هنا بالمطر تحكم وتقيبد لا معنى لهما، أي لا يوجد في الكون شيء {إِلَّا عِنْدَنا} نحن إله الكل وخالق الكون بما فيه ورازقه {خَزائِنُهُ} من كل ما يحتاجه البشر والحيوان والطير والحوت والدود وهو جمع خزانة بكسر الخاء، ومن نوادر ما قالوا لا تفتح الخزانة ولا تكسر القصعة وهي اسم للمكان والمحل الذي يحفظ فيه نفائس الأموال والحلي {وَما نُنَزِّلُهُ} من تلك الخزائن الموجودة في علمنا {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} معين لكل شيء مما خلقناه لكل منها ما يناسبها بقدر كفايته حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة وتريده المشيئة مع إمكان إنزال ما يزيد على الحاجة، لأن خزائنه تعالى لا تنفد وإمكان ما ينقص عن الحاجة لأمر يريده.
هذا وان ما يرى من كثرة الرزق عند بعض الناس فهو عبارة عن حفظه لديهم لغيرهم، لأنهم لا يرزقون منه إلا بقدر ما قدر لهم منه مما تستوجبه المصلحة، وما يرى من قلته على أناس فهو أيضا بتقديره تعالى لأمر يريده بهم، لأنه يعلم أنه لو نقص على الأول وزاد للآخر لضرّ بهما، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ}، وكذلك لو قتّر على بعض عباده لبغى بعضهم على بعض، فقد جاء في الحديث القدسي: ومنهم من إن أعنيته لبغى، ومنهم من إن أفقرته لكفر.
ولهذا فإنه تعالى يعطي كلا ما يناسبه كي لا يبغي الفقير ولا يكفر الغني المترتب على الحكمة فقرهم وغناهم، وما قيل إن المراد بالخزائن هنا المطر لأنه سبب الأرزاق لجميع المخلوقات ينفيه لفظ الآية، والمطر داخل فيه لأنه مما يحتاجه الخلق، وقد ضرب اللّه الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور، وتطلق الخزانة على الصّندوق الحديدي الذي يخزن فيه الذهب والفضة وغيرها، وعلى الخزانة الخشبية التي تحفظ فيها الألبسة وغيرها، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} حوامل بالسحاب ضد العقيمة لأنها تحمل السحاب في جوفها من بخار الماء ثم تدرّه كما تدر اللقحة ثم تمطر، وهو معنى قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} بأن جعلناه لكم ولأنعامكم وأراضيكم، ويدخل فيه جميع مخلوقاته سقيا من نتاج الرياح المذكورة {وَما أَنْتُمْ لَهُ} لهذا الماء أيها الناس {بِخازِنِينَ} في ذلك الفضاء الواسع بل نحن نخزنه فيه ونمنعه من الهبوط إلا على المكان الذي نريده، وفي الزمان الذي نشاؤه، وبالقدر الذي خصصناه، ولولا إمساك اللّه إياه لهبط كما ارتفع، لأن الماء ثقيل ومن طبع الثقيل الهبوط إلى الأسفل، وهذا هو معنى خزنه وادخاره لوقت الحاجة، وهذا من معجزات القرآن العظيم، لأنه يوم نزوله ما كان بشر يعلم أن الرياح تهب حبالى من بخار المياه، وتلد السحاب في جو السماء، وتسقينا من نتاجها الذي تخزنه يد القدرة الإلهية.
قال ابن عباس: لواقح للثمر والنبات، فتكون كالفحل.
ولم يأت لفظ الرياح في القرآن إلا في الخير، ولا لفظ الريح إلا في الشر حالة الإطلاق، ولكن إذا قيدت تتبع قيدها، قال تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به»
وروى البغوي بسنده إلى الشافعي أن ابن عباس رضي اللّه عنهم قال: «ما هبت ريح قط إلا جنى النبي صلّى اللّه عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها ريحا ولا تجعلها ريحا»
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}، وقال جل قوله: {أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}.
وقال عزّ قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، والرياح اللواقح هي ريح الجنوب لما جاء في بعض الأخبار ما هبت رياح الجنوب إلا وانبعت عينا غدقة، وأخرج بن جرير عن عبيد بن عمير قال: يبعث اللّه تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّا ثم يبعث المثيرة فتنثر السحاب فيجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي} الأجسام القابلة للحياة بإيجاد الحياة فيها {وَنُمِيتُ} من نحييه عند انقضاء أجله المقدر له بإزالة تلك الحياة التي جعلناها فيه فالحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة الإرادية، والموت زوال تلك الصفات المادية عنها {وَنَحْنُ الْوارِثُونَ} لما نخلق، الباقون بعد فناء ما نخلق قاطبة، المالكون للملك الحقيقي عند زوال الملك المجازي الذي هو في قبضتنا أيضا لأنا نحن الحاكمون في الكل أولا وآخرا.
وتفسير الوارث بالباقي نصا على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا لأن الذهن يصرف معنى الوارث للمتأخر من المتقدم واللّه تعالى هو الأول والآخر قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ} ولادة وموتا {مِنْكُمْ} أيها المخلوقون {وَلَقَدْ عَلِمْنَا} أيضا {الْمُسْتَأْخِرِينَ به} كذلك إلى النهاية من جميع مخلوقاتنا النامية والجامدة، ونعلم أيضا طائعهم وعاصيهم لا يخفى علينا شيء من أمرهم، والآية عامة، فما روي عن حمزة أنها نزلت في القتال قول لا يصح، لأن الجهاد لم يفرض بعد، وكذلك ما قاله الربيع أنس من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حرّض على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه، وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد، فقالوا نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل اللّه هذه الآية، لا يصح أيضا، لأن هذه الآية مكية قولا واحدا، وليس في مكة إذ ذاك إلا الكعبة المشرفة، والمسجد لم يتخذ إلا في المدينة، وكذلك القتال للكفرة لم يؤمر به إلا بالمدينة.
هذا وأن ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه من أنه كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون بالصف الأول لئلا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت أبطيه، فأنزل اللّه هذه الآية لا يصح أيضا للسبب نفسه، وأن شمولها لما يتعلق بالجهاد وصفوف الصلاة وغيرها بعد نزولها لا يعني أنها سبب للنزول البتة، لأن اللفظ عام ولا يوجد ما يقيده من شيء، ولم يسبق ذكر للجهاد والصلاة، والعبرة دائما لعموم اللفظ إذا كان هناك سبب، فلأن تكون العبرة لعموم اللفظ بلا سبب من باب أولى، وفي تكرير لفظ {لَقَدْ عَلِمْنَا} دلالة على تأكيد إحاطة علمه تعالى بالعباد وأحوالهم أولا وآخرا، وأن علمه بالأولين كعلمه بالآخرين لأن الكل مدون في لوحه داخل في علمه قبل إبرازه لخلقه.
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} يوم القيامة كلهم على ما ماتوا عليه كما أماتهم على ما عاشوا عليه.
ويجازيهم بحسب أعمالهم الدنيوية والأخروية، روى مسلم عن جابر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «يبعث كل عبد على ما مات عليه».
وتوسيط الضمير في الآية يفيد الحصر، أي أن اللّه تعالى هو وحده يحشرهم، وفي إضافة لفظ الرب إلى الضمير العائد لحضرة الرسول دليل على اللطف به والعطف عليه، وقرئ {يحشرهم} بكسر الشين من الباب السادس والأفصح الفتح على أنه من الباب الأول على ما هو في المصاحف {إِنَّهُ حَكِيمٌ} باهر الحكم بالغ منتهى الإتقان في أفعاله {عَلِيمٌ} واسع العلم كثيره يعلم ما يستحقه كل منهم من الثواب والعقاب.