فصل: مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو اللّه، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي هذه الآية دليل على جواز تقدم الأمر على وقت الفعل، فيكون حد الأمر بكونه ملابسا للفعل به ليس على إطلاقه {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} تأكيد لعدم تخلف أحد منهم {إِلَّا إِبْلِيسَ} لأنه في الأصل لم يكن من الملائكة، ولهذا كان الاستثناء منقطعا، ومن قال إنه متصل لم يقل إنه من جنس الملائكة كما هو الشرط في تعريف الاستثناء المتصل، بل لأنه كان حين الأمر الإلهي معهم، وقد أمرهم كلهم بالسجود فسجدوا ولم يسجد هو لسابق سقائه، فاستثني منهم على طريق التغليب، لأن أصله من الجن، أي أنه خرج عن طاعته لأنه {أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} من الملائكة الذين كان معهم حين الأمر {قال} تعالى موبخا له ومؤنبا سوء صنيعه على امتناعه {يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} أخالفت أمري {قال} عليه اللعنة متقدما في حجته الواهية معتذرا عن السجود بعذره السخيف {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} تقدم تفسيره أي وقد خلقتني قبله من النار والنار أفضل من الطين، وهو قياس مغلوط، لأن الفاضل من فضله اللّه، وليس لأصل الخلقة أو أصل المخلوق دخل في التفضيل، ولو أراد اللّه هداه لامتثل وما عليه أن يسجد بأمر اللّه لآدم أو غيره، لأن القصد الامتثال لا غير.
{قال} تعالى لإبليس بعد أن أظهر عناده وعتوه وحسده لآدم أمام الملائكة كما هو ثابت في علم اللّه.
{فَاخْرُجْ مِنْها} أي الجنة ويستلزم الخروج منها الخروج من السماء أيضا، والخروج من زمرة الملائكة الذين كانوا يغبطونه على ما هو عليه من العبادة للّه والعلوم والمعارف التي أنتجت ذلك الغلو وانبثقت عن الجهل المفرط الراسخ في قلبه، إذ ظن أن الفضل باعتبار المادة، وما درى أن يكون باعتبار التحلي بالمعارف الرّبانية، قال:
فشمال والكأس فيها يمين ** ويمين لا كأس فيها شمال

وما عرف أن الأدب هو المقدم الأول في الفضائل كلها وللّه در القائل:
كن ابن من شئت واكتسب ** أدبا يغنيك محموده عن النسب

ولما فضح اللّه سريرته على ملأ من الملائكة الذين كانوا يحترمونه ويفضلونه على أنفسهم وأبان لهم قريطه، وعلموا أن عبادته ونشر علمه بينهم في مخالطته لهم رياء لنشر السمعة والصيت بينهم بقصد التعاظم عليهم أمره بالخروج من بين الطائعين الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به من قبله.
قال جل جلاله مبينا جزاءه الدنيوي على مخالفته هذه واحتجاجه الواهي ومقابلة عظمة ربه بما فاه به على رؤوس الأشهاد وبيّن العلّة في ذلك بقوله عز قوله: {فَإِنَّكَ} بامتناعك هذا {رَجِيمٌ} طريد من الرحمة والكرامة بعيد من العطف واللطف {وأنّ عليك اللّعنة} عقوبة لك في الدنيا مني ومن خلقي مستمرة {إِلى يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء الذي يكون عليك فيه العذاب المهين الدائم، ولم يجعل اللّه حدّ ابعاده عن فيض رحمته بضرب هذا الأجل كما يفهمه البعض من معنى إلى النائية، بل جعله غاية في البعد لأنه أي يوم القيامة أبعد ما يضرب الناس المثل في كلامهم إليه من الآجال البعيدة لا أنها أي اللعنة تنقطع عنه بعد ذلك اليوم، كلّا بل تكون في الدنيا مستمرة بلا عذاب حسّي من اللّه والناس أجمعين، وفي الآخرة دائمة عليه أيضا مع العذاب الأكبر الباقي، ولما عرف الخبيث أن سقط في يده ولم يبق له بدّ من تلافي عصيانه لربه ولا أمل في فيض رحمته، أراد بحسب طويته النجسة أن يتمادى في الضلال والإضلال {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي كافة مخلوقاتك، لأنه عارف بالبعث بعد الموت، وأنه لا موت بعد البعث، يقصد أن لا يموت أبدا، فينجو من العذاب الأخروي، لأنه إذا بقي يوم البعث يكون حاله حال الخلق بعد البعث لا يموتون أبدا، لأن هذه الحياة حياة موقته مهما طال أجلها وتلك حياة دائمة ما بعدها إلا الخلود في الجنة رزقنا اللّه إياها، أو الخلود في النار أجارنا اللّه منها.
{قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} المؤخرين ولكن {إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي موت جميع الخلق السابق علمه بأنه سيموت على كفره قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وإجابته تعالى له بتأخير أجله لا إكراما له ولا لميزته على غيره، بل زيادة في شقائه، ولو أراد به خيرا لوفقه لطلب العفو عن جرمه وقبول توبته، ولكن حق قوله عليه في الأزل بشقائه، ولا راد لما قدره وقضاه.
ولما عرف عدم إجابة طلبه كما أراد وأنه تعالى سيميته على كفره الذي عاش عليه ويبعثه على ما مات عليه وانقطع أمله مما توخّاه، صرح بما أكنه في قلبه من الغلّ والحقد لعباد اللّه.

.مطلب جهل إبليس وأن المزين في الحقيقة هو اللّه، وأن مبنى الأيمان على العرف وخلق الأفعال:

{قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} أي آدم وذريته ما داموا {فِي الْأَرْضِ} وقدمنا في آيات متعددة أن المزيّن في الحقيقة هو اللّه تعالى لأنه هو أقدر إبليس عليه أي أنه يزين حب الدنيا لهم مدة حياتهم وبقائهم على أرضها، وأحبذ لهم معصيتك {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} في زخارفها وشهواتها حتى يضلوا طريقك السوي {أَجْمَعِينَ} بحيث لا أترك منهم أحدا إلا صددته عن الهدى، وقد حدى بالملعون سائق الانتقام فأقسم على أن يجتهد في إغواء آدم وذريته من بعده لأنه السبب الظاهري في طرده وعنائه وقد جاء القسم في الآية 82 من سورة ص بلفظ {فَبِعِزَّتِكَ} لأن الحلف على ما قاله العراقيون بصفات الذات كالعزّة والعظمة والقدرة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والسخط والعذاب ليس بيمين، وقد حلف الخبيث بكليهما، على أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يمينا، وما لا فلا، وهذه الآية حجة على القائلين في خلق الأفعال وأن حملهم إياها على التسبّب عدول عن الظاهر.
وليعلم أن في تمكين إبليس من الإغواء ردّ على القائلين بوجوب رعاية الأصلح من المعتزلة، وردّ على زعم من قال إن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أدنى أحد منهم فقد خرج عن الفطرة البشرية، فحينئذ الذي تحكم به الفطرة هو أن اللّه تعالى أراد بالأنظار إضلال بعض الناس، فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقول هذا الزاعم على حد قول قائلهم:
ما حيلة العبد والأقدار جارية ** عليه في كل حال أيها الرائي

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء

الذي رد عليه أهل السنة والجماعة بقوله:
إن حفه اللطف لم يمسسه في ** بلل ولم يبال بتكتيف وإلقاء

وإن يكن قدر المولى بغرقته ** فهو الغريق وإن أضحى بصحراء

والسبب الذي حدى بأهل الاعتزال على هذه الأقوال هو عدم اعترافهم بأن للإنسان جزء اختياريا وهو إقدام العاصي على المعصية عن رغبة ورضى، وأن قولهم أن ما يقع منه مقدر عليه، ولكنه فيما يفعله طائعا مختارا لا يعلم أنه مقدر عليه، وأنه إنما يفعله تبعا لتقدير اللّه، فلو أن إبليس حينما امتنع عن السجود كان امتناعه تبعا لما هو في علم اللّه وقد علم ذلك وامتنع لما طرده ربه، ولكن امتناعه كان حسدا لآدم، لأنه بالسجود له يصير مفضلا عليه، وأن نفسه الخبيثة تأبى أن يفضل أحد عليه، وكذلك مقترف المعاصي لو أنه إنما يقترفها لعلمه بأن اللّه قدرها عليه أو أنه إنما فعلها تنفيذا لأمره لا لشيء آخر لما عذبه اللّه، ولكن إنما يفعل المعصية لمجرد شهوة نفسه الخبيثة، مع علمه أن اللّه حرّمها عليه، فلذلك يعاقب ويعذب، تدبر.
وهذا الملعون غلط غلطة لا تلافي لها، إذ يجب على المحب امتثال أمر المحبوب مهما كان، أعجز الخبيث أن يكون مثل ابن الفارض الصادق في محبته إذ يقول:
لو قال تيها قف على حجر ** الفضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف

أو عجز أن يكون مثل أحد غواته يزيد حيث قال:
قال خلفته لو مات من ظمأ ** وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

هذا ومن وقف على معنى قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ}، وقف يراعه عن البحث ولسانه عن الكلام وقلبه عن التخطر، علما بأن المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى لمن قدر شقاءه في الأزل، وما إبليس وغيره إلا أسباب ظاهرة جعلها اللّه تعالى، فأعتقد بهذا أيها المؤمن لا تحد عنه.
ثم استثنى الملعون من هو عاجز عن إغوائه لسابق سعادته في علم اللّه فقال {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام وكسرها.

.مطلب عهد اللّه لأوليائه ودرجات الجنة ودركات النار وإرضاء اللّه أصحاب الحقوق بالعفو والعطاء الواسع وعزل خالد:

قال تعالى قاطعا أمله منهم: {هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} حق علىّ مراعاته {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} فلا تصل إليهم قوتك ولا تنالهم وسوستك ولا يقدر عليهم إغواءك ولا يميلون إلى تزينك، لأن الخبيث عارف عدم تأثيره في المخلصين الذي أخلصوا للّه واستخلصهم لنفسه، ولكنه توهم أن له سبيلا على غيرهم من عباده العارفين وأوليائه الكاملين، فبين له جل شأنه أن ليس له سبيل على عباده أيضا الذين هم من هذا الصنف غير الأنبياء وفي هذا العهد الجليل من الرب الجليل بشارة عظيمة لعباد اللّه الذين يعبدونه عبادة حقيقة خالصة لوجهه، أما من يعبده سمعة ورباء وجهلا أو لطلب حاجة أو دفع مضرة فقد استثناهم اللّه تعالى من هذا العهد بقوله عز قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} المنهمكين في الغواية اختيارا منهم المنقادين لإضلالك بطوعهم ورضاهم، فلك عليهم سلطان لأنهم أتباعك الآن وأحباؤك، ولكنك ستتبرأ منهم في الآخرة وتوبخهم على اتباعك.
قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} التابعين والمتبوعين من الناس وإبليس وجنوده ثم وصف جهنّم بأنها {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ} واحد تحت الآخر لأنها دركات كما أن أبواب الجنة الواحد فوق الآخر لأنها درجات {لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي لكل دركة قوم أسفلها للمنافقين لقوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}، الآية 145 من النساء والتي فوقها للمشركين مع اللّه إلها آخر والتي فوقها للمجوس عابدي النار، والتي فوقها للصابئين لأنهم منهم، والتي فوقها لكفرة اليهود، والتي فوقها لكفرة النصارى والسابعة لعصاة الأمة المحمدية وهي الطبقة الأولى أجارنا اللّه منها، وبين كل طبقة ما لا يعلمه إلا اللّه، وكذلك ما بين درجات الجنة.
ثم بين اللّه تعالى للمتقين عنده المؤمنين به، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} الشرك والنفاق وعبادة الأوثان المتباعدين عن الكفر والمعاصي يكونون في الآخرة الباقية دائمة النعيم {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ماء عذبة غير أنهار الجنة، لأن اللّه يتفضّل عليهم بأشياء خاصة، لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد وأن ذلك يكون لهم بحسب مراتبهم، ويقال لهم يوم الجزاء {ادْخُلُوها} أي الجنان المذكورة {بِسَلامٍ} من الآفات والمنغصات مسلمين بعضكم على بعض، والملائكة تسلم عليكم أيضا {آمِنِينَ} من الخروج منها ومن كل منغص أو مكدر للصفاء، لأنها دائمة لا موت فيها ولا فناء لها.
ثم وصف اللّه طهارتهم بقوله {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} كان بينهم في الدنيا وما هو بمعناه من حقد وحسد من أثر عداوة أو شحناء أو تطاول، فتنقي قلوبهم من كل ما يؤدي إلى البغضاء قبل دخول الجنة، لأن اللّه تعالى يحاسبهم عليها ويسترضي بعضهم مع بعض بعطائه الواسع وفضله العميم حتى تطيب أنفسهم، بعضهم على بعض فيكونون بالجنّة {إِخْوانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} بوجوههم ينظر بعضهم إلى بعض، لان النظر إلى القفا أو إلى الجانب ممن يخاطب جفاء واستهتارا به، وهم هنا منزهون عنها مطهرة قلوبهم من التحاسد على علو الدرجات بحيث يوقع اللّه تعالى الرضاء في قلب كل منهم على ما هو فيه من المنزلة، بحيث يرى نفسه راضية مطمئنة فيها فرحة مسرورة.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي بسبب ما كان بينهم في الجاهلية من الضغائن فغير سديد، لأن الإسلام طهرهم فلم يبق في قلوبهم شيئا، على أن عليا كرم اللّه وجهه أسلم صغيرا ولم تستول عليه خصلة من خصال الجاهلية، مما يدل على عدم الوثوق بنزولها فيهم، وهم رضي اللّه عنهم أولى بمن ينزل فيهم القرآن ويشملهم مضمون آياته كهذه وغيرها من كل ما فيها خير، إلا أن الآية عامة في كل مؤمن ومؤمنة، وفيها ردّ على من بهت سيدنا عمر رضي اللّه عنه بأنه عزل السيد خالد ابن الوليد رضي اللّه عنه بسائق العداوة التي كانت بينهما حال الصغر، وهي أن خالدا رمى عمر على الأرض أو أنه خاف منه على الملك أن يتولاه هو فعزله عن أمارة الجيش في فتح الشام، وحاشا عمر من ذلك، على أن حادثة رميه كانت في الجاهلية فمحاها الإسلام إن كان لها من صحة، وحادثة عزله عن الإمارة ما هو إلا ليعلم الناس أن النصر من اللّه تعالى يجريه على يد من شاء من عباده لا على يد خالد فقط، لأن الناس صاروا يتقولون فتح خالد وفعل خالد ولولا خالد لما كان كذا، فأراد أن يريهم خلاف ما وقر في صدورهم، فضلا عن أن عزله كان طبقا لمراد اللّه لأن فتح الشام كان مقدرا على عبيدة بن الجراح وكان ذلك فيكون عمله هذا كرامة له من اللّه تعالى إذ توسم ذلك فيه، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ولو كان في عزله شيء مما ذكره هؤلاء المعزولون عن رحمة اللّه لما بقي في الجيش ورضي أن يكون من جملة جنوده حتى ثم الفتح على يده، فتح اللّه له أبواب الجنة.
قال تعالى في وصفهم أيضا: {لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ} ولا تعب ولا إعياء كما في جنات الدنيا التي لا تخلو من ذلك، وأن لكل مؤمن جنّة لا يعادلها جنان الدنيا، لأن أقل حظ أقل رجل من أهل الجنة أكثر من ملك أكبر ملك من ملوك الدنيا {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} أبدا وهذا النص قاطع بالخلود في الجنة، ثم صدع جل شأنه بالبشارة العظيمة بقوله {نَبِّئْ عِبادِي} يا سيد الرسل {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} لمن عصاني فندم وأناب إلي، فإن مغفرتي الكبيرة تسع ذنوبه مهما كانت وأنا {الرَّحِيمُ} بمن أطاعني وتوكل علي، فإن رحمتي تغمره وإن عظمتي تستصغر خطاياه مهما كانت {وَأَنَّ عَذابِي} لمن كفر بي وجحد نعمتي ولم يرجع إليّ {هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} الذي لا تطيقه قوى المعذبين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأدخل في خلقه كلهم رحمة واحدة.
فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللّه من الرحمة لم بيأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللّه من العذاب لم يأمن النار، ولم يقل جل شأنه أنا المعذب كما قال أنا الغفور ترجيحا لجانب الوعد على الوعيد، وذلك من عظيم فضله.
ويقوي هذا الترجيح الإتيان بالوصفين الكريمين بصيغة المبالغة، وما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «اطلع علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون، ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر، رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن اللّه تعالى يقول لم تقنط عبادي إني أنا الغفور الرحيم». وتقديم الوعد يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى الحديث القدسي الذي فيه: «سبقت رحمتي غضبي»

.مطلب بشارة إبراهيم وقصة قوم لوط:

قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ} الضيف الميل مأخوذ من مال إليك لينزل بك، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر ويجمع على ضيوف وأضياف، وهؤلاء هم الملائكة المار ذكرهم في الآية 69 من سورة هود.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا} عليك يا إبراهيم {قالَ} بعد أن رد عليهم السلام وقدم لهم الطعام كما مر في سورة هود المارة أيضا ورآهم لا يأكلون {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون لأن أكل الضيف طعام المضيف دليل على الأمان، والامتناع منه علامة على أنهم أعداء وهي عادة مطّردة حتى الآن عند عرب البادية، ولديهم عادة أخرى وهي أنهم إذا جاءوا بحاجة لا يأكلون قبل قضائها أو أن يتعهد لهم يخلافها، وثالثة وهي أن المضيف عند ما يقدم الطعام يأكل منه قبل الضيوف لقيمات ثم يقوم ويأمرهم بالأكل حتى لا يظن أن في الأكل شيئا ضارا ولمعرفة نضجه ولذته {قالُوا لا تَوْجَلْ} من شيء ولا تخف بل افرح وطب نفسا {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} كثير العلم يأتيك من زوجتك العقيم سارة على ما هي عليه من الكبر واسمه إسحاق {قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} والهرم {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بعد هذه الشيخوخة، على طريق الاستفهام التعجي، أي أن بشارتكم لي على ما أنا عليه وزوجتي من الحال أعجوبة {قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ} الصدق الواضح لأنه من أمر اللّه ولا عجب فيه {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ} لأن ذلك من قضاء اللّه وهو يقين فلا تيأس {قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} عن طريق الهدى، وإلا لا أحد يقنط منها البتة لأن الكل محتاجون إليها.