فصل: مطلب في كلمة عمرك والفراسة والفأل وتعبير الرؤيا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا وانه عليه السلام لم يستبعد ذلك بالنسبة لعظيم قدرة اللّه، وإنما استبعده بالنسبة لواقع، لأن مثله ومثلها لا يتصور أن يولد لهما، وأن العقم وحده كاف للاستبعاد فكيف إذا ضم إليه الكبر؟ ثم لما عرفهم أنهم ملائكة {قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} غير بشارتي هذه {قالُوا} إن الخطب الذي جئنا به هو {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} لنهلكهم بجرمهم القبيح ولذلك عبر بالخطب لعظمته ثم استثنى فقال {إِلَّا آلَ لُوطٍ} أهله وشيعته وأتباعه المؤمنين {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} من الإهلاك ثم استثنى من أهله الناجين ما يتصور دخوله فيهم فقال {إِلَّا امْرَأَتَهُ} فهي هالكة معهم لأنا {قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ} الباقين في العذاب معهم في علمنا الأزلي، هذا وقد أسندوا الفعل لأنفسهم مع أنه للّه تعالى لاختصاصهم به وقربهم منه كما تقول خاصة الملك أمرنا وقضينا وفعلنا مع أنه بأمر الملك، قال تعالى: {فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} قال لهم لوط حينما دخلوا عليه {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} لا أعرفكم إذ جاءوا بزي شباب حسان وكان مثلهم يتحاشى عن المجيء إلى قريته لما شاع عنهم أنهم يفعلون المنكر فيمن يأتي إليهم وكان دخولهم بيت لوط دون استئذان فلهذا أنكر مجيئهم وخاف عليهم من شناعة قومه {قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكون به من العذاب الذي كنت تهددهم به فيكذبوك لنرقعه فيهم، أما نحن فلا تخف علينا منهم فإنا جئناهم لهذه الغاية {وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ} اليقين الذي لا مرية فيه {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} فيما أخبرناك به من أن إرسالنا لإنزال العذاب عليهم، أما أنت {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ} سر خلفهم على أثرهم لئلا يفلت منهم أحد {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ} يا آل لوط {أَحَدٌ} فيصيبه بعض ما ينزل عليهم من العذاب، قالوا إنما نهاهم لئلا ترق قلوبهم على المعذبين حين ينزل بهم العذاب فيرتاعون لمشاهدته ويدهشون لشدة هوله {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} وقد أمرهم جبريل بالذهاب إلى قربة لم تعمل عمل قومه {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ} أوحينا إلى لوط {ذلِكَ الْأَمْرَ} الذي هو {أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} أبهم جل شأنه هذا الأمر ثم فسره تفخيما له وتعظيما لشأنه ثم طفق جل جلاله يقص حال قوم لوط مع ضيوفه وما وقع منهم فقال عز قوله: {وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} يبشر بعضهم بعضا بضيوف لوط الحسان وأتوا مهرولين إلى بيته طمعا بالنيل منهم فاستقبلهم عليه السلام: {قالَ} لهم يا قوم اتقوا اللّه {إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} بالتعدي عليهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} فيهم ويظهر الأمر لأهالي القرى الأخرى فيصيبكم الخزي والعار لأن الضيف في حمى المضيف {قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ} بأن لا تضيف أحدا منهم ولا تقبل غريبا في بيتك ولا تكلمنا فيما نريد أن نفعل بالناس، وقد علموا ذلك إذ شاع أمرنا بأن نفعل فيمن يقدم على قرانا مهما كان له من مكانة بقصد قطع أملهم من الدخول فيها {قالَ} يا قوم إذا كنتم لا تسمعون قولي ولا تجيبون دعوتي وأصررتم على اخزائي فيضيفي فاتركوهم و{هؤُلاءِ بَناتِي} اللاتي كنتم تريدون الزواج بهن ولم أفعل، فإني أزوجهن لكم الآن {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} ما تريدونه بأضيافي، وقال عليه السلام {إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} على طريق الشك في قبولهم، فكأنه قال إن فعلتم ما أقوله لكم وأظنكم فاعلين، فلم يقبلوا منه وتزاحموا على الباب، فلما رأت الملائكة أن قومه ضايقوه قالوا له إنا رسل ربك، وأنزل فيهم العذاب كما مر في القصة هناك.

.مطلب في كلمة عمرك والفراسة والفأل وتعبير الرؤيا:

قال تعالى: {لَعَمْرُكَ} وحياتك يا حبيبي {إِنَّهُمْ} كفار قومك {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} وغفلتهم هذه وغوايتهم وبغيهم {يَعْمَهُونَ} يترددون بالحيرة ويتحيرون في النيه ويخورون في الضلال، لا يسمعون قولك ولا يقبلون نصحك، وكيف يقبلونه وقد اعتراهم ما أزال عقولهم، لأن العمه عمى القلب، لهذا لم يميزوا بين الخطأ والصواب.
وقد جاءت هذه الآية معترضة بين قصة لوط عليه السلام، وقيل إن الضمائر فيها لأهل المدينة من قوم لوط فلا تكون اعتراضية، والخطاب في لعمرك من الملائكة إلى لوط، ولكن أكثر المفسرين على الأول بطريق الالتفات والسياق، والسياق يؤيد الثاني واللّه أعلم.
وما قيل إن عمرك بمعنى دينك مستدلا بقول القائل:
أيها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك اللّه كيف يلتقيان

فالثريا شامية ما استهلت ** وسهيل إذا استهل يمان

لا يستقيم هنا وجاز إضافة عمرو إليه تعالى لقوله:
إذا رضيت عليّ بنو تشير ** لعمرو اللّه أعجبني رضاها

وقول الأعشى:
ولعمرو من جعل الشهور علامة ** منها يبين نقصها وكمالها

فمن زعم عدم جوازه لأن اللّه ازلي أبدي توهم أنه لا يضاف إلا فيما له انقطاع وليس كذلك.
وكلمة عمرو هذه إذا أضيفت إلى الضمير تكتب بلا واو كعمرو في حالة النصب للفرق بينها وبين عمر، قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} عند بزوغ الشمس {فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ} على أهل قرى لوط، والضميران الأولان عائدان على القرى نفسها لأنها هي التي جعل أسفلها أعلاها وهم الذين ألقى عليهم {حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} طين متحجر مرّ تفسيره في القصة المذكورة في سورة هود {إِنَّ فِي ذلِكَ} الإهلاك الفظيع {لَآياتٍ} عظيمة وعبرة جليلة وعظة كبيرة {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي المتفرسين الذين يعرفون بواطن الأشياء بسمة ظواهرها.
والفراسة على نوعين: نوع بوقعه اللّه تبارك وتعالى في قلوب أوليائه فيعلمون به من أحوال الناس ما خفي على غيرهم بإلهام من اللّه تعالى، وهو من باب الكرامة التي خص بها بعض أوليائه، وهي شبيهة بالمعجزة عدا دعوى التحدي الذي هو من خصائص الأنبياء ولا يجوز لأحد القول به.
أخرج البغوي في حديث غريب عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه».
والفراسة بكسر الفاء، تقول توسمت في فلان كذا، أي عرفت وسم ذلك فيه.
والثاني من إصابة الحدس والظن والتثبت وقوة التفكير والتأمل وما يحصل بدلائل التجارب والنظر في الخلق والخلق والأخلاق مما يعرف به أحوال الناس، فهو من باب الحذق والفطانة فيكون هذا النوع لكل من يتصف بما ذكر، ولذلك قالوا التوسم هو النظر من اقدم إلى الفرق واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ** بعثوا إليّ عريفهم يتوسم

ويقال إني توسمت بفلان خيرا وعليه قول ابن رواحة في حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير أعرفه ** واللّه يعلم أني ثابت البصر

ومن هذا القبيل الفال الذي يشتغل به بعض الناس من رجال ونساء لأنه من قبيل التوسم في أحوال الناس والأخذ مما يسألونهم عنه، ومن هذا القبيل تعبير الرؤيا، فإنها تحتاج للفطنة والحذق ومعرفة القياس.
قال تعالى: {وَإِنَّها} القرى المهلكة وهي سدوم وعاموراء ودومة وساعوراء وصفرة وهي التي رحل إليها، لأن أهلها لا يعملون عمل القرى الأربع المذكورة التي وقع فيها الهلاك وتسمى في التوراة صوغره، وبالع، وعمودة، وأدمة وجويم كما هو في الاصحاح 14 من التكوين وجاء في الاصحاح 13 أنه ترك هذه المدينة خوفا من نزول العذاب فيها وصعد هو وبناته إلى الجبل وسكنوا في مغارة فيه، وفيه أن هذه المدينة لم تقلب، ويطلق على هذه القرى المؤتفكات أي المنقلبات {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي واقعة على طريق واضح لم يندرس بعد أثرها يراها الذاهب إلى الشام والآتي منها إلى الحجاز {إِنَّ فِي ذلِكَ} الأثر الباقي لهؤلاء الطغاة {لَآيَةً} عظيمة {لِلْمُؤْمِنِينَ} المصدقين بما ذكرنا لأنهم المنتفعون بالآيات المتعظون بالعبر {وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ} الغيضة وهي الأشجار الملتفة كالغابة وتسمى حرشا، وفي لغة أهالي دير الزور {زور} ولهذا تسمى البلدة دير الزور لأنها كانت محاطة بالغابات، وهؤلاء قوم شعيب عليه السلام {لَظالِمِينَ} جاحدين نعم اللّه لا يشكرونه على ما خصهم به من الأشجار المحيطة ببلدتهم فضلا عن النعم الأخرى من أموال وأولاد {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} لتكذيبهم إياه، راجع قصتهم في الآية 84 من سورة هود المارة.
{وَإِنَّهُما} أي أهل الأيكة وأهل مدين لأنه عليه السلام أرسل إليها ولم يرسل نبي إلى قومين قبله مرة بعد أخرى، وإن هاتين المدينتين باق أثرهما مثل قرى قوم لوط {لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} ظاهر على طريق مستقيم، وسمي الطريق إماما لأن المارة تسلكه فكأنها تتبعه كالإمام الذي يتبعه الناس {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} صالحا فمن قبله لأن الحجر كانت تسكنه ثمود قوم صالح {وَآتَيْناهُمْ آياتِنا} التي من جملتها الناقة {فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ} لا يلتفتون إليها {وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} من خوف خرابها لقوتها، فكذبوه أيضا وعقروا الناقة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} مع الصباح حال غفلتهم {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} من الأموال والأملاك من اللّه شيئا لإصرارهم على الكفر، وإن قراهم موجودة الآن آثارها ظاهرة للعيان بين المدينة والشام.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال لما مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
قال تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما} من المخلوقات الأخرى من نام وجامد {إِلَّا بِالْحَقِّ} لا عبثا ولا باطلا ولا لهوا بل للاعتبار والتفكر ليصدق المؤمن ويجحد الكافر، فيثاب الأول ويعذب الثاني يوم الجزاء المعين لإبادتها {وَإِنَّ السَّاعَةَ} التي يكون فيها خرابها {لَآتِيَةٌ} حقا لا محالة، فيا أكرم الرسل تحمل أذى قومك في هذه الدنيا الفانية، ولا تستعجل عذابهم فهو آتيهم حتما، وإن كل ما يلبثون فيها فهو قليل {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي أعرض عنهم مع الحلم عليهم والصبر على أذاهم والإغضاء مع العفو عن مساوئهم معك، وما ذكره بعض المفسرين بأن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأنها عبارة عن أن اللّه تعالى أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بأن يعامل قومه بالعفو والصفح الخاليين من الجزع والخوف وأن يظهر لهم مكارم أخلاقه الحسنة، وهذه المعاملات اللينة تكون مقدمة للمعاملات القسرية عادة عند اصرار المفترح لهم على كفرهم فأي نسخ فيها رعاك اللّه.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} بك وبهم فلا يخفى عليه ما يجري بينك وبينهم، لأنه خلق الخلق وعلم ما هم عليه وما هم فاعلون إلى يوم القيامة، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الآية 14] من سورة الملك الآتية، وهذه الآية المدنية من هذه السورة، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ} يا سيد الرسل {سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي} قبل هي الحواميم السبع، وقيل الصحف السبعة التي أنزلت على الأنبياء قبله، وقيل الأمر والنهي والبشارة والنذارة والأمثال والأخبار وتعداد النعم، والذي عليه أكثر المفسرين هو آيات سورة الفاتحة السبع. {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} المشتمل عليها بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الحمد للّه رب العالمين هي السبع الثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه، وبه قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعطاء، وناهيك بهم قدوة.
هذا وإن السبب في تسميتها سبعا لأنها سبع آيات، وتسميتها بالمثاني لأنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلاة، وسميت قرآنا لإطلاق القرآن على بعض السورة فضلا عن السورة الكاملة، قال تعالى: {بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ} الآية من أول سورة يوسف المارة أي هذه السورة، وقال تعالى أول هذه السورة: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} ولم ينزل القرآن كلّه فقد عبّر بالآية الأولى بالسورة عن القرآن، وفي الثانية بالآيات عنه بما يدل على جواز تسمية السورة والآية قرآنا، وما قاله البعض بأن المراد من السبع الفاتحة ومن المثاني القرآن أو أن المراد بالسبع السور السبع الطوال البقرة فما بعدها حتى براءة باعتبارها مع الأنفال سورة واحدة لعدم ذكر التسمية بينهما، أو أن المراد بها القرآن كله أقوال ضعيفة لا يعتمد عليها، والسبب في تسميتها بالمثاني لما ذكرنا ولأنها تكرر في الأدعية أيضا، وما قيل لأنها نزلت مرتين قيل لا قيمة له، والعطف من عطف الكل على الجزء إذا أريد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين، وأريد بالسبع المثاني الفاتحة فقط أو من عطف العام على الخاص إذا أريد به المعنى المشترك بين الكل والبعض، وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه، وإن أريد بها الإشباع فهو من عطف أحد الموضعين على الآخر، قال ابن الجوزي: وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع البرّ والطيب والجواهر، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل اللّه، فنزلت. أي اللّه أعطاكم سبع آيات خير من هذه القوافل السبع.
ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ولا تطمح بصرك أيها الإنسان الكامل {إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ} أي هذا الذي هو من حطام الدنيا الزائل أصنافا {أَزْواجًا مِنْهُمْ} من أولئك الذين جاء منهم تلك القوافل، وقد فرحوا بها حتى تماها بعض قومك فتتمنى شيئا منه أو مما أوتوا من غيرها من الأموال والأولاد والأملاك لأنك أوتيت النعمة الكبرى التي هي فوق كل نعمة، فاستغن بما أوتيت عما أوتوه فكل شيء دونه، وهذا وإن كان خطابا لحضرة الرسول فإن المراد به قومه الذين تمنوا ذلك، لأنه عليه السلام أبعد عن أن يمد بصره إلى الدنيا وما فيها لذاتها استحسانا لها وقد يلتفت إليها بالنسبة لكفرهم باللّه مع كثرة انعامه عليهم، وقد تأول سفيان بن عيينة قوله صلّى اللّه عليه وسلم من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا، أو ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن، فقال أي لم يستغن به عن غيره من كل ما في الدنيا، هذا من ضعف سبب النزول المذكور أعلا واحتج بأن السورة كلها مكية، وهذه الحادثة وقعت بالمدينة والحال أن هذه الآية مستثناة منها، وقد نزلت بالمدينة كما أشرنا إليه أول السورة.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على كفار قومك لتأخرهم عن قبول هداك أو لعدم شكرهم نعم اللّه، فقد وقع من اتباع الرسل قبلك ما هو مثله وأكثر.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لا تغبطنّ فاجرا نعمته فإنك لا تدري ما هو لاقيه بعد موته إن له قاتلا لا يموت، قيل عند اللّه وما هو قال النار.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه.
ولمسلم أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزوروا نعمة اللّه عليكم، وجل هذا في المال الذي لا يجمع إلا بخمس خصال:
التعب في كسبه، والشغل عن الآخرة في إصلاحه، والخوف من سلبه، واحتمال اسم البخل دون مفارقته، ومقاطعة الإخوان بسببه وهو مفارقه لا محالة، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ألن جانبك لهم وأرفق بهم، ولا تعنّفهم على كل شيء، ومن جملته تمنّيهم ذلك وإطماح بصرهم إليه، لأنه من طبع محبي الدنيا {وَقُلْ} لهم يا رسولي {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ} لكم من عذاب اللّه {الْمُبِينُ} لكم وقوعه إذا لم تؤمنوا باللّه إيمانا خالصا، والموضح لكم كل ما تحتاجونه من أمر دينكم ودنياكم {كَما أَنْزَلْنا} أي أنذركم من نزول عذاب عظيم كالعذاب الذي أنزلناه {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} الذين آمنوا ببعض ما أنزل عليهم وكفروا ببعضه، قال تعالى: {أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي أنهم يؤمنون بقسم من القرآن مما يوافق ما عندهم ويكفرون بما يخالفه.