فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، و{تلك} يمكن أن تكون إشارة إلى حروف المعجم- بحسب بعض الأقوال- ويمكن أن تكون إشارة إلى الحكم والعبر ونحوها التي تضمنتها آيات التوراة والإنجيل، وعطف القرآن عليه. قال مجاهد وقتادة: {الكتاب} في الآية، ما نزل من الكتب قبل القرآن، ويحتمل أن يريد بـ: {الكتاب} القرآن، ثم تعطف الصفة عليه.
وقرأ نافع وعاصم {ربَما} بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بشدها، إلا أن أبا عمرو قرأها على الوجهين، وهما لغتان، وروي عن عاصم {رُبُما} بضم الراء والباء مخففة، وقرأ طلحة بن مصرف {ربتما} بزيادة تاء، وهي لغة، و{ربما} للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير، وقال قوم: إن هذه من ذلك، ومنه: رب رفد هرقته، ومنه:
رب كأس هرقت يا ابن لؤي، وأنكر الزجاج أن تجيء رب للتكثير، وما التي تدخل عليها رب قد تكون اسمًا نكرة بمنزلة شيء، وذلك إذا كان في الضمير عائد عليه، كقول الشاعر: الخفيف:
ربما تكره النفوس من الأم ** ر له فرجة كحل العقال

التقدير: رب شيء، وقد تكون حرفًا كافًا لرب وموطئًا لها لتدخل على الفعل إذ ليس من شأنها أن تدخل إلا على الأسماء، وذلك إذا لم يكن ثم ضمير عائد كقول الشاعر جذيمة الأبرش: المديد.
ربما أوفيت في علم ** ترفعن ثوبي شمالات

قال القاضي أبو محمد: وكذلك دخلت ما على من كافة، في نحو قوله: وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه، ونحو قول الشاعر: الطويل:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ** على رأسه تلقي اللسان من الفم

قال الكسائي والفراء: الباب في {ربما} أن تدخل على الفعل الماضي، ودخلت هنا على المستقبل إذ هذه الأفعال المستقبلة من كلام الله تعالى لما كانت صادقة حاصلة ولابد جرت مجرى الماضي الواقع.
قال القاضي أبو محمد: وقد تدخل رب على الماضي الذي يراد به الاستقبال، وتدخل على العكس، والظاهر في {ربما} في هذه الآية أن ما حرف كاف- هكذا قال أبو علي، قال: ويحتمل أن تكون اسمًا، ويكون في {يود} ضمير عائد عليه، التقدير: رب ود أو شيء يوده {الذين كفروا لو كانوا مسلمين}.
قال القاضي أبو محمد: ويكون {لو كانوا مسلمين} بدلًا من ما.
وقالت فرقة: تقدير الآية: ربما كان يود الذين كفروا. قال أبو علي: وهذا لا يجيزه سيبويه، لأن كان لا تضمر عنده.
واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن لو كانوا مسلمين، فقالت فرقة: هو عند معاينة الموت في الدنيا- حكى ذلك الضحاك- وفيه نظر، لأنه لا يقين للكافر حينئذ بحسن حال المسلمين، وقالت فرقة: هو عند معاينة أهوال يوم القيامة- قاله مجاهد- وهذا بين، لأن حسن حال المسلمين ظاهر، فتود، وقال ابن عباس وأنس بن مالك: هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة، واحتج لهذا القول بحديث روي في هذا من طريق أبي موسى الأشعري وهو: أن الله إذا أدخل عصاة المسلمين النار نظر إليهم الكفار فقالوا: ليس هؤلاء من المسلمين فماذا أغنت عنهم لا إله إلا الله؟ قال: فيغضب الله تعالى لقولهم، فيقول: أخرجوا من النار كل مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فحينئذ يود الذين كفروا أن لو كانوا مسلمين}.
قال القاضي أبو محمد: ومن العبر في هذه الآية حديث الوابصي الذي في صدر ذيل الأمالي، ومقتضاه أنه ارتد ونسي القرآن إلا هذه الآية.
وقوله: {ذرهم يأكلوا} الآية وعيد وتهديد، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف، وقوله: {فسوف يعلمون} وعيد ثان، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين؟
ومعنى قوله: {ويلههم} أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الر تلك آيات الكتاب}
قوله تعالى: {وقرآن مبين} فيه قولان:
أحدهما: أن القرآن هو الكتاب، جُمع له بين الاسمين.
والثاني: أن الكتاب: هو التوراة والإِنجيل، والقرآن: كتابُنا.
وقد ذكرنا في أول {يوسف} معنى المبين.
قوله تعالى: {ربما} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي {رُبَّما} مشددة.
وقرأ نافع، وعاصم، وعبد الوارث {رُبَما} بالتخفيف.
قال الفراء: أسَد وتميم يقولون: {رُبَّما} بالتشديد، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون: {رُبَما} بالتخفيف.
وتَيْم الرّباب يقولون: {رَبَّما} بفتح الراء.
وقيل: إِنما قرئت بالتخفيف، لِما فيها من التضعيف والحروف، المضاعَفة قد تحذف، نحو إِنّ ولكنّ فإنهم قد خفَّفوها.
قال الزجاج: يقولون: رُبَّ رُجل جاءني، ورُبَ رُجل جاءني، وأنشد:
أزهير إِن يَشِبِ القَذالُ فإنني ** رُبَ هَيْضَلٍ مَرْسٍ لفَفْت بِهَيضَلِ

هذا البيت لأبي كبير الهذلي، وفي ديوانه:
رُبَ هَيْضَلٍ لِجَبٍ لفَفْتُ بِهَيْضَلِ

والهَيْضَل: جمع هَيْضلة، وهي الجماعة يُغزى بهم يقول: لففتهم بأعدائهم في القتال.
ورُبَّ كلمة موضوعة للتقليل، كما أن كم للتكثير، وإِنما زيدت ما مع رُبَّ ليليَها الفعل، تقول: رُبَّ رجل جاءني، وربما جاءني زيد.
وقال الأخفش: أُدخل مع رُبَّ ما، ليُتكلم بالفعل بعدها، وإِن شئت جعلت ما بمنزلة شيء، فكأنك قلت: رُبَّ شيء، أي: رُبَّ وَدٍّ يَوَدُّه الذين كفروا.
وقال أبو سليمان الدمشقي: ما هاهنا بمعنى حين، فالمعنى: رُبَّ حين يَوَدُّون فيه.
واختلف المفسرون متى يقع هذا من الكفار، على قولين: أحدهما: أنه في الآخرة.
ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال.
أحدها: أنه إِذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله من أهل القِبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إِسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها؛ فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القِبلة فأُخرجوا فلما رأى ذلك الكفار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنُخرَج كما أُخرجوا، رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إِليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإِبراهيم.
والثاني: أنه ما يزال الله يرحم ويشفِّع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والثالث: أن الكفار إِذا عاينوا القيامة، وَدُّوا لو كانوا مسلمين، ذكره الزجاج.
والرابع: أنه كلما رأى أهل الكفر حالًا من أحوال القيامة يعذَّب فيها الكافر ويَسلم من مكروهها المؤمن، وَدُّوا ذلك، ذكره ابن الأنباري.
والقول الثاني: أنه في الدنيا إِذا عاينوا وتبين لهم الضلال من الهدى وعلموا مصيرهم، وَدُّوا ذلك، قاله الضحاك.
فإن قيل: إِذا قلتم: إِن رُبَّ للتقليل، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد، فإنما يناسب الوعيدَ تكثيرُ ما يُتواعَد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدهن: أن {ربما} تقع على التقليل والتكثير، كما يقع الناهل على العطشان والريَّان، والجَوْن على الأسود والأبيض.
والثاني: أن أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثُر عليهم، فإذا عادت إِليهم عقولهم، وَدُّوا ذلك.
والثالث: أن هذا الذي خُوِّفوا به، لو كان مما يُوَدُّ في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإِنسان يخاف الندم إِذا حصل فيه ولا يتيقّنُه، لوجب عليه اجتنابه.
فإن قيل: كيف جاء بعد {ربما} مستقبَل، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي، تقول: ربما لقيت عبد الله؟ فالجواب: أن ما وَعَدَ اللهُ حَقٌّ، فمستقبَلُه بمنزلة الماضي، يدل عليه قوله: {وإِذ قال الله ياعيسى ابن مريم} [المائدة 116]، وقوله: {ونادى أصحابُ الجنة} [الأعراف: 44]. {ولو ترى إِذ فزعوا فلا فوت} [سبأ 51]، على أن الكسائي والفراء حكيا عن العرب أنهم يقولون: ربما يندم فلان، قال الشاعر:
رُبَّما تجزَعُ النفوس من الأم ** رِ له فُرجَة كَحَلِّ العِقالِ

قوله تعالى: {ذرهم يأكلوا} أي: دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا، {ويلههم الأَمَل} أي: ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظهم من الإِيمان والطاعة {فسوف يعلمون} إِذا وردوا القيامة وبالَ ما صنعوا، وهذا وعيد وتهديد، وهذه الآية عند المفسرين منسوخه بآية السيف. اهـ.

.قال القرطبي:

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
تقدّم معناه.
و{الكتاب} قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدّمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين.
وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين.
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
رُبّ لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها ما هيّأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد.
ويجوز أن تكون ما نكرة بمعنى شيء، و{يودّ} صفة له؛ أي رب شيء يودّ الكافر.
وقرأ نافع وعاصم {ربما} مخفّف الباء.
الباقون مشدّدة، وهما لغتان.
قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربّما؛ قال الشاعر:
رُبَما ضربةٍ بسيف صقيلٍ ** بين بُصْرَى وطعنةٍ نجلاء

وتميم وقيس وربيعة يثقلونها.
وحكي فيها: رُبَّمَا ورُبَمَا، ورُبَّتَمَا ورُبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضًا.
وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يودّ الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون.
ومنه قول الشاعر:
ألا ربّما أهدت لك العين نظرةً ** قُصاراك منها أنها عنك لا تُجدِي

وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشَغْلهم بالعذاب، والله أعلم.
وقال: {رُبَمَا يَوَدُّ} وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عِيان قد كان.
وخرّج الطبرانيّ أبو القاسم من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسًا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيّرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نَفَعكم فلا يبقى موحّد إلا أخرجه الله من النار. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}»
قال الحسن: إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة وما رأواهم في النار تمنّوا أنهم كانوا مسلمين.
وقال الضحاك: هذا التمني إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبيّن لهم الهدى من الضلالة.
وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} تهديد لهم.
{وَيُلْهِهِمُ الأمل} أي يشغلهم عن الطاعة.
يقال: ألهاه عن كذا أي شغله، ولهِيَ هو عن الشيء يَلْهَى.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا.
وهذه الآية منسوخة بالسيف.
الثانية: في مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا» وطولُ الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتدّ علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء.
وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحبُّ لها والإعراض عن الآخرة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نجا أوّل هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل» ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إنّ من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرًا ويبنون مشيّدًا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بُورًا وبنيانهم قبورًا وأملهم غرورًا.
هذه عاد قد ملأت البلاد أهلًا ومالًا وخيلًا ورجالًا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:
يا ذا المؤمل آمالا وإن بَعُدت ** منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنَّى تفوز بما ترجوه وَيْكَ وما ** أصبحت في ثقة من نَيْل أدناها

وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل.
وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى.
وهذا أمر قد شوهد بالعِيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يُطْلَب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويُحيل على المبادرة، ويحثّ على المسابقة. اهـ.