فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {الرَ تلك آيات الكتاب وقرآن مبين}
تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب وبالقرآن المبين: الكتاب الذي وعد به الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتنكير القرآن للتفخيم، والتعظيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابًا، وفي كونه قرآنًا وأي قرآن كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان وقيل: أراد بالكتاب التوراة والإنجيل، لأن عطف القرآن على الكتاب والمعطوف غير المعطوف عليه وهذا القول ليس بالقوي، لأنه لم يجر للتوراة والإنجيل ذكر حتى يشار إليهما.
وقيل: المراد بالكتاب القرآن وإنما جمعهما بوصفين وإن كان الموصوف واحدًا لما في ذلك من الفائدة وهي التفخيم والتعظيم، والمبين الذي يبين الحلال من الحرام، والحق من الباطل {ربما} قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان ورب للتقليل وكم للتكثير، وإنما زيدت ما مع رب ليليها الفعل تقول رب رجل جاءني وربما جاءني زيد وإن شئت جعلت ما بمنزلة شيء كأنك قلت رب شيء فتكون المعنى رب شيء {يود الذين كفروا} وقيل: ما في ربما بمعنى حين أي رب حين يود يعني يتمنى الذين كفروا لأن التمني هو: تشهي حصول ما يوده، واختلف المفسرون في الوقت الذي يتمنى الذي كفروا {لو كانو مسلمين} على قولين أحدهما: أن ذلك يكون عند معاينة العذاب وقت الموت فحيئنذ يعلم الكافر أنه كان على الضلال، فيتمنى لو كان مسلمًا، وذلك حين لا ينفعه ذلك التمني.
قال الضحاك: هو عند حالة المعاينة والقول الثاني: إن هذا التمني يكون في الآخرة، وذلك حين يعاينون أهوال يوم القيامة وشدائده وما يصيرون عليه من العذاب فحينئذ يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وقال الزجاج: أن الكافر كلما رأى حالًا من أحوال العذاب ورأى حالًا من أحوال المسلم ود لو كان مسلمًا وقيل إذا رأى الكافر أن الله تعالى يرحم المسلمين، ويشفع بعضهم في بعض حين يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين والقول المشهور أن ذلك التمني حين يخرج الله المؤمنين من النار عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغفرها الله لهم بفضل رحمته فيأمر الله بكل من كان من أهل القبلة في النار، فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» ذكره البغوي بغير سند، وكذا ذكره ابن الجوزي وقال: وإليه ذهب ابن عباس في رواية عنه عن أنس بن مالك ومجاهد وعطاء وأبو العالية وإبراهيم يعني النخعي.
فإن قلت: رب إنما وضعت للتقليل، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
قلت: قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على فعله، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكًا فيه أو كان قليلًا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمِّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرًا لك عن هذا الفعل.
فيكف بكثيره؟ وقيل: إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم.
فإن قلت: رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال: ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال: ربما ود.
قوله سبحانه وتعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها {ويلههم الأمل} يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى: {فسوف يعلمون} يعني إذا وردوا القيامة، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله، وقال بعض أهل العلم: ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين.
قال علي بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل، ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الر} قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعدِ وأخواتِها {تِلْكَ} إشارةٌ إليه أي تلك السورةُ العظيمةُ الشأن {الكتاب الحكيم} الكاملِ المعهود الغنيِّ عن الوصف به المشهورُ بذلك من بين الكتب الحقيقُ باختصاص اسمِ الكتاب به على الإطلاق، أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسم خاصَ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزَلِ إذ ذاك إذ هو المتسارِعُ إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدةُ وصف الآياتِ بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ لا على جعله عبارةً عن السورة، إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبةِ من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارةٌ عن جميع آياتها، فلابد من جعل {تلك} إشارةٌ إلى كل واحد منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى كما ذكر في سورة الرعد {وَقُرْءانَ} أي قرآنٍ عظيمِ الشأن {مُّبِينٌ} مظهر لما في تضاعيفه من الحِكَم والأحكام أو لسبيل الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحق والباطل والحلالِ والحرام، ولقد فُخّم شأنه العظيم مع ما جُمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين، إحداهما اشتمالُه على صفات كمالِ جنس الكتبِ الإلهية فكأنه كلُّها، والثانيةُ طريقةُ كونِه ممتازًا عن غيره نسيجَ وحدِه بديعًا في بابه خارجًا عن دائرة البيانِ، وأُخّرت الثانية لما أن الإشارةَ إلى امتيازه عن سائر الكتبِ بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيرِه من الكتب أدخلُ في المدح كيلا يُتوَهّم من أول الأمرِ أن امتيازَه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصةٍ به من غير اشتمالٍ على نعوت كمالِ سائرِ الكتب الكريمة، وهكذا الكلامُ في فاتحة سورةِ النمل خلا أنه قُدّم فيها القرآنُ على الكتاب لما سيذكر هناك، ولمّا بيِّن كونُ السورة الكريمةِ بعضًا من الكتاب والقرآنِ لتوجيه المخاطَبين إلى حُسن تلقّي ما فيها من الأحكام والقِصص والمواعظ شُرع في بيان ما تتضمّنه فقيل:
{رُّبَمَا} بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ، وقرئ بالتشديد وبفتح الراء مخففًا وبزيادة التاء مشددًا، وفيه ثماني لغات: فتح الراء وضمها مشددًا ومخففًا وبزيادة التاء أيضًا مشددًا ومخففًا، ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم، وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي، ودخولُه على قوله تعالى: {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقيق الوقوع، فكأنه قيل: ربما وَد الذين كفروا، والمرادُ كفرُهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى: {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره، وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى، وتلك الوَدادةُ يومَ القيامة أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين، أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار.
روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء الله تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها، فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة، فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام، والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم، وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جريًا على سنن العرب فيما يقصِدون به الإفراط فيما يعكسون عنه، تقول لبعض قوادِ العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: ربَّ فارسٍ عندي، أو لا تعدمُ عندي فارسًا وعنده مناقبُ جمّةٌ من الكتائب، وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ ما عنده فضلًا عن تكثير القليل، وهذه طريقةٌ إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبةُ ريب فيُصار إليه هضمًا للحق، فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليومِ الآخر، وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياءِ، وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعدمِ الاعتدادِ بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ} الآية، أو ذهابًا إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد، أو قليلًا ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه، فكيف إذا كان متيقن الحمد؟ كما في قولهم: لعلك ستندم على ما فعلت، وربما ندِم الإنسان على ما فعل، فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به، أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقِلّ وقوعُه فيه، فكيف بقطعيّ الوقوع؟ وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزًا عن ذلك الفعلِ، فكيف كثيرُه؟ والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن يفارقوه، فكيف وهم يودّونه كل آن؟ وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عما هم عليه من الكفر، وهذان طريقان متمايزانِ ذاتًا ومقامًا فمن ظنَّهما واحدًا فقد نأى عن توفية المقام حقَّه.
{ذَرْهُمْ} دعْهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك، وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه {يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم، وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتعِ البهائم بالمآكل والمشارب، والمرادُ دوامُهم على ذلك لا إحداثُه، فإنهم كانوا كذلك، أو تمتعُهم بلا استماعِ ما ينغص عيشَهم من القوارع والزواجر، فإن التمتعَ على ذلك الوجه أمرٌ حادث يصلُح أن يكون مترتبًا على تخليتهم وشأنَهم {وَيُلْهِهِمُ} ويَشْغَلْهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة، فإن الأكلَ والتمتعُ يفضيان إلى ذلك {الأمل} والتوقعُ لطول الأعمارِ وبلوغِ الأوطار واستقامةِ الأحوال وألا يَلْقَوا في العاقبة والمآل إلا خيرًا، فالأفعالُ الثلاثة مجزومةٌ على الجوابية للأمر حسبما عرفتَ من تضمن الأمرِ بالترك للأمر بها على طريقة المجاز، أو على أن يكون المرادُ بالأفعال المرقومة مباشرَتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غيرَ سامعين لسوء مَغَبَّتها أصلًا ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهيَ عما هم عليه من ارتكاب القبائحِ مما يشوّش عليهم تمتعَهم وينغّص عليهم عيشَهم فأُمر عليه السلام بتركه ليتمرّغوا فيما هم فيه من حظوظهم فيدهَمَهم وهم عنه غافلون {فَسَوفَ يَعْلَمُونَ} سوءَ صنيعهم أو وخامةَ عاقبته أو حقيقةَ الحال التي ألجأتْهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك، وهو مع كونه وعيدًا أيَّما وعيدٍ وتهديدًا غِبَّ تهديدٍ، تعليلٌ للأمر بالترك فإن علمَهم ذلك علةٌ لترك النهي والنصيحةِ لهم، وفيه إلزامٌ للحجة ومبالغةٌ في الإنذار إذ لا يتحقق الأمرُ بالصد إلا بعد تكررِ الإنذارِ وتقرّرِ الجحود والإنكار، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء. اهـ.

.قال الألوسي:

{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر}
قد تقدم الكلام فيه {تِلْكَ} اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن {ءايات الكتاب} الكامل الحقيقي باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك {وَقُرْءانَ} عظيم الشأن كما يشعر به التنكير {مُّبِينٌ} مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازًا عن غيره نسيج وحده بديعًا في بابه خارجًا عن دائرة البيان قرآنًا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر هاهنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرًا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ؛ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن.
وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات.
والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن اسورة.
وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة.
وإما القرآن فآثر هاهنا أحد إلا وجه هناك.
قال في الكشف: لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} [الرعد: 1]، وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال: وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك.
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن هاهنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنًا لأنه أدل على خصوص المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلابد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى.
ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلًا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف.
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض، فإن قلت: رجع المآل إلى أن {الكتاب وَقُرْ إن} وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه {الرَ تِلْكَ} وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ {الكتاب} قلت: أقدره معرفة {الرَ تِلْكَ} في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذًا محدود بل محصور إلى آخر ما قاله، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد وقتادة، وأمر العطف على هطا طظاهر جدًا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر، والمراد بالإشارة عليه خفاء أيضًا.
وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} بما يجب الايمان به {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} مؤمنين بذلك، وقيل: المراد كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود، وفيه نظر، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار.
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس وأنس رضي الله تعالى عنهم أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشكرون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسًا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من الناس ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية».