فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو؛ وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لابد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إا وضع واحد وهو الحقيقة، وقيل: إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول {يَوَدُّ} ما علمت، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعدما يدل على التمني فالمصدر حينئذٍ هو المفعول وهو على القول بأن {مَا} نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر.
وقرأ عاصم ونافع {رُّبَمَا} بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لاسيما فيما يتعلق برب لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة برب نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
{ذَرْهُمْ} أي اتركهم وقد استغنى غالبًا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلًا وذر، وفي الحديث: «ذروا الحبشة ما وذروكم» والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والأنذار كأنه قيل: خلهم وشأنهم {يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم، وفي تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب، والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر، وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندمًا، ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال: أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية، والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورًا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت: لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك: لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورًا بها مجازًا كقولك: اسلم تدخل الجنة، وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورًا به على ما أرشدت إليه اهـ، وهو من النفاسة بمكان، وظن أن انفهام الأمر من تقدير لامه قبل الفعل من بعض الأمر، وما في البحر من أنه إذا جعل {ذَرْهُمْ} أمرًا بترك نصيحتهم وشغل باله صلى الله عليه وسلم بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر الأسرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال: ولذلك صح أن يكون المذكور جوابًا لأنه عليه الصلاة والسلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هنأهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى.
ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبًا على تخليتهم وشأنهم فتأمل {وَيُلْهِهِمُ الامل} ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرًا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني.
وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة، وقيل: المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي، وهذا كما قيل مع كونه وعيدًا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك، وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده، وفي الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة، وجاء عن الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وأخرج أحمد في الزهد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال: صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك أخرها بالبخل والأمل.
وفي بعض الآثار عن علي كرم الله تعالى وجهه إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمر واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق. اهـ.

.قال القاسمي:

{الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}.
{الَرَ} تقدم الكلام في مثله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} الإشارة إلى: {الَرَ} لأنه اسم للسورة، أي: تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي. من {أَبَان} المتعدي. أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه، وكونه آية قاهرة من {أَبَان} اللازم. أو الإشارة إلى آيات السورة، أو إلى جميع آيات القرآن، وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم، كتنكير {قرآن}، وقوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بظهور دينه، وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين؛ لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين؛ لأن من تأخر إسلامه منهم، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى، ولكن لا يلحق السابقين: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد: 10]، وفيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها؛، لما أن العاقبة له، وإنما جيء بصيغة التقليل جريًا على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، ترفعًا واستغناءً عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهوره.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} أي: بدنياهم وتنفيذ شهواتهم: {وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} أي: يشغلهم عن التوبة والتذكير، أملَ استقامة الحال، وأن لا يلقوا إلا خيرًا في المآل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: لمن تكون له العقبى. قال الزمخشري: فيه تنبيه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27]، وقوله: {حتى إِذَا جَاءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31]. الآية، وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلًا} [الفرقان: 27]. إلى غير ذلك من الآيات، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد. لأن من يقول إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تنى أنه كان مسلمًا، ومن يقول إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلمًا، ومن يقول إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين.
وقرأ نافع وعاصم {ربَمَا} بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني:
ربما ضربة بسيف صقيل ** بين بصري وطعنة نجلاء

والثاني كثير جدًا ومنه قول الآخر:
ألا ربما أهدت لك العيم نظرة ** قصاراك منها أنها عنك لا تجدى

ورب في هذا الموضع قال بعض العلماء للتكثير أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، ونقل القرطبي هذا القول عن الكوفيين قال ومنه قول الشاعر:
إلا ربما أهدت لك العين البيت

وقال بعض العلماء هي هنا للتقليل لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لثقلهم بالعذاب. فإن قيل: ربما لا تدخل إلا على الماضي فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع؟ فالجواب أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه كالواقع بالفعل ونظيره قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1]. الآية ونحوها من الآيات، فعبر بالماضي تنزيلًا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل.
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتركهم يأكلون ويتمتعون، فسوف يعلمون حقيقة ما يؤول إليه الأمر من شدة تعذبيهم وإهانتهم، وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30]، وقوله: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} [المرسلات: 46]، وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8]، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83]، وقوله: {فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد كما في الآية المذكورة وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ذّرْهُمْ} يعني اتركهم، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع، فماضيه ترك، ومصدره الترك، واسم الفاعل منه تارك، واسم المفعول منه متروك، وقال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بآيات السيف، والعلم عند الله تعالى. قال القرطبي: والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها والحب لها والإعراض عن الآخرة، وعن الحسن رحمه الله أنه قال: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل، وقد قدمنا عللاج طول الأمل في سورة البقرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
{الر}. تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس.
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن.
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزًا كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب.
وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد.
و{الكتاب} علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة، وسمي كتابًا لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومُراجعته؛ فقد سمي القرآن كتابًا قبل أن يُكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتابًا.
ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية دينه.
ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علمًا بالغلبة جائيًا من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كماللِ الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلَم بالغلَبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه، أي من كتب الشرائع.
وعطف {وقرآن} على {الكتاب} لأن اسم القرآن جعل علمًا على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع، فهو الاسم العلَم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء.
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلَم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلَم بالغلبة، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام.
فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام، وإن عُرّف فتعريفه لِلَمْح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن {القرآن} منقول من المصدر الدال على القراءة، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة. وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم.
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن {قرآن} بمنزلة عطف البيان من {كتاب} وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف ومَا هو منه، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو {مبين}. وهذا كله اعتبار بالمعنى.
وابتُدىء بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف.
ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير.
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين.
فلما كان الكلام موجهًا إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتابًا، لأنهم حين جادلوا ما جالوا إلا في كتاب فقالوا: {لَوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157]، ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان كتاب، ويعرفونهم بعنوان أهل الكتاب.
فأما عنوان القرآن فهو مناسب لكون الكتاب مقروءًا مدروسًا وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به.
ولذلك قدم عنوان القرآن في سورة النمل كما سيأتي.
والمبين: اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بَان مبالغة في ظهوره، أي ظهور قُرآنيته العظيمة، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم.
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه. وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل.
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار.
و{ربما} مركبة من {رب}.
وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء.
وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال. وفيها عدة لغات. وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بتشديدها.
واقترنت بها {ما} الكافة لـ: {ربّ} عن العمل.
ودخول {ما} بعد {رب} يكُف عملها غالبًا. وبذلك يصح دخولها على الأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل. والأكثر أن يكون فعلًا ماضيًا، وقد يكون مضارعًا للدلالة على الاستقبال كما هنا. ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق.
ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي، وتأول نحو الآية بأنه منزّل منزلة الماضي لتحققه.
ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يَودّوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة.
والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام. والمعنى: قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا.
والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف، أي احذروا وَدادتكم أن تكونوا مسلمين، فلعلها أن تقع نادرًا كما يقول العرب في التوبيخ: لعلك ستندم على فعلك، وهم لا يشكون في تندمه، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكًا فيه لكان حقًا عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم، لأن العاقل يتحرز من الضُر المظنون كما يتحرز من المتيقن.
والمعنى أنهم قد يودّون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات.
والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه، وذلك عندما يقتلون بأيدي المسلمين، وعند حضور يوم الجزاء، وقد ودّ المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين.
وعن ابن مسعود: ودّ كفارُ قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين.