فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}
قد يقال في هذه الآية الكريمة كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك والجواب أن قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر يعنون في زعمه تهكمًا منهم به، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، وقوله عن قوم شعيب {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87].
{لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}
{لَّوْ مَا} في هذه الآية الكريمة للتخصيص وهو طلب الفعل طلبًا حثيثًا، ومعنى الآية: أن الكفار طلبوا من النَّبي صلى الله عليه وسلم طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلًا على صدقه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53]، وقوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، وقوله: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8]. الآية وقوله: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]، وقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92]. إلى غير ذلك من الآيات، واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين الأول منهما التخصيص ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ومثاله في لولا قول جرير:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

يعني فهلا تعدون الكمي المقنع، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره وهو في لولا كثير جدًا كقول عامر بن الأكوع رضي الله عنه.
تالله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا

ومثاله في لوما قول ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتخصيص.
تنبيه:
قد ترد أدوات التخصيص والنتديم، فتخص بالماضي أو ما في تأويله نحو {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98]. الآية وقوله: {لَّوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13]، وقوله: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَانًا آلِهَةَ} [الأحقاف: 28]. الآية، وجعل بعضهم منه قول جرير:
تعدون عقر النيب

البيت المتقدم آنفا قائلًا إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي.
{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق اي بالوحي وقيل بالعذاب، وقال الزمخشري: إلا تنزيلًا متلبسًا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عيانًا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النَّبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار قال: ومثل هذا قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الحجر: 85]، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة، ما كانوا منظرين وذلك في قوله: {وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} لأن التنوين في قوله إذًا عوض عن جملة، ففيه شرط وجزاء، وتقدير المعنى ولو نزلت عليكم الملائكة ما كانوا منظرين أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]. الآية وقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} [الأنعام: 8]. إلى غير ذلك من الآيات، وقوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} قرأه حفص وحمزة والكسائي: ننزل بونين، الأولى مضمومة الثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة، والملائكة بالنصب مفعول به لننزل، وقرأ شعبة: تنزل بتاء مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول، والملائكة بالرفع نائب فاعل تنزل، وقرأ الباقون: تنزل بفتح التاء والنون والزاي المشددة أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين، والملائكة بالرفع فاعل تنزل كقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4]. الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكمًا يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك، أي ما أهلكنا أمّة إلا وقد متّعناها زمنًا وكان لهلاكها أجل ووقت محدود، فهي ممتعة قبل حلوله، وهي مأخوذة عند إبانه. وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيدٌ بتنظيرهم بالمكذبين السالفين.
وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبلُ لتذكير هؤلاء بسنّة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرّهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد.
وهذا تهديد لا يقتضي أن المشركين قدر الله أجلًا لهلاكهم، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيرًا منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر.
والقَرْية: المدينة.
وتقدمت عند قوله تعالى: {أو كالذي مرّ على قرية} في سورة البقرة {259}.
والكتاب: القَدَر المحدود عند الله.
شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص.
وهو معلوم عند الله، لا يضلّ ربي ولا ينسى.
وجملة {ولها كتاب معلوم} في موضع الحال، وكفاك علمًا على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال، وصاحب الحال هو {قرية} وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوّغ مجيء الحال منه كما سوّغ العموم صحة الإخبار عن النكرة.
وجملة {ما تسبق من أمةٍ أجلها} بيان لجملة {ولها كتاب معلوم} لبيان فائدة التحديد: أنه عدم المجاوزة بدءًا ونهاية.
ومعنى {تسبق أجلها} تفوته، أي تُعْدم قبل حلوله، شبّه ذلك بالسبق.
و{يستأخرون}: يتأخرون. فالسين والتاء للتأكيد. وأنّث مفردًا ضمير الأمّة مرة مراعاة للفظ، وجُمع مذكرًا مراعاة للمعنى.
وحذف متعلق {يستأخرون} للعلم به، أي وما يستأخرون عنه.
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}
عطف على جملة {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} [سورة الحجر: 3].
والمناسبة أن المعطوف عليها تضمنّت انهماكهم في الملذّات والآمال، وهذه تضمّنت توغّلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمّدية.
والمعنى: ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء.
والجملة كلها من مقولهم.
والنداء في {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} للتشهير بالوصف المنادى به، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكّم.
وقرينة التهكّم قولهم: {إنك لمجنون}.
وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صَرفًا لألسنتهم عن الشتم.
وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أو هجوه يدعونه مذممًا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «ألَمْ تَرَيْ كيف صرف الله عني أذى المُشركين وسبّهم، يسبون مُذممًا وأنا محمد».
وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعيه صاحب اسم الموصول، لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكّم.
و{الذكر}: مصدر ذكر، إذا تلفظ.
ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء.
فالذكر الكلام الموحَى به ليتلَى ويكرر، فهو للتلاوة لأنه يُذكر ويعاد؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين، وقد شملها قوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم} [سورة الأنبياء: 10]، وقال: {وإنه لذكر لك ولقومك} [سورة الزخرف: 44]، والمراد به هنا القرآن.
فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن تَرد في القرآن.
وكذلك تسميته قُرآنًا لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة.
ويدلك لهذا قوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين} [سورة يس: 69]، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمد شعرًا، ووصفه بأنه ذكر وقرآن، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه.
فالمراد: أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن، لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير.
ثم صار القرآن بالتعريف باللام عَلَمًا بالغلبة على الكتاب المنزّل على محمد كما علمت آنفًا.
وإنما وصفوه بالجنون لتوهّمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهّمًا منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء، فالداعي به غير عاقل.
والمجنون: الذي جُنّ، أي أصابه فساد في العقل من أثر مسّ الجنّ إياه في اعتقادهم، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول.
وتأكيد الجملة بـ {إن} واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعلّه يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم.
وجملة {لو ما تأتينا بالملائكة} استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جاريًا على مطابقة الواقع فأكثره كذب.
و{لو ما} حرف تحضيض بمنزلة لولا التحضيضية. ويلزم دخولها الجملة الفعلية.
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة.
وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى: {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} [سورة الإسراء: 92].
و{من الصادقين} أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من {إن كنت صادقًا}، كما تقدم في قوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} في سورة براءة [الآية 219]، وفي قوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلي} في [سورة البقرة 67].
{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}
مستأنفة ابتدائية جوابًا لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم.
وابتدىء في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا: {لو ما تأتينا بالملائكة} [سورة الحجر: 7].
أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول، فكان جوابهم مشوبًا بطرف من الأسلوب الحكيم، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب، فأراد الله أن لا يدخرهم هديًا وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا. والنزول: التدلي من علو إلى سفل.
والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولًا مخصوصًا.
وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على الكافرين، كما أنزلوا إلى مدائن لوط عليه السلام.
وليس مثل نزول جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة إلى الرسل عليهم السلام بالشرائع أو بالوحي.
قال تعالى في ذكر زكرياء عليه السلام {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشّرك بيحيى} [سورة آل عمران: 39].
والمراد بـ الحق هنا الشيء الحاقّ، أي المقضي، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضيّ.
وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام، أي العذاب الحاقّ.
قال تعالى: {وكثير حقّ عليه العذاب} [سورة الحج: 18]، وبقرينة قوله: {وما كانوا إذا منظرين}، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء.
عليهم الصلاة والسلام إلا مصاحبين للعذاب الحاقّ على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال.
ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا.
ويفهم من هذا أن الله منظرهم، لأنه لم يُرد استئصالهم، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا، ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم.
ونظير هذا قوله تعالى في [سورة الأنعام: 8]: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رؤوس المشركين.
والإنظار: التأخير والتأجيل.
و{إذًا} حرف جواب وجزاء. وقد وسطت هنا بين جزأي جوابها رعيًا لمناسبة عطف جوابها على قول: {ما تنزل الملائكة}.
وكان شأن {إذن} أن تكون في صدر جوابها.
وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم: {لو ما تأتينا بالملائكة} [سورة الحجر: 7].
وجملة ما تنزل الملائكة إلا بالحق مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب، فقدم لأنه أوقع في الرد، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب.
وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم مُنظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاقّ.
وهذا المعنى وارد في قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} [سورة العنكبوت: 53].
وقرأ الجمهور {ما تنزل} بفتح التاء على أن أصله {تتنزَّل}.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة.
وقرأ الكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف {ما ننزل الملائكة} بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)}
أي: أنه سبحانه لا يأمر بهلاك أيّ قرية إلا في الأجل المكتوب لها، ويجعلها من المُثل التي يراها مَنْ يأتي بعدها لعله يتعظ ويتعرَّف على حقيقة الإيمان.
وقد قال الحق سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
والمثل القريب من الذاكرة لبنان التي عاشت إلى ما قبل الخمسينات كبلد لا تجد فيه فندقًا لائقًا، ثم ازدهرتْ وانتعشتْ في الستينات والسبعينات؛ واستشرى فيها الفساد؛ فقال أهل المعرفة بالله: لابُدَّ أن يصيبها ما يصيب القرى الكافرة بأنعُمِ الله.
وقد حدث ذلك وقامت فيها الحرب الأهلية، وانطبق عليها قول الحق سبحانه: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
وهذا ما يحدث في الدنيا، وهي مُقدّمات تُؤكّد صدْق ما سوف يحدث في الآخرة.
وسبحان القائل: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُورًا} [الإسراء: 58].
وبطبيعة الحال؛ فهذا ما يحدث لأيِّ قرية ظالم أهلُها؛ لأن الحق سبحانه لا يظلم مِثْقال ذرة.
وأذكر أن تفسير النسفي قد صُودِر في عصر سابق؛ لأن صاحب التفسير قال عند تفسيره لهذه الآية: حدثني فلان عن فلان أن البلد الفلاني سيحصل فيه كذا؛ والبلد الآخر سوف يحدث فيه كذا إلى أن جاء إلى مصر وقال بالنص: ويدخل مصر رجل من جهينة، فويْل لأهلها، ووَيْل لأهل سوريا، ووَيْل لأهل الرَّمْلة، ووَيْل لأهل فلسطين، ولا يدخل بيت المقدس.
ومادام الحق سبحانه قد قال: {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُورا} [الإسراء: 58].
فهو يُعلّم بعضًا من خلقه بعضًا من أسراره، فلا مانعَ من أن نرى بعضًا من تلك الأسرار على ألسنتهم، وحين ذاعت تلك الحكاية، وقالوها للرئيس الذي كان موجودًا، وقالوا له: أنت من جهينة وهم يقصدونك. صُودِر تفسير النسفي.
إذن: فقد ترك الحق سبحانه لنا في الدنيا مثلًا يؤكد صِدْقه فيما يحكيه عن الوعيد لبعض القرى حتى نُصدّق ما يمكن أن يكون بعد يوم القيامة، وحين يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4].