فصل: بصيرة في فتح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بصيرة في فتح:

قد ورد في القرآن على وجوه:
الأَوَّل: بمعنى القضاءِ والحكومة، نحو قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، أَى حكمنا وقضينا، {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أَى يقضى، {مَتَى هذا الْفَتْحُ} أَى القضاء، {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} أَى يوم القضاء.
الثانى: بمعنى إِرسال الرَّحمة: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ}، أَى ما يُرسل.
الثالث: بمعنى النُضْرة: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} أَى بالنصرة.
الرَّابع: بمعنى إِزالة الأَغلاق.
وهذا يأْتى على وجوه:
الأَوَّل: بمعنى فتح أَبواب النُّصْرة: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}.
الثانى: بمعنى فتح أَبواب الغنيمة والظفر بها: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ}.
الثالث: فتح خزائن القدرة: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.
الرَّابع: فتح أَبواب النعمة: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}.
الخامس: فتح أَبواب السَّماءِ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ}.
السَّادس: فتح مغاليق الخُصومات: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}.
السَّابع: فتح أَبواب البركة: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ}.
الثامن: فتح أَبواب القتل والإِهلاك: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}.
التاسع: فتح باب البضاعة: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ}.
العاشر: فتح أَبواب السَّمَاءِ على طريق الإِعجاز: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ}.
الحادى عشر: فتح السَّدّ يوم القيامة: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}.
الثانى عشر: فتح أَبواب العذاب: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
الثالث عشر: فتح بيوت الأَصدقاء وَذوى القُرْبى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْصَدِيقِكُمْ}.
الرَّابع عشر: فتح باب الدُّعاءِ رجاءً للإِجابة: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا}.
الخامس عشر: فتح أَبواب الجنَّة: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
السَّادس عشر: فتح أَبواب جهنَّم: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.
السَّابع عشر: فتح أَبواب الثواب والكرامة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.
الثَّامن عشر: فتح أَبواب الطوفان: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ}.
التَّاسع عشر: فتح البلاد على يَديْ أَهل الإِسلام: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}.
قال أَبو القاسم الأَصبهانيّ: الفَتْح ضروب:
أَحدها: ما يُدرك بالبصر، كفتح الباب والقُفْل والمتاع.
والثانى: ما يدرك بالبصيرة، كفتح الهمّ وهو إِزالة الغمّ، وذلك ضربان: غَمّ يُفَرَّج، وفقر يزال، ونحوه قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، أَى وسَّعنا عليهم: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، أَى أَقبل عليهم الخيرات من كلّ جانب.
والثالث: فتح المستغِلق من العلوم.
قلت: وذلك على ضربين: الأَوَّل بتوفيق الاستكثار من العلوم الظَّاهرة وتحقيق معانيها، والثانى بفتح باب القلب إِلى العلم اللَّدنِّيّ كما تقدَّم بيانه في بصيرة العلم.
وقيل في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إِنه عنى فتح مكَّة.
وقيل: بل عنى ما فتح عليه من العلوم والهدايات التي هي ذريعة إِلى الثواب العظيم، والمقامات المحمودة التي صارت سببًا لغفران ذنوبه.
وفاتحة كل شيء مبدؤه الذي يفتح به ما بعده، وبه سمّى فاتحة الكتاب.
ويقال: افتتح فلان كذا أَى ابتدأَه، وفتح عليه كذا: أَعلمه ووقَّفه عليه: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}.
وقيل: في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يحتمل النَّصر والظفر والحكم وما يفتح الله من المعارف، وعلى ذلك: {نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وقوله: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} أَى يوم الحكم، وقيل يوم إِزالة الشُّبهة بإِقامة القيامة، وقيل: ما كانوا يستفتحون من العذاب ويطلبونه.
والاستفتاح: طلب الفتح أَو الفِتَاح قال: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أَى إِن طلبتم الظفر أَو الفِتَاح أَى الحُكْم، أَو طلبتم مبدأَ الخيرات، فقد جَاءَكم ذلك بمجئ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَى يستنصرون ببَعثة محمدّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقيل: يستعلمون خبره من النَّاس مرَّة، ويستنبطونه من الكُتُب مرَّة، وقيل: يطلبون من الله الظفر بذكره، وقيل: كانوا يقولون إِنا نُنْصر بمحمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم على عَبَدة الأَوْثان.
وقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، أَى ما يتوصَّل به إِلى غَيْبه المذكور في قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}.
وقوله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أَى مفاتح خزائنه، وقيل: عنى بالمفاتح الخزائن نفسها، قال الشَّاعر:
يا سيد الأُمراء والأَلباب ** أَشكو إِليك فظاظة البوّاب

قد كنت جئت لخدمةٍ أَبغى بها ** عزّا فقابلنى بذلِّ حجاب

إِن كنت ترغب سيدى في خدمتى ** فأَقلُّ ما في الباب فتح الباب

.فصل: إنْذَارُ يَهُودَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

قال السهيلي:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ، مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ تَعَالَى وَهُدَاهُ لَمّا كُنّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا: إنّهُ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَكُنّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللّهِ تَعَالَى، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ الْبَقَرَةِ {وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةُ 79].
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَفْتِحُونَ أَيْضًا: يَتَحَاكَمُونَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى: {رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الْأَعْرَافُ 89]. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ- وَكَانَ سَلَمَةُ مِنْ أَصْحَابُ بَدْرٍ- قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ- قَالَ سَلَمَةُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنّا، عَلَيّ بُرْدَةٍ لِي، مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي- فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنّةَ وَالنّارَ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمِ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا، أَنّ النّاس يُبْعَثْنَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ فِيهَا جَنّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي يَحْلِفُ بِهِ وَيَوَدّ أَنّ لَهُ بِحَظّهِ مِنْ تِلْكَ النّارِ أَعْظَمُ تَنّورٍ فِي الدّارِ يَحْمُونَهُ ثُمّ يُدْخِلُونَهُ إيّاهُ فَيُطِيعُونَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النّارِ غَدًا، فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ نَبِيّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكّةَ وَالْيَمَنِ- فَقَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟ قَالَ فَنَظَرَ إلَيّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا، فَقَالَ إنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ. قَالَ سَلَمَةُ فَوَاَللّهِ مَا ذَهَبَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا. قَالَ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَلَسْت الّذِي قُلْت لَنَا فِيهِ مَا قُلْت؟ قَالَ بَلَى. وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي عَمّ كَانَ إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلْ إخْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ ثُمّ كَانُوا سَادَاتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ قُلْت: لَا، قَالَ فَإِنّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ أَهْلِ الشّامِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطّ لَا يُصَلّي الْخَمْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنّا إذَا قَحَطَ عَنّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ اُخْرُجْ يَا بْنَ الْهَيّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ لَهُ كَمْ؟ فَيَقُولُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ فَنُخْرِجُهَا، ثُمّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا، فَيَسْتَسْقِي اللّهَ لَنَا. فَوَاَللّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتّى تَمُرّ السّحَابَةُ وَنُسْقَى، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ وَلَا مَرّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ. قَالَ ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا. فَلَمّا عَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ؟ قَالَ قُلْنَا: إنّك أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّي إنّمَا قَدِمْت هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكّفُ خُرُوجَ نَبِيّ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتّبِعُهُ وَقَدْ أَظَلّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقُنّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدّمَاءِ وَسَبْيِ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ مِمّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاَللّهِ إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيّبَانِ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ قَالُوا: بَلَى وَاَللّهِ إنّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبِهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ.
حَدِيثُ سَلَمَةَ فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ، وَمَا سَمِعَ مِنْ الْيَهُودِيّ حِينَ ذَكَرَ الْجَنّةَ وَالنّارَ وَقَالَ آيَةُ ذَلِكَ نَبِيّ: مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ وَابْنُ وَقّشٍ يُقَالُ فِيهِ وَقَشٌ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ وَتَسْكِينِهَا، وَالْوَقْشُ الْحَرَكَةُ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (90):

قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما استحقوا بهذا وجوه المذامّ كلها وصل به قوله: {بئسما} فأتى بالكلمة الجامعة للمذام المقابلة لنعم الجامعة لوجوه المدائح كلها أي بئس شيء {اشتروا به أنفسهم} أي حظوظهم، فقدموها وأقروها فكان ذلك عين فأخبرها عكس ما فعل المؤمنون من بيعهم لأنفسهم وخروجهم عنها بتعبدهم لله بإيثار ما يرضيه على هوى أنفسهم، فكان ذلك عين تحصيلها وتقديمها، ثم فسر الضمير العائد على المبهم المأخوذ في إحراز النفس فقال: {أن يكفروا} أي يستروا على التجدد والاستمرار علمهم {بما أنزل الله} الذي لا كفؤ له، أي اشتروا أنفسهم فأبقوها لهم على زعمهم بالكفر ولم يجعلوها تابعة؛ ويجوز أن يكون اشتروا بمعنى باعوا، لأنهم بذلوها للشيطان بالكفر كما بذل المؤمنون أنفسهم لله بالإيمان.
ثم علل كفرهم بقوله: {بغيًا} أي حسدًا وظلمًا لأن تكون النبوة في بني إسماعيل عليه السلام.
وقال الحرالي: هو اشتداد في طلب شيء ما. انتهى.
وأصله مطلق الطلب والإرادة، كأن الإنسان لما كان مجبولًا عليها لنقصان ومطبوعًا على الشر والعصيان إلا من عصم الله وأعان كان مذمومًا على مطلق الإرادة، لأن من حقه أن لا تكون له خيرة ولا إرادة بل تكون إرادته تابعة لإرادة مولاه كما هو شأن العبد- والله الموفق.
ثم علل بغيهم بقوله: أن ينزل الله ذو الجلال والإكرام من فضله وفي صيغة ينزل إشعار بتمادي ما يغيظهم فيما يستقبل، وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {على من يشاء من عباده} من العرب الذين حسدوهم.
ثم سبب عن ذلك قوله: {فباءوا} أي رجعوا لأجل ذلك {بغضب} في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم لكونه من العرب {على غضب} كانوا استحقوه بكفرهم بأنبيائهم عنادًا.
ثم علق الحكم الذي استحقوه بوصفهم تعميمًا وإشارة غلى أنه سيؤمن بعضهم فقال: {وللكافرين} أي الذين هم راسخون في هذا الوصف منهم ومن غيرهم عذاب مهين من الإهانة وهي الإطراح إذلالًا واحتقارًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في الشراء هاهنا قولان:
أحدهما: أنه بمعنى البيع، وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته.
قيل: نعم ما اشترى، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك بملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك، الوجه الثاني: وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب، وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها، فذمهم الله تعالى، وقال: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول، ثم إنه تعالى بين تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله} ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره، ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال: {بَغِيًّا} وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلانًا حسدًا تنبيهًا بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلًا لا بغيًا.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام.
ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله: {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد. اهـ.