فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولًا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل إلى بدل {فِى} لم يظهر إرادة هذا المعنى، وقيل: إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده.
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ}
حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن {مَا} لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين، وقال بعضهم: إن الأكثر دخول {مَا} على المضارع مرادًا به الحال وقد تدخل عليه مرادًا به الاستقبال، وأنشد قول أبي ذؤيب:
أودي بني وأودعوني حسرة ** عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
له نافلات ما يغب نوالها ** وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} [يونس: 15]، ولعله المختار وان كان ماهنا على الحكاية، والمراد نفي أتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي اتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعًا أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها {إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} كما يفعله هؤلاء الكفرة، والجملة كما قال أبو البقاء في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل، وتعقب جعلها صفة له باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان {إِلا} وتقدير العمل في النعت بعدها.
وجوز أن تكون نصبًا على الاستثناء وان كان المختار الرفع على البدلية، وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل، وحيث كان الرسول مصحوبًا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه: {كذلك} أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به {نَسْلُكُهُ} أي ندخله يقال: سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت: وقرئ {نَسْلُكُهُ} وسلك وأسلك كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر {فِى قُلُوبِ المجرمين} أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولًا أوليًا، ومعنى المثلية كونه مقرورنًا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة، وحاصلة انه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدمًا في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين.
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الضمير للذكر أيضًا، والجملة في موضع الحال من مفعول {نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12]. أي غير مؤمن به، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الالقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا، ويجوز أن تكون بيانًا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب، قال في الكشف: وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لاسيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام.
وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير {نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12]. للاستهزاء المفهوم من {يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11]. فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير {بِهِ} له أيضًا على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء، وقد ذهب إلى جواز ارجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية، وكذا الفاضل الجلبي، ولا يخفى أن بعد ذلك يغنى عن رده.
وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير {بِهِ} للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذا دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن، وجوز على هذا كون الجملة حالًا من {المجرمين} [الحجر: 12]، ولا يتعين كونها حالًا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقوبه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم، وجعل الآية دليلًا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم: إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه، وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم: الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
وفي الكشف بعد كلام ان رجع الضمير إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذوبًا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه؛ ولخص المعنى هاهنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبًا لا أن التكذيب فعله سبحانه.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس. والحسن تفسير ضمير {نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12]. إلى الشرك، وإخراج هو.
وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية: هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى {الذكر} [الحجر: 9]. بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلًا يظهر له أثر قوى وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه.
وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باتعبار اللطف والإحسان.
وتعقب ذلك الشهاب بقوله: لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم به، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعامًا عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبًا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية، ولا يخفى ما في {كذلك} [الحجر: 12]. مما يناسب نون العظمة أيضًا وقد مر التنبيه عليه غير مرة.
{وَقَدْ خَلَتِ} مضت {سَنَةٍ} طريقة {الاولين} والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على الإضافة بمعنى في، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير {نَسْلُكُهُ} [الحجر: 12]. للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أي قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في اهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم، وإلى الأول ذهب الزجاج، وادعى الإمام أنه الاليق بظاهر اللفظ؛ وبين ذلك الطيبي قائلًا: ان التعريف في {المجرمين} [الحجر: 12]. للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدى في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه السلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اهـ.
وفيه غفلة عن نغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال: أراد أن موقع {قَدْ خَلَتْ} إلى آخره موقع الغاية في الشعراء [201] أعني قوله تعالى هنالك {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} فانهم لما شبهوا بهم قيل: لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافًا إلى ما أضيف إليه ينبىء عن ذلك أشد الأنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضًا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحًا بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروى عن قتادة فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر.
وغيرهما عنه أنه قال في الآية: قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم، وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها.
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} أي على هؤلاء المقترحين المعاندين {بَابًا مِنَ السماء} ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل: {فَظَلُّواْ فِيهِ} أي في ذلك الباب {يَعْرُجُونَ} يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده ظلوا لأنه يقال ظل يعمل كذا إذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأيامًا كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروى عن الحسن وإليه ذهب الجبائي.
وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروى ذلك عن قتادة أيضًا أي فظل الملائكة الذين اقترحوا اتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة {يَعْرُجُونَ} بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود.
{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
{لَقَالُواْ} لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: {إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا} أي سدت ومنعت من الأبصار حقيقة وما نراه تحيل لا حقيقة له، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروى أيضًا عن ابن عباس.
وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء:
غناؤنا فيه ألحان السكور إذا ** قل الغناء ورنات النواعير

ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير. والحسن.
ومجاهد {سُكّرَتْ أبصارنا} بتخفيف الكاف مبنيًا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضمر ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ** أني يفيق فتى به سكران

والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في احساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري {سُكّرَتْ} بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيًا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف ففيه فتح الكاف.
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرًا إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى.
وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب انهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وأن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرًا فأورد عليه بأن {إِنَّمَا} إنما تفيد الحصر في المذكور آخرًا وحينئذ يكون المعنى ما نقدم وهو مبني على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص انه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيدًا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب:
صفاته لم تزده معرفة ** لكنها لذة ذكرناها

أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه.
نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مذردًا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لانفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وان لم يذكر احتمل الوجوب طردًا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرًا إلى المعنى والاتصال نظرًا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيًا اهـ فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وان لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقًا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقوم ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي.
وأبو حيان مع طائفة يسيرة من انلحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.
ووجه الشهاب الاضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه اضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن سترون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر بن المنير في المراد منها وجهًا بعيدًا جدًا فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} إلخ. أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلًا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اهـ فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
أي: من كل من بغى له كيدًا. فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقيَّته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغمًا عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية؛ دلالة على دوام الحفظ.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي: رسلًا: {مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي: فرقهم وطوائفهم. جمع {شيعة} وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة، و{الأولين} نعت لمحذوف. أي: الأمم. أو الكلام من إضافة الصفة للموصوف.
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} أي: كما يفعله هؤلاء المشركون.
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} أي: الذكر المنزل: {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي: الكافرين وقوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالذكر. حال من ضمير {نسلكه} أي: مكذَّبًا مستهزأ به غير مقبول.
قال الزمخشري: كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام. تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقضية، وقيل الجملة بيان لما قبلها، وجوز في ضمير {نسلكه} أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} استئناف جيء به تكملة للتسلية، وتصريحًا بالوعيد والتهديد. أي: قد مضت السنة فيهم من هلاكهم، وزهوق باطلهم، ونصر الرسل وغلبة جنود المؤمنين عليهم واستعمارهم ديارهم، ثم بيَّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم، بقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} أي: على هؤلاء المستهزئين: {بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ} أي: فصاروا طول نهارهم: {فِيهِ يَعْرُجُونَ} أي: يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب.
{لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أي: حيرت أو حبست من الإبصار، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}.
قال الناصر في الانتصاف: المراد، والله أعلم، يعني من الآيتين: إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين. فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء، كلٍّ على علم وفهمٍ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن. فأعلمهم الله تعالى من الآن، وهم في مهلة وإمكان؛ أنهم ما كفروا إلا على علم، معاندين باغين غير معذورين، والله أعلم، ولذلك عقبه تعالى بقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} الآية، أي: هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه، وولج ذلك في قلوبهم ووقر، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يُفتح لهم باب في السماء، ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارًا.
وإلى ذلك الإشارة بقوله: {فَظَلُّوا} لأن الظلول إنما يكون نهارًا؛ لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} وسحرنا محمد، وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها. فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم، كما فهم غيرهم من المصدقين؛ لأن ذلك كله حاصل لهم، وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غيره، والله أعلم. اهـ.