فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا وجه إضافة {شيع} إلى {الأولين}.
و{كانوا به يستهزءون} يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، فـ: {كان} دلّت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم.
ومفعول {أرسلنا} محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رُسلًا، ودلّ عليه قوله: {من رسول}.
وتقديم المجرور على {يستهزءون} يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول.
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}
استئناف بياني ناشىء عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله: {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون} [سورة الحجر: 11]. فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [سورة الذاريات: 53].
والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن جملة {وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر.
فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل.
ونظيره قوله في الآية الأخرى {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [سورة التوبة: 125].
والتعبير بصيغة المضارع في {نسلكه} للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال، أي زمن نزول القرآن، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله: {وقد خلت سنة الأولين}، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم.
وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم.
والمشار إليه بقوله: {كذلك} هو السلك المأخوذ من {نسلكه} على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا} في سورة [البقرة: 143].
والسلك: الإدخال.
قال الأعشى:
كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق

أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به، كما قال تعالى: {وإذ ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} [سورة التوبة: 124 125].
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة.
فضمير {نسلكه} و{به} عائدان إلى {الذكر} في قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر} [سورة الحجر: 9]. أي القرآن.
والمجرمون هم كفار قريش.
وجملة {لا يؤمنون به} بيان للسلك المشبه به أو حال من المجرمين، أي تعيه عقولهم ولا يؤمنون به.
وهذا عام مراد به من ماتوا على الكفر منهم.
والمراد أنهم لا يؤمنون وقتًا ما.
وجملة {وقد خلت سنة الأولين} معترضة بين جملة {لا يؤمنون به} وجملة {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء} [الحجر: 14]. إلخ.
والكلام تعريض بالتهديد بأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية معاملة للنظير بنظيره، لأن كون سنة الأولين مضت أمر معلوم غير مفيد ذكره، فكان الخبر مستعملًا في لازمه بقرينة تعذر الحمل على أصل الخبرية. والسنّة: العادة المألوفة.
وتقدم في قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} في سورة [آل عمران 137].
وإضافتها إلى {الأولين} باعتبار تعلقها بهم، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا، والإضافة لأدنى ملابسة.
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
عطف على جملة {لا يؤمنون به} [سورة الحجر: 13]، وهو كلام جامع لإبطال جميع معاذيرهم من قولهم: {لو ما تأتينا بالملائكة} [سورة الحجر: 7] وقولهم؛ {إنك لمجنون} [سورة الحجر: 6]. بأنهم لا يطلبون الدلالة على صدقه، لأن دلائل الصدق بيّنة، ولكنهم ينتحلون المعاذير المختلفة.
والكلامُ الجامعُ لإبطال معاذيرهم: أنهم لو فتح الله بابًا من السماء حين سألوا آيةً على صدق الرسول، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيّلات وأنهم سُحِروا فرأوا ما ليس بشيء شيئًا.
ونظيره قوله: {ولو نزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [سورة الأنعام: 7].
و{ظلّ} تدل على الكون في النهار، أي وكان ذلك في وضح النهار وتبين الأشباح وعدم التردد في المرئي. والعُروج: الصعود.
ويجوز في مضارعه ضمّ الراء وبه القراءة وكسرها، أي فكانوا يصعدون في ذلك الباب نهارًا.
و{سكرت} بضم السين وتشديد الكاف في قراءة الجمهور، وبتخفيف الكاف في قراءة ابن كثير.
وهو مبني للمجهول على القراءتين، أي سدّت.
يقال: سكر البابَ بالتشديد وسكره بالتخفيف إذا سدّه. والمعنى: لجحدوا أن يكونوا رأوا شيئًا.
وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتّوا القول في ذلك.
وردّ بعضهم على بعض ظن أن يكونوا رأوا أبواب السماء وعرجوا فيها، وزعموا أنهم ما كانوا يبصرون، ثم أضربوا عن ذلك إضراب المتردّد المتحيّر ينتقل من فرض إلى فرض فقالوا: {بل نحن قوم مسحورون}، أي ما رأيناه هو تخيلات المسحور، أي فعادوا إلى إلقاء تبعة ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سحرهم حين سأل لهم الله أن يفتح بابًا من السماء ففتحه لهم.
وقد تقدم الكلام على السحر وأحواله عند قوله تعالى: {يعلمون الناس السحر} في [سورة البقرة 102].
وإقحام كلمة قوم هنا دون أن يقولوا: بل نحن مسحورون، لأن ذكرها يقتضي أن السحر قد تمكن منهم واستوى فيه جميعهم حتى صار من خصائص قوميتهم كما تقدم تبيينه عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في [سورة البقرة: 164].
وتكرر ذلك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}
والقرآن قد جاء بعد كُتب متعددة، وكان كل كتاب منها يحمل منهج الله؛ إلا أن أيَّ كتاب منها لم يَكُنْ معجزة؛ بل كانت المُعْجزة تنزل مع أيِّ رسول سبق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعادة ما تكون المعجزة من صنف ما نبغ فيه القوم الذين نزل فيهم.
وما دام المنهج مفصولًا عن المعجزة؛ فقد طلب الحق سبحانه من الحاملين لكتب المنهج تلك أنْ يحافظوا عليها، وكان هذا تكليفًا من الحق سبحانه لهم، والتكليف كما نعلم عُرْضة أنْ يُطَاع، وعُرْضة أنْ يُعصى، ولم يلتزم أحد من الأقوام السابقة بحفظ الكُتب المنزّلة إليهم.
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44].
أي: أن الحق سبحانه وتعالى قد كلّفهم وطلب منهم أنْ يحفظوا كتبهم التي تحمل منهجه؛ وهذا التكليف عُرْضة أنْ يطاع، وعُرْضة أنْ يُعصى؛ وهم قد عَصَوا أمر الحق سبحانه وتكليفه بالحفظ؛ ذلك أنهم حرّفوا وبدلوا وحذفوا من تلك الكتب الكثير.
وقال الحق سبحانه عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
بل وأضافوا من عندهم كلامًا وقالوا: هو من عند الله؛ لذلك قال فيهم الحق سبحانه: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
وهكذا ارتكبوا ذنوب الكذب وعدم الأمانة، ولم يحفظوا الكتب الحاملة لمنهج الله كما أنزلها الله على أنبيائه ورُسله السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لم يَشَأ الحق سبحانه أن يترك مهمة حفظ القرآن كتكليف منه للبشر؛ لأن التكليف عُرْضة أن يطاع وعُرْضة أنْ يُعصى، فضلًا عن أن القرآن يتميز عن الكتب السابقة في أنه يحمل المنهج، وهو المعجزة الدالة على صِدْق بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الوقت.
ولذلك قال الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
والذِّكْر إذا أُطلِق انصرف المعنى إلى القرآن؛ وهو الكتاب الذي يحمل المنهج؛ وسبحانه قد شاء حِفْظه؛ لأنه المعجزة الدائمة الدالة على صدق بلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصحابة يكتبون القرآن فَوْرَ أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدنا في عصرنا من هم غير مؤمنين بالقرآن؛ ولكنهم يتفنّنون في وسائل حفْظه؛ فهناك مَنْ طبع المصحف في صفحة واحدة؛ وسخَّر لذلك مواهب أُناسٍ غير مؤمنين بالقرآن.
وحدث مثل ذلك حين تَمّ تسجيل المصحف بوسائل التسجيل المعاصرة، وفي ألمانيا على سبيل المثال توجد مكتبة يتم حِفْظ كل ما يتعلق بكل آية من القرآن في مكان مُعيّن مُحدّد.
وفي بلادنا المسلمة نجد مَنْ ينقطع لحفظ القرآن منذ الطفولة، ويُنهي حِفْظه وعمره سبع سنوات؛ وإنْ سألته عن معنى كلمة يقرؤها فقد لا يعرف هذا المعنى.
ومن أسرار عظمة القرآن أن البعض مِمَّنْ يحفظونه لا يملكون أية ثقافة، ولو وقف الواحد من هؤلاء عند كلمة؛ فهو لا يستطيع أن يستكملها بكلمةٍ ذات معنى مُقَارب لها؛ إلى أنْ يردّه حافظٌ آخر للقرآن.
ولكي نعرف دِقّة حِفْظ الحق سبحانه لكتابه الكريم؛ نجد أن البعض قد حاول أن يُدخِل على القرآن ما ليس فيه، وحاول تحريفه من مدخل، يروْنَ أنه قريب من قلب كل مسلم، وهو توقير الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجاءوا إلى قول الحق سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وأدخلوا في هذه الآية كلمة ليست فيها، وطبعوا مصحفًا غيَّروا فيه تلك الآية بكتابتها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وأرادوا بذلك أن يسرقوا عواطف المسلمين، ولكن العلماء عندما أمسكوا بهذا المصحف أمروا بإعدامه وقالوا: إن به شيئًا زائدًا، فردَّ مَنْ طبع المصحف ولكنها زيادة تحبونها وتُوقّرونها، فردَّ العلماء: إن القرآن توقيفيّ؛ نقرؤه ونطبعه كما نزل.
وقامت ضَجَّة؛ وحسمها العلماء بأن أيّ زيادة حتى ولو كانت في توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته لا تجوز في القرآن، لأن علينا أن نحفظ القرآن كما لقَّنه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}
وهنا يُسلِّى الحق سبحانه رسوله الكريم، ويوضح له أن ما حدث له من إنكار ليس بِدعًا، بل حدث له من إنكار ليس بدعًا، بل حدث مثله مع غيره من الرسل سواء من إنكار أو تجاهل أو سخرية.
وإذا كنت أنت سيد الرسل وخاتم الأنبياء؛ فلابُدَّ أن تكون مشقتك على قَدْر مهمتك، ولابُدَّ أن يكون تعبُك على قَدْر جسامة الرسالة الخاتمة.
و{شِيَعِ} [الحجر: 10]. تعني الجماعة الذين اجتمعوا على مذهب واحد؛ سواء كان ضلالًا أم حقًا، والمثَل على مَنِ اجتمعوا على باطل هو قوله الحق: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65].
والمثَل على مَنْ اجتمعوا على الحق قوله سبحانه: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83].
وهكذا تكون كلمة {شِيع} تعني الجماعة التي اجتمعت على الحق أو الباطل.
وقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين} [الحجر: 10].
يعني أنك لن تكون أقلّ من الرُّسل السابقين عليك، بل قد تكون رحلتك في الرسالة شاقّة بما يناسب مهمتك، ويناسب إمامتك للرسل وختامك للأنبياء.
ويُكمِل سبحانه ما حدث للرسل السابقين على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول:
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)}
ونجد كلمة: {يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 11].
ونجد أن الحق سبحانه قد أوضح هذا الاستهزاء حين قالوا: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6].
وكأن الحق سبحانه يُوضّح له أن الاستهزاء قد يزيد، وذلك دليلٌ على أنك قد بلغتَ منهم مَبْلغ الكَيْد، ولو كان كيدُك قليلًا لخفّفوا كَيْدهم؛ ولكنك جئتَ بأمر قاس عليهم، وهدمت لهم مذاهبهم، وهدمت حتى سيادتهم وكذلك سطوتهم، ولم يجدوا غير الاستهزاء ليقاوموك به.
ومعنى ذلك أنهم عجزوا عن مقاومة منهجك؛ ويحاولون بالاستهزاء أن يحققوا لك الخور لتضعف؛ معتمدين في ذلك على أن كل إنسان يحب أن يكون كريمًا في قومه ومعززًا مكرمًا.
وهنا يريد الحق سبحانه من رسوله أن يُوطِّن نفسه على أنه سيُستهزأ به وسيُحارب؛ وسيُؤْذَى؛ لأن المهمة صعبة وشاقَّة، وكلما اشتدت معاندتك وإيذاؤك، فاعلم أن هذه من حيثيات ضرورة مهمتك.
ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتأكد من مهمته؛ أخذته زوْجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها عند ورقة بن نوفل؛ وعرف ورقة أنه سَيُؤذَى، وقال ورقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون حيًا حين يُخرِجك قومك. فتساءل الرسول صلى الله عليه وسلم: أمُخرِجِيّ هُم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يصحب نزول الرسالة أن يُحصِّنه ضد ما سيحصل له، ليكون عنده المناعة التي تقابل الأحداث؛ فمادام سيصير رسولًا، فليعلم أن الطريق مَحْفوف بالإيذاء، وبذلك لا يُفاجأ بوجود مَنْ يؤذيه.
ونحن نعلم أن المناعة تكون موجودة عند مَنْ وبها يستعد لمواجهة الحياة في مكان به وباء يحتاج إلى مَصْل مضاد من هذا الوباء؛ لِيقيَ نفسه منه، وهذا ما يحدث في الماديات، وكذلك الحال في المعنويات.
ولهذا يُوضِّح سبحانه هذا الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولتزداد ثقته في الحق الذي بعثه به ربُّه، ويشتدّ في المحافظة على تنفيذ منهجه.
والاستهزاء كما نعلم لَوْنٌ من الحرب السلبية؛ فهم لم يستطيعوا مواجهة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد، ولا أنْ يردّوا منهجه الراقي؛ لذلك لجئوا إلى السُّخْرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تنفعهم سخريتهم في النَّيْل من الرسول، أو النَّيْل من الإسلام وفي هذا المعنى، يقول لنا الحق سبحانه عن مصير الذين يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم:
{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)}
وسلك الشيء أي: أدخله، كما نُدخِل الخيط في ثقب الإبرة.
والحق سبحانه يقول: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 42-43].
أي: ما أدخلكم في النار؛ فتأتي إجابتهم: {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} [المدثر: 43].
وهنا يقول الحق سبحانه: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} [الحجر: 12].