فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن الناس من ذهب أخذًا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم بقي هاهنا إشكال: ذكره الإمام مع جوابه فقال: ولقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزًا دالًا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول: هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولًا وبكون القرآن حقًا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الأخبار عن الغيوب معجزًا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال.
ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كونه صلى الله عليه وسلم رسولًا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الاخبار عن الغيوب معجزًا ولا يلزم الدور اهـ فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}
{والأرض مددناها} بسطناها، قال الحسن: أخذ الله تعالى طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت، وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن أم القرى مكة ونها دحيت الأرض وبسطت، وعن ابن عباس أنه قال: بسطناها على وجه الماء، وقيل: يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي، ونصب {الأرض} على الحذف على شرطية التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا} [الحجر: 16]. إلخ، وليواقف ما بعده أعني قوله سبحانه: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} أي جبالًا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].
قال ابن عباس: إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعاى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال، ثم قال؛ وهذا الوجه ظاهر الاحتمال.
وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال {وَأَنبَتْنَا فِيهَا} أي في الأرض، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك.
وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلًا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الانبات على إخراج المعادن بعيد {مِن كُلّ شيء مَّوْزُونٍ} أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون، وأنشد المرتضى في درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة.
وحديث ألذه وهو مما ** تشتهيه النفوس يوزن وزنًا

وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون: قوام موزون أي متناسب معتدل، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة، وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما، و{مِنْ} كما في البحر للتبعيض، وقال الأخفش: هي زائدة أي كل شيء.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة. وقرأ الأعرج. وخارجة عن نافع بالهمز، قال ابن عطية: والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدًا كياء شمائل وخبائث.
لكن لما كان الياء هنا مشابهًا للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان، ويجوز عطفه على محل {لَكُمْ} وجوز الكوفيون ويونس والأخفش.
وصحح أبو حيان العطف على الضمير المجرور إن لم يعد الجار، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وقال الزجاج: إن {مِنْ} في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم الخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم، وقيل: إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر، وقال أبو حيان: لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدًا وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن المراد {بِمَنِ لَسْتُمْ} إلخ. الدواب والأنعام، وعن منصور الوحش، وعن بعضهم ذاك والطير فمن على هذه الأقوال لما لا يعقل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)}
لما جرى الكلام السابق في شأن تكذيب المشركين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما توركوا به في ذلك، وكان الأصلُ الأصيل الذي بَنوا عليه صَرْح التكذيب أصلين هما إبطاله إلهية أصنامهم، وإثباته البعث، انبرى القرآن يبيّن لهم دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية، فذكر الدلائل الواضحة من خلق السماوات والأرض، ثم أعقبها بدلائل إمكان البعث من خلق الحياة والموت وانقراض أمم وخلفها بأخرى في قوله تعالى: {وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} [سورة الحجر: 23]. الآية.
وصادف ذلك مناسبة ذكر فتح أبواب السماء في تصوير غلوائهم بعنادهم، فكان الانتقال إليه تخلصًا بديعًا.
وفيه ضرب من الاستدلال على مكابرتهم فإنهم لو أرادوا الحق لكان لهم في دلالة ما هو منهم غنية عن تطلب خوارق العادات.
والخبر مستعمل في التذكير والاستدلال لأن مدلول هذه الأخبار معلوم لديهم.
وافتتح الكلام بلام القسم وحرف التحقيق تنزيلًا للمخاطبين الذاهلين عن الاستدلال بذلك منزلة المتردّد فأكّد لهم الكلام بمؤكدين.
ومرجع التأكيد إلى تحقيق الاستدلال وإلى الإلجاء إلى الإقرار بذلك.
والبروج: جمع بُرج بضم الباء.
وحقيقته البناء الكبير المتّخذ للسكنى أو للتحصّن.
وهو يرادف القصر، قال تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} في [سورة النساء: 78].
وأطلق البرج على بقعة معينة من سمت طائفة من النجوم غير السيارة وتسمى النجوم الثوابت متجمع بعضها بقرب بعض على أبعاد بينها لا تتغير فيما يُشاهد من الجو، فتلك الطائفة تكون بشكل واحد يشابه نقطًا لو خططت بينها خطوطٌ لخرج منها شِبه صورة حَيوان أو آلة سموا باسمها تلك النجوم المشابهة لهيئتها وهي واقعة في خط سير الشمس. وقد سماها الأقدمون من علماء التوقيت بما يرادف معنى الدار أو المكان.
وسماها العرب بُروجًا ودارات على سبيل الاستعارة المجعولة سببًا لوضع الاسم؛ تخيّلوا أنها منازل للشمس لأنهم وقتوا بجهتها سمت موقع الشمس من قُبة الجو نهارًا فيما يخيل للناظر أن الشمس تسير في شبه قوس الدائرة.
وجعلوها اثني عشر مكانًا بعدد شهور السنة الشمسية وما هي في الحقيقة إلا سُموت لجهاتتٍ تُقابلُ كل جهة منها الأرضَ من جهة وراءِ الشمس مدة معينة. ثم إذا انتقل موقع الأرض من مدارها كل شهر من السنة تتغير الجهة المقابلة لها.
فبِما كان لها من النظام تَسنّى أن تجعل علامات لمواقيت حلول الفصول الأربعة وحلول الأشهر الاثني عشر، فهم ضبطوا لتلك العلامات حدودًا وَهمية عينوا مكانها في اللّيل من جهة موقع الشمس في النهار وأعادوا رصدها يومًا فيومًا، وكلما مضت مدة شهر من السنة ضبطوا للشهر الذي يليه علامات في الجهة المقابلة لموقع الشمس في تلك المدة.
وهكذا، حتى رأوا بعد اثني عشر شهرًا أنهم قد رجعوا إلى مقابلة الجهة التي ابتدأوا منها فجعلوا ذلك حولًا كاملًا.
وتلك المسافة التي تخال الشمس قد اجتازتها في مدة السّنة سموها دائرة البروج أو مِنْطقة البروج.
وللتمييز بين تلك الطوائف من النجوم جعلوا لها أسماء الأشياء التي شبهوها بها وأضافوا البرج إليها.
وهي على هذا الترتيب ابتداء من برج مدخل فصل الربيع: الحمَل، الثور، الجوزاء، مشتقة من الجوز بفتح فسكون الوسط لأنها معترضة في وسط السماء، السَرَطان، الأسَد، السُنبلة، الميزان، العَقرب، القَوْس، الجَدْي، الدَلْو، الحوت.
فاعتبروا لبرج الحمل شهر أبرير وهكذا، وذلك بمصادفة أن كانت الشمس يومئذٍ في سَمتِ شكلٍ نجمي شبهوه بنُقَط خطوط صورة كبش.
وبذلك يعتقد أن الأقدمين ضبطوا السنة الشمسية وقسموها إلى الفصول الأربعة، وإلى الأشهر الاثني عشر قبل أن يضبطوا البروج.
وإنما ضبطوا البروج لقصد توقيت ابتداء الفصول بالضبط ليعرفوا ما مضى من مدتها وما بقي.
وأول من رسم هذه الرسوم الكلدانيون، ثم انتقل علمهم إلى بقية الأمم؛ ومنهم العرب فعرفوها وضبطوها وسموها بلغتهم.
ولذلك أقام القرآن الاستدلال بالبروج على عظيم قدرته وانفراده بالخلق لأنهم قد عرفوا دقائقها ونظامها الذي تهيأت به لأن تكون وسيلة ضبط المواقيت بحيث لا تُخلف ملاحظة راصدها.
وما خلقها الله بتلك الحالة إلا ليجعلها صالحة لضبط المواقيت كما قال تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} [سورة يونس: 5].
ثم ارتقى في الاستدلال بكون هذه البروج العظيمة الصنع قد جُعلت بأشكال تقع موقع الحسن في الأنظار فكانت زينة للناظرين يتمتعون بمشاهدتها في الليل فكانت الفوائد منها عديدة.
وأما قوله: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} فهو إدماج للتعليم في أثناء الاستدلال.
وفيه التنويه بعصمة الوحي من أن يتطرقه الزيادة والنقص، بأن العوالم التي يصدر منها الوحي وينتقل فيها محفوظة من العناصر الخبيثة.
فهو يرتبط بقوله: {وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].
وكانوا يقولون: محمد كاهن؛ ولذلك قال الوليد بن المغيرة لما حاورهم فيما أعدوا من الاعتذار لوفود العرب في موسم الحجّ إذا سألوهم عن هذا الرجل الذي ادّعى النبوءة، وقد عرضوا عليه أن يقولوا هو كاهن، فكان من كلام الوليد أن قال.
ولا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزة الكاهن ولا سجعه، قال تعالى: {ولا بقول كاهن قليلًا ما تذكرون} [سورة الحاقة: 42].
وكان الكهان يزعمون أن لهم شياطين تأتيهم بخبر السماء، وهم كاذبون ويتفاوتون في الكذب.
والمراد بالحفظ من الشياطين الحفظ من استقرارها وتمكنها من السماوات.
والشيطان تقدم في سورة البقرة.
والرجيم: المحقر؛ لأن العرب كانوا إذا احتقروا أحدًا حصبوه بالحصباء، كقوله تعالى: {قال فاخرج منها فإنك رجيم} [سورة الحجر: 34]، أي ذميم محقر. والرّجام بضم الراء الحجارة.
قيل وهي أصل الاشتقاق. ويحتمل العكس.
وقد كان العرب يرجمون قبر أبي رِغال الثقفي الذي كان دليل جيش الحبشة إلى مكة.
قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ** كما تَرمون قبر أبي رِغال

والرجم عادة قديمة حكاها القرآن عن قوم نوح {قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} [سورة الشعراء: 116].
وعن أبي إبراهيم {لئن لم تنته لأرجمنك} [سورة مريم: 46].
وقال قوم شعيب: {ولولا رهطك لرجمناك} [سورة هود: 91].
وليس المراد به الرجم المذكور عقبه في قوله: {فأتبعه شهاب مبين} لأن الاستثناء يمنع من ذلك في قوله: {إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}. واستراق السمع: سرقتهُ. صيغ وزن الافتعال للتكلف.
ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.
و{أتبعه} بمعنى تَبعه. والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان.
وتقدم في قوله تعالى: {فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} في سورة الأعراف {175}.
والمبين: الظاهر البين.
وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طردًا لها عن استراق السمع كاملًا، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه.
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فسادًا في الأرض.
وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتًا فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيقِ تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح.
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها.
وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله: {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [سورة الشعراء: 223]. ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد مُنع عن الشياطين.
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكامًا لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفًا للكهانة السابقة.
ويكون قوله: {ليسوا بشيء} وصفًا لآخر أمرهم.
وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله: {والشياطين كل بناء وغواص} [سورة ص: 37]. الآية.
والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض، وأن منها أصنافًا لها اتصَال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر.
وبعضُ ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفًا له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها، فتسبق بعضُ النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد.
وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أوالشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى: {إلا من استرق السمع}.
فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقًا ما، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها، مما وراء الكرة الهوائية.