فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ}.
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي رحمه الله: الخزائن جمع الخزانة، وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضًا عمل الخازن، ويقال: خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ} هو المطر، وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، وقوله: {وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} قال ابن عباس رحمهما الله: يريد قدر الكفاية، وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطرًا من عام آخر، ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون، وربما كان في البحر، يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.
ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكمًا من غير دليل.
وأقول أيضًا: تخصيص قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} بالمطر تحكم محض، لأن قوله: {وَإِن مِّن شيْءٍ} يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وهو الموجود القديم الواجب لذاته، وقوله: {إلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ} إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى.
وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيًا لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهيًا كان لا محالة مختصًا في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلًا عنه، وكان مختصًا بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلًا عن ذلك الحيز، وكان مختصًا بصفات معينة، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلًا عن تلك الصفات، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين، والصفات المعينة بدلًا عن أضدادها لابد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} والمعنى: أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة، والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6]، وقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25]، والله أعلم.
المسألة الثانية:
تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن، وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى، ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة، لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين، وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدمًا على حدوثها ودخولها في الوجود، وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى، بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله: لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد هاهنا على سبيل التمثيل والتخييل، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادرًا على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود؟ وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال، والمباحثات الدقيقة باقية، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في وصف الرياح بأنها لواقح.
أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب.
قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للسحاب، وأما تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه.
فإن قيل: كيف قال: {لَوَاقِحَ} وهي ملقحة؟
والجواب: ما ذهب إليه أبو عبيدة أن {لواقح} هاهنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه:
لبيك يزيد يائس ذو ضراعة ** وأشعث مما طوحته الطوائح

أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال: تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا يدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح.
والوجه الثاني: في الجواب قال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال: درهم وازن، أي ذو وزن، ورامح وسائف، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي: هذا الجواب ليس بمغن، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح.
بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب، والله أعلم.
والوجه الثالث: في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين:
الطريق الأول: أن الريح حاصلة للسحاب، والدليل عليه قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف: 57]. أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء.
والطريق الثاني: قال الزجاج: يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير، وهذا كما تقول العرب: قد لقحت الحرب وقد نتجت ولدًا أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا، والله أعلم.
المسألة الثانية:
الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركًا لابد له من سبب، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئًا من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال، فلم يبق إلا أن يقال: إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مرارًا فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سببًا لحدوث الرياح، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه.
وأما قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} ففيه مباحث: الأول: أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب؟ وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء؟ وثانيها: أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} قال الأزهري: تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شربًا له، وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه، ولم يقولوا أسقاهـ.
والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا في بُطُونِهِ} [النحل: 66]. فقرؤا باللغتين، ولم يختلفوا في قوله: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وفي قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. قال أبو علي: سقيته حتى روي وأسقيته نهرًا، أي جعلته شربًا له وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي جعلناه سقيًا لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحابًا:
أقول وصوبه مني بعيد ** يحط السيب من قلل الجبال

سقى قومي بني نجد وأسقى ** نميرا والقبائل من هلال

فقوله: سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيًا لبلادهم يخصبون بها، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به.
وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه، وأما قول ذي الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبنه ** تكلمني أحجاره وملاعبه

فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء، وأقول سقاه الله وقوله: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْلُهُ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: المسألة الأولى: قَوْلُهُ: {لَوَاقِحَ} وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: تُلْقِحُ الشَّجَرَ وَالسَّحَابَ، وَجُمِعَتْ عَلَى حَذْفِ الزَّائِدِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ لَقْحٍ وَلِقَاحٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ {لَوَاقِحَ} جَمْعُ لَاقِحٍ، أَيْ حَامِلٍ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْجَنُوبِ لَاقِحٌ وَحَامِلٌ، وَلِلشِّمَالِ حَائِلٌ وَعَقِيمٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: {حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} مَعْنَاهُ: حَمَلَتْ.
وَأَقْوَى الْوَجْهِ فِيهِ النِّسْبَةُ.
المسألة الثانية:
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، فَلِقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَلَا أَدْرِي مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ، وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلِقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ يُثْمِرَ الشَّجَرُ وَيَسْقُطَ مِنْهُ مَا يَسْقُطُ، وَيَثْبُتَ مَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ تَوَرَّدَ الشَّجَرُ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: إنَّمَا عَوَّلَ مَالِكٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لِقَاحِ الشَّجَرِ بِلِقَاحِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَسَنْبَلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمٍ تَشْتَرِك فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ، وَهُوَ اللِّقَاحُ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: {نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} يعني وإن من شيء من أرزاق الخلق إلا عندنا خزائنه وفيه وجهان:
أحدهما: يعني مفاتيحه لأن في السماء مفاتيح الأرزاق، وهو معنى قول الكلبي.
الثاني: أنها الخزائن التي هي مجتمع الأرزاق، وفيها وجهان:
أحدهما: ما كتبه الله تعالى وقدره من أرزاق عباده.
الثاني: يعني المطر المنزل من السماء، لأنه نبات كل شيء، قال الحسن: المطر خزائن كل شيء.
{وما ننزله إلا بقدر معلوم} قال ابن مسعود: ما كان عامٌ بأمطر من عام ولكن الله يقسمه حيث يشاء، فيمطر قومًا ويحرم آخرين.
قوله عز وجل: {وأرسلنا الرياحَ لواقِحَ} فيه قولان:
أحدهما: لواقح السحاب حتى يمطر، قاله الحسن وقتادة، وكل الرياح لواقح. غير أن الجنوب ألقح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هبت ريح جنوب إلا أنبع الله تعالى بها عينًا غدقة». الثاني: لواقح للشجر حتى يثمر، قاله ابن عباس.
وقال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، وقال عبيد بن عمير: يرسل الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمًّا، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر.
قوله عز وجل: {فأنزلنا من السماء ماءً} يعني من السحاب مطرًا.
{فأسقيناكموه} أي مكناكم منه، والفرق بين السقي والشرب أن السقي بذل المشروب، والشرب: استعمال المشروب، فصار الساقي باذلًا، والشارب مستعملًا.
{وما أنتم له بخازنين} فيه وجهان:
أحدهما: بخازني الماء الذي أنزلناهـ.
الثاني: بمانعي الماء الذي أنزلناهـ. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله: {وإن من شيء} قال ابن جريج: وهو المطر خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وينبغي أن تكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.
والخزائن المواضع الحاوية، وظاهر هذا أن الماء والريح ونحو ذلك موجود مخلوق، وهو ظاهر في قولهم في الريح: عتت على الخزان وانفتح منها قدر حلقة الخاتم، ولو كان قدر منخر الثور لأهلك الأرض؛ إلى غير هذا من الشواهد، وذهب قوم إلى أن كونها في القدرة هو خزنها، فإذا شاء الله أوجدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضًا ظاهر في أشياء كثيرة، وهو لازم في الاعتراض إذا عممنا لفظة {شيء} وكيفما كان الأمر فالقدرة تسعه وتتقنه.
وقوله: {ننزله} ما كان من المطر ونحوه: فالإنزال فيه متمكن، وما كان من غير ذلك فإيجاده والتمكين من الانتفاع به، إنزال على تجوز.
وقرأ الأعمش: {وما نرسله}.
وقوله: {بقدر معلوم} روي فيه عن ابن مسعود وغيره: أنه ليس عام أكثر مطرًا من عام، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}
يقال: لقحت الناقة والشجرة فهي لاقحة: إذا حملت، والرياح تلقح الشجر والسحاب، فالوجه في الريح أنها ملقحة لا لاقحة، وتتجه صفة {الرياح} بـ: {لواقح} على أربعة أوجه:
أولها وأولاها: أن نجعلها لاقحة حقيقية، وذلك أن الرياح منها ما فيها عذاب أو حر ونار، ومنها ما فيه رحمة ومطر أو نصر أو غير ذلك، فإذا بها تحمل ما حملتها القدرة، أو ما علقته من الهواء أو التراب أو الماء الذي مرت عليه، فهي لاقحة بهذا الوجه، وإن كانت أيضًا تلقح غيرها وتصير إليه نفعها، والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمي الشمال الحايل والعقيم ومحوة، لأنها تمحو السحاب، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الريح الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» ومن هذا قول الطرماح:
قلق لا فبان الريا ** ح للاقح منها وحائل

ومن قول أبي وجزة:
من نسل جوابة الآفاق ** فجعلها حاملًا تنسل.

قال القاضي أبو محمد: ويخرج هذا على أنها ملقحة فلا حجة فيه.
والثاني: أن يكون وصفها بـ: {لواقح} من باب قولهم: ليل نائم، أي فيه نوم ومعه، ويوم عاصف ونحوه: فهذا على طريق المجاز.
والثالث: أن توصف الرياح بـ {لواقح} على جهة النسب، أي ذات لقح، كقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب

أي ذي نصب.
والرابع: أن تكون {لواقح} جمع ملقحة على حذف زوائدة، فكأنه لقحة، فجمعها كما تجمع لاقحة، ومثله قول الشاعر سيبويه: الطويل.
ليبك يزيد ضارع لخصومة ** وأشعث ممن طوحته الطوائح

وإنما طوحته المطاوح، وعلى هذا النحو فسرها أبو عبيدة في قوله: {لواقح} ملاقح، وكذلك العبارة عنها في كتاب البخاري: لواقح ملاقح ملقحة.
وقرأ الجمهور {الرياح} بالجمع، وقرأ الكوفيون- حمزة وطلحة بن مصرف والأعمش ويحيى بن وثاب – {الريح} بالإفراد، وهي للجنس، فهي في معنى الجمع، ومثلها الطبري بقولهم: قميص أخلاق وأرض أغفال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من حيث هو أجزاء كثيرة تجمع صفته، فكذلك ريح لواقع لأنها متفرقة الهبوب، وكذلك: دار بلاقع، أي كل موضع منها بلقع.
وقال الأعمش: إن في قراءة عبد الله {وأرسلنا الرياح يلقحن}، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الريح من نفس الرحمن»، ومعنى الإضافة هنا هي من إضافة خلق إلى خالق، كما قال: {من روحي} [الحجر: 29]، ومعنى نفس الرحمن: أي من تنفيسه وإزالته الكرائب والشدائد. فمن التنفس بالريح النصر بالصبا وذرو الأرزاق بها، وما لها من الخدمة في الأرزاق وجلب الأمطار وغير ذلك مما يكثر عده.
ولقد حدثت أن ابن أبي قحافة رحمه الله فسر هذا الحديث بنحو هذا وأنشد في تفسيره: الطويل.
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ** على نفس محزون تجلت همومها

وهذا من جملة التنفيس والعرب تقول: أسقى وسقى بمعنى واحد، وقال لبيد: الوافر:.
سقى قومي بني مجد واسقى ** نميرًا، والقبائل من هلال

فجاء باللغتين، وقال أبو عبيدة: أما إذا كان من سقي الشفة خاصة فلا يقال إلا سقى، وأما إذا كان لسقي الأرض والثمار وجملة الأشياء فيقال: أسقى، وأما الداعي لأرض أو غيرها بالسقي، فإنما يقال فيه: أسقى، ومنه قول ذي الرمة: الطويل.
وقفت على رسم لمية ناقتي ** فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه ** تكلمني أحجاره وملاعبه

قال القاضي أبو محمد: على أن بيت لبيد دعاء، وفيه اللغتان. اهـ.