فصل: قال القاسمي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكل مظاهر القوة في الإنسان ليست من عند الإنسان، وليست ذاتية فيه، بل هي موهوبة له من الله؛ وهكذا شاء الحق سبحانه أنْ يُهذِّب الناس لِيُحسِنوا التعامل مع بعضهم البعض.
ولذلك أوضح سبحانه أن عنده خزائنَ كل شيء، ولو شاء لألقى ما فيها عليهم مرة واحدة؛ ولكنه لم يُرد ذلك ليؤكد للإنسان أنه ابْنُ أغيارٍ؛ ولِيلفتَهم إلى مُعْطي كل النعم.
كما أن رتابة النعمة قد تُنسِي الإنسانَ حلاوة الاستمتاع بها، وعلى سبيل المثال أنت لا تجد إنسانًا يتذكّر عَيْنه إلا إذا آلمتْه؛ وبذلك يتذكر نعمة البصر، بل وقد يكون فَقْد النعمة هو المُلفِت للنعمة، وذلك لكي لا ينسي أحد أنه سبحانه هو المُنعِم.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}
والإرسال هو الدَّفْع للشيء من حَيّز إلى حَيِّز آخر، وحين يقول سبحانه إنه أرسل الرياح؛ نجد أنها مُرْسلَة من كُلّ مكان إلى كُلّ مكان؛ فهي مُرْسَلة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا.
وهكذا يكون كل مكان؛ هو موقع لإرسال الرياح؛ وكل مكان هو موقع لاستقبالهم؛ ولذلك نجد الرياح وهي تسير في دَوْرة مستمرة؛ ولو سكنتْ لمَا تحرَّك الهواء، ولأُصِيبتْ البشرية بالكثير من الأرض؛ ذلك أن الرياح تُجدّد الهواء، وتُنظِّف الأمكنة من الرُّكود الذي يُمكِن أن تصيرَ إليه.
ونعلم أن القرآن حين يتكلم عن الرياح بصيغة الجمع فهو حديث عن خير، والمثل هو قول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57].
أما إذا أُفرد وجاء بكلمة ريح فهي للعذاب، مثل قوله: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
ولواقح جمع لاقحة، وتُطلَق في اللغة مرَّة على الناقة التي في بطنها جنين؛ ومرة تُطلَق على اللاقح الذي يلقح الغير ليصير فيه جنين؛ لأن الحق سبحانه شاء أن يتكاثر كل ما في الكون؛ وجعل من كُلٍّ زوجين اثنين؛ إما يتكاثر أو تتولد منه الطاقة؛ كالسالب والموجب في الكهرباء.
وهو القائل سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36].
ثم عَدَّد لنا فقال: {مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 22].
وهناك أشياء لا يُدركها الإنسان مثل شجرة الجُمَّيز؛ التي لا يعلم الشخص الذي لم يدرس علم النبات كيف تتكاثر لتنبت وتُثمِر، ويعلم العالِم أن هناك شجرةَ جُميز تلعب دور الأنثى، وشجرةً أخرى تلعب دور الذَّكَر.
وكذلك شجرة التوت؛ وهناك شجرة لا تُعرَف فيه الأنثى من الذَّكر؛ لأنه مكمور توجد به الأُنثى والذَّكَر، وقد لا تعرف أنت ذلك؛ لأن الحق سبحانه جعل اللُّقاحةَ خفيفةً للغاية؛ لتحملَها الريحُ من مكان إلى مكان.
ونحن لم نَرَ كيف يتم لقاح شجرة الزيتون؛ أو شجرة المانجو، أو شجرة الجوافة، وذلك لنأخذ من ذلك عبرةً على دِقّة صَنْعته سبحانه.
والمثَل الذي أضربه دائمًا هو المياه التي تسقط على جبلٍ ما؛ وبعد أيام قليلة تجد الجبل وقد امتلأ بالحشائش الخضراء؛ ومعنى هذا أن الجبل كانت توجد به بذور تلك الحشائش التي انتظرتْ الماء لِتُنبت.
وتعرّف العلماء على أن الذكورة بعد أن تنضج في النبات فهي تنكشف وتنتظر الرياح والجو المناسب والبيئة المناسبة لتنقلها من مكان إلى مكان.
ولهذا نجد بعضًا من الجبال وهي خضراء بعد هبوب الرياح وسقوط المطر؛ ذلك أن حبوب اللقاح انتقلت بالرياح، وجاء المطر لتجد النباتات فرصةً للنمو.
وقد تجد جبلًا من الجبال نصفه أخضر ونصفه جَدْب؛ لأن الرياحَ نقلتْ للنصف الأخضر حبوبَ اللقاح، ولم تنقل الحبوب للنصف الثاني من الجبل؛ ولذلك نجد الحق سبحانه قد جعل للرياح دورةً تنتقل بها من مكان لمكان، وتدور فيها بكل الأماكن.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً} [الحجر: 22].
وقد تبيّن لنا أن المياه نفسها تنشأ من عملية تلقيح؛ وبه ذكورة وأنوثة.
وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].
أي: أنكم لن تخزنوا المياه لأنكم غير مأمونين عليه، وإذا كان الله قد هدانا إلى أن نخزنَ المياه، فذلك من عطاء الله؛ فلا يقولنّ أحد: لقد بنينا السدود؛ بل قُلْ: هدانا الله لِنبنيها؛ بعد أن يسقطَ المطر؛ ذلك أن المطر لو لم يسقط لَمَا استطعنا تخزينَ المياهـ.
وعلى هذا يكون سبحانه هو الذي خزنَ المياه حين أنزله من السماء بعد أنْ هدانا لنبنيَ السدود.
وأنت حين تريد كوبًا من الماء المُقطّر؛ تذهب إلى الصيدلي لِيُسخِّن الماء في جهاز مُعيّن؛ ويُحوّله إلى بخار، ثم يُكثّف هذا البخار لِيصِيرَ ماء مُقطّرًا، وكل ذلك يتمّ في الكون، وأنت لا تدري به. اهـ.

.قال القاسمي في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}
جمع {برج} يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الاثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية.
وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها. فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة: {وَزَيَّنَّاهَا} أي: السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية: {لِلنَّاظِرِينَ} أي: إلى حركاتها وأضوائها. أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته.
{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}
{إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ} أي: اختلس: {السَّمْعَ} أي: من الملائكة السماوية: {فَأَتْبَعَهُ} أي: تبعه ولحقه: {شِهَابٌ مُّبِينٌ} أي: لهب محرق ظاهر، فيرجع أو فيحترق.
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: جبالًا ثوابت: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} أي: وزن بميزان الحكمة، وقدر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو بمعنى مستحسن متناسب، من قولهم: كلام موزون.
وقد ذكر الشريف المرتضى في الدرر أن العرب استعملته بهذا المعنى، كقول عمر ابن أبي ربيعة.
وحديث ألذه هو مما ** تشتهيه النفوس يوزن وزنا

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي: ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما، مما تقتضيه ضرورة الحياة: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي: من الأنعام والدواب وما أشبهها. قال القاضي: وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا يكون كذلك، على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك؛ ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه. شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء، المعدَّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم، استعارة تمثيلية. أو شبَّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد، استعارة مكنية، ومعنى: {نُنَزِّلُهُ} أي: نوجده ونخرجه في عالم الشهادة، والقدر المعلوم: الأجل المعين له، حسبما تقتضيه الحكمة، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي: تلقح السحاب، أي: تجعلها حوامل بالماء، وذلك أن السحاب بخار يصير، بإصابته الهواء البارد حوامل للماء. قاله المهايمي. فاللواقح عليه جمع {ملقح} بحذف الزوائد. أو تلقح الشجر بجري مائها فيه، أو تنيمته ليثمر ويزهو، وجوَّز كون اللواقح جمع {لاقح} وهي الناقة الحامل. فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها، كما يشبه ما لا تكون كذلك بـ {العقيم} فقيل: ريح عقيم {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي: بقادرين على إيجاده وإنزاله، و{الخزن} اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة، كما مرَّ، أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه، من سهول وجبال وعيون وآبار، بل هو تعالى وحده الذي حفظه وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذبًا ورحم بسقياهـ. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا}.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجًا ذكر هذا أيضًا في مواضع أخر كقوله: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} [الفرقان: 61]. الآية وقوله تعالى: {والسماء ذَاتِ البروج} [البروج: 1]. الآية، والبروج جمع برج.
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة وقال بعضهم: البروج الكواكب، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة، وعن أبي صالح: انها الكواكب العظام، وقيل: هي قصور في السماء عليها الحرس، وممن قال به: عطية، وقيل: هي منازل الشمس والقمر قاله ابن عباس، وأسماء هذه البروج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
قال مقيده عفا الله عنه: أطلق تعالى في سورة النساء البروج على القصور الحصينة في قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد. لأن أصل البروج في اللغة الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها فالكواكب ظاهرة والقصور ظاهرة ومنازل القمر والشمس كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}.
صرح تعلى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. الآية، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6].
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 7]، وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وقوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9]، وقوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]، وقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الطور: 38]. إلى غير ذلك من الآيات، والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله: {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 18]. قال بعض العلماء هو استناء منقطع وجزم به الفخر الرازي أي لكن من استرق السمع اي الخطفة اليسيرة فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 8-10]، وقيل الاستثناء متصل أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئًا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها من أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئًا لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]. قاله القرطبي، ونظيره {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} [الصافات: 10]. الآية فإنه استثناء من الواو في قوله تعالى: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8]. الآية.
تنبيه:
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتمشدق به اصحاب الأقمار الصناعية من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]، ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14]. الآية، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُورًا} [الأنعام: 112]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الكلب الأسود شيطان» وقول جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي ** وكن يهوينني إذ كنت شيطانا

ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولًا أوليًا لعتوهم وتمردهم، وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان كائنًا من كان في عدة آيات من كتابه كقوله هنا: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} وقوله: {وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [فصلت: 12]. إلى غير ذلك من الآيات.
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن: 9]، وقوله: {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِين} [الحجر: 18]، وقوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
[الصافات: 10]، وقال: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]، وقال: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الطور: 38]، وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا، وقال: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ في الأسباب جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب} [ص: 10-11]. فقوله في هذه الآية الكريمة: {فَلْيَرْتَقُواْ في الأسباب}، أي فليصعدوا في أسباب السموات التي توصل إليها، وصيغة الأمر في قوله: {فَلْيَرْتَقُواْ} للتعجيز وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا، وقوله جل وعلا بعد ذلك التعجيز: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب} يفهم منه أنه لو تستطيع جند من الأحزاب للارتقاء في اسباب السماء أنه يرجع مهزومًا صاغرًا داخرًا ذليلًا، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه جل وعلا لذلك الجند بلقظة ما في قوله: {جُندٌ مَّا} وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله: {هُنَالِكَ} ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه إلا الارتقاء في أسباب السموات.
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكت مفهومة من قبل، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سال عليًا رضي الله عنه هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال له علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلًا في كتاب الله وما في هذه الصحيفة الحديث فقوله رضي الله عنه: إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في كتاب الله يدل على أن فهم كتاب الله تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون.
وا ذكرنا ايضًا أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة تعين حملها على الجميع كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن.
وصرح تعالى بأن العمر في السبع الطباق في قوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 15-16]. فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق، وأن الله حفطها من كل شيطان رجيم، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين اصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك، كسقف البيت، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} [الحج: 15]. الآية، وقد قال الشاعر:
وقد يسمى سماء لكل مرتفع ** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق. لأن المير في قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ} [نوح: 16]. راجع إلى السبع الطباق وإطلاق المجموع مرادًا بعضه كثير في القرآن وفي كلام العرب.