فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول الحق سبحانه ردًا على دعاء إبليس: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)}.
ولحظةَ أنْ يسمعَ إبليسُ ذلك يظن أنه قد أفلتَ من الموت؛ إذ لا مَوْتَ بعد البعث، ويتوهم أن دعوته قد أُجيبت، وكأنه قد أفلتَ بغروره الذي ظَنَّ به أن يتسع له الوقت ليأخذ الثأر من بني آدم؛ فعدم سجوده لآدم هو الذي وضعه في هذا الموقف العصيب.
ولو كان إبليس يملك ذرة من وَعْي لَعِلم أن الاستكبار والتوهم بأن عنصر النار افضل من الطين هما السبب وراء ما حاق به من الطرد.
ولكن تأتي من بعد ذلك مباشرة الآية التي تتضمن عدم إفلاته من الموت؛ فيقول سبحانه: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
أي: أن إبليس سيذوق الموت أيضًا؛ لأن كل المخلوقات ستذوق الموت من قبل أن تقوم القيامة، مصداقًا لقوله الحق: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَاءَ الله} [الزمر: 68].
وكذلك قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26].
وهكذا لم يُفلتْ إبليس من الموت.
ولقائل أنْ يسألَ: كيف كلّمه الله؟
ونقول: لم يُكلِّمه الله تشريفًا أو تكريمًا؛ بل غلَّظ له العقاب، كما أن للحق سبحانه ملائكة يمكنهم أن يُبلِّغوا ما شاء لمَنْ شاء.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ}
وقول الشيطان: {رَبِّ} [الحجر: 39].
هو إقرار بالربوبية؛ ولكن هذا الإقرار متبوع بعد الاعتراف بأنه قد سبّب لنفسه الطَّرد واللعنة؛ فقد قال: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39].
والحق سبحانه لم يُغوِه؛ بل أعطاه الاختيار الذي كان له به أن يؤمن ويطيع، أو يعصي ويُعاقب، فسبحانه قد مَكّن إبليس من الاختيار بين الفعل وعدم الفعل؛ فخالف إبليسُ أمرَ الله وعصاهـ.
ويتابع إبليس: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} [الحجر: 39].
وفي هذا إيضاح أن كُلّ وسوسة للشيطان تقتصر فقط على الحياة المترفة، وفي الأشياء التي تُدمّر العافية، كمَنْ يشرب الخمر، أو يتناول المخدرات، أو يتجه إلى كل ما يُغضب الله بالانحراف.
ولذلك نجد أن مَنْ يحيا بدخْلٍ يكفيه الضرورات؛ فهو يَأْمن على نفسه من الانحراف، ونقول أيضًا لمَنْ يحاولون أن يضبطوا موازينهم المالية: إن الاستقامة لا تُكلّف؛ ولن تتجه بك إلى الانحراف.
وتزيين الشيطان لن يكون في الأمور الحلال؛ لأن كل الضرورات لم يُحرِّمها الحق سبحانه؛ بل يكون التزيين دائمًا في غير الضرورات، ولذلك فالاستقامة عملية اقتصادية، تُوفّر على الإنسان مشقة التكلفة العالية من ألوان الإنحراف.
ولذلك نجد المسرفين على أنفسهم يحسدون مَنْ هم على الاستقامة، ويحاولون أَخْذهم إلى طريق الانحراف؛ لأن كل منحرف إنما يلوم نفسه متسائلًا: لماذا أخيب وحدي؛ ولا يخيب معي مثل هذا المستقيم؟ وتمتلئ نفسه بالاحتقار لنفسه.
وكذلك كان إبليس في حُمْق رده على الله، ولكنه ينتبه إلى مكانته ومكانة ربه؛ أيدخل في معركة مع الله، أم مع أبناء آدم الذي خلقه سبحانه كخليفة ليعمر الأرض؟
لقد حدّد إبليس موقعه من الصراع، فقال: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36].
وهذا يعني أن مجالَ معركته مع الخَلْق لا مع الخالق؛ لذلك قال: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
وكلمة {أجمعين} تفيد الإحاطةَ لكل الأفراد، وهذا فوق قدرته بعد أنْ عرف مُقَامه من نفسه ومن ربه، فقال ما جاء به الحق سبحانه في الآية التالية: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ}
فهؤلاء العباد الذين خلَّصتهم لنفسك يا ربّ؛ فلن أقدر عليهم؛ لأنك أخذتهم من طريق الغواية؛ لأنهم أحسنوا الإيمان، وقد وصلوا إلى مرتبة من الإخلاص التعبُّدي درجةً يصعب بها على الشيطان غوايتهم.
ويقول أهل المعرفة والإشراق: أنت تصل بطاعة الله إلى كرامة الله.
ولو شاء الله أن يكون جميع خَلْقه مهديين ما استطاع أحد أنْ يُضلّهم، ولكن عِزَّة الله عن خَلْقه هي التي أفسحت المجالَ للإغواء، ولذلك نجد إبليس يُقِرّ بعجزه عن غواية مَنْ أخلصوا لله العبادة.
ونجد رد الحق سبحانه على إبليس واضحًا لا لَبْس فيه، ولا قبول لِمَا قد يظنُّه إبليس مجاملةً منه لله، فيقول سبحانه في الآية التالية:
{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)}
وهكذا أوضح الحق سبحانه أن صراطه المستقيم هو الذي يقود العباد إلى الطاعة؛ فليس في الأمر تفضُّل من إبليس الذي سبق له أنْ حدَّد المواقع والاتجاهات التي سيأتي منها لغواية البشر، حيث قال الحق سبحانه ما جاء على لسان إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
في ذلك القول حدَّد إبليس جهات الغواية التي يأتي منها وترك الفَوْق والتَّحْت، لذلك نقول: إن العبد إذا استحضر دائمًا عُلُوَّ عِزّة الربوبية، وذُلّ العبودية؛ فالشيطان لا يدخل له أبدًا.
ويواصل الحق سبحانه قوله المبلغ عنه لنا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ}
وهكذا أصدر الحق سبحانه حُكْمه بألاَّ يكون لإبليس سلطان على مَنْ أخلص لله عبادة، وأمر إبليس ألاَّ يتعرض لهم؛ فسبحانه هو الذي يَصُونهم منه؛ إلا مَنْ ضَلَّ عن هدى الله سبحانه، وهم مَنْ يستطيع إبليس غوايتهم.
وهكذا نجد أن {الغاوين} هي ضد {عبادي}، وهم الذين اصطفاهم الله من الوقوع تحت سلطان الشيطان؛ لأنهم أخلصوا وخَلَّصوا نفسهم لله، وسنجد إبليس وهو ينطق يوم القيامة أمام الغاوين: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22].
ومن نِعَم الله علينا أن أخبرنا الحق سبحانه بكلّ ذلك في الدنيا، ولسوف يُقِر الشيطان بهذا كله في اليوم الآخر؛ ذلك أنه لم يملك سلطانًا يقهرنا به في الدنيا، بل مجرد إشارة ونَزْغ؛ ولا يملك سلطانَ إقناع ليجعلنا نفعل ما ينزغ به إلينا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما يُؤكّد أن جزاء الغاوين قَاسٍ أليم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ}
ولأن المصير لهؤلاء هو جهنم؛ فعلى العبد الذكيّ أن يستحضرَ هذا الجزاء وقتَ الاختيار للفعل؛ كي لا يرتكب حماقةَ الفعل الذي يُزيّنه له الشيطان، أو تُلِح عليه به نفسه، ولو أن المُسرِف على نفسه استحضر العقوبة لحظةَ ارتكاب المعصية لَماَ أقدم عليها، ولكن المُسْرف على نفسه لا يقرِن المعصية بالعقوبة؛ لأنه يغفل النتائج عن المقدمات.
ولذلك أقول دائمًا: هَبْ أن إنسانًا قد استولتْ عليه شراسة الغريزة الجنسية، وعرف عنه الناس ذلك، وأعدّوا له مَا يشاء من رغبات، وأحضروا له أجملَ النساء؛ وسهّلوا له المكان المناسب للمعصية بما فيه من طعام وشراب.
وقالوا: هذا كله ذلك، شَرْط أن تعرف أيضًا ماذا ينتظرك، وأضاءوا له من بعد ذلك قَبْوًا في المنزل؛ به فرن مشتعل، ويقولون له: بعد أنْ تَفْرُغ من لَذّتِك ستدخل في هذا الفرن المشتعل. ماذا سيصنع هذا الإنسان؟
لابُدّ أنه سيرفض الإقدام على المعصية التي تقودهم إلى الجحيم.
وهكذا نعلم أن مَنْ يرتكب المعاصي إنما يستبطِئ العقوبة، والذكيّ حقًا هو مَنْ يُصدِّق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه «الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته»، ولا أحدَ يعلم متى يموت.
ويُبيِّن الحق سبحانه من بعد ذلك مراتبَ الجحيم، فيقول:
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}
وفي جهنمَ يكون مَوْعِد هؤلاء الغَاوين، ومعهم إبليس الذي أَبَى واستكبر، وصَمَّم على غواية البشر، وألوان العذاب ستختلف، ولكن جماعة لهم جريمة يُقْرنون بها معًا. فمَنْ يشربون الخمر سيكونون معًا؛ ومَنْ يلعبون الميسر يكونون معًا.
ولكُلّ باب من أبواب جهنم جماعة تدخل منه ربطَتْ بينهم في الدنيا معصيةٌ ما؛ وجمعهم في الدنيا وَلاءٌ ما، وتكوّنتْ من بينهم صداقاتٌ في الدنيا، واشتركوا بالمخالطة؛ ولذلك فعليهم الاشتراك في العقوبة والنكال، وهكذا يتحقق قول الحق سبحانه: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
وفي الجحيم أماكن تَأويهم؛ فقِسْم يذهب إلى اللظى؛ وآخر إلى الحُطَمة؛ وثالث إلى سَقَر، ورابع إلى السَّعير، وخامس إلى الهاوية.
وكل جُزْء له قِسْم مُعيَّن به؛ وفي كل قسم دَركَات، لأن الجنة درجات، والنار دركات تنزل إلى أسفل. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}.
المراد بالإنسان في قوله: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} هو: آدم لأنه أصل هذا النوع، والصلصال، قال أبو عبيدة: هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرّك، فإذا طبخ في النار فهو الفخار.
وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الكسائي: هو الطين المنتن، مأخوذ من قول العرب صلّ اللحم وأصلّ: إذا أنتن، مطبوخًا كان أو نيئًا.
قال الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدرة ** لا يفسد اللحم لديه الصلول

والحمأ: الطين الأسود المتغير، أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير.
قال ابن السكيت: تقول منه.
حمأت البئر حمأ بالتسكين: إذا نزعت حمأتها، وحمئت البئر حمأ بالتحريك: كثرت حمأتها، وأحميتها إحماء: ألقيت فيها الحمأة.
قال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الحمأة، يعني: بالتحريك.
والجمع: حمء مثل: تمرة وتمر، والحمأ المصدر مثل: الهلع والجزع، ثم سمي به.
والمسنون قال الفراء: هو المتغير، وأصله من سننت الحجر على الحجر: إذا حككته.
وما يخرج بين الحجرين يقال له: السنانة والسنين، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان:
ثم حاصرتها إلى القبة الحمراء ** تمشي في مرمر وسنون

أي: محكوك، ويقال: أسن الماء: إذا تغير.
ومنه قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259].
وقوله: {مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} [محمد: 15].
وكلا الاشتقاقين يدل على التغير؛ لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلاّ منتنا.
وقال أبو عبيدة: المسنون: المصوب، وهو من قول العرب.
سننت الماء على الوجه: إذا صببته، والسنّ الصب.
وقال سيبويه: المسنون المصوّر، مأخوذ من سنة الوجه، وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة ** ملساء ليس بها خال ولا ندب

وقال الأخفش: المسنون: المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول.
والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بلّ، صار طينًا، فلما أنتن صار حمأً مسنونًا، فلما يئس صار صلصالًا.
فأصل الصلصال: هو الحمأ المسنون، ولهذا وصف بهما.
{والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} الجانّ: أبو الجنّ عند جمهور المفسرين.
وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل: هو إبليس، وسمي جانًا، لتواريه عن الأعين. يقال: جن الشيء إذا ستره.
فالجانّ: يستر نفسه عن أعين بني آدم، ومعنى {من قبل}: من قبل خلق آدم.
والسموم: الريح الحادة النافذة في المسامّ، تكون بالنهار، وقد تكون بالليل.
كذا قال أبو عبيدة، وذكر خلق الإنسان والجانّ في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الظرف منصوب بفعل مقدّر، أي: اذكر.
بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له، وقد تقدّم تفسير ذلك في البقرة.
والبشر: مأخوذ من البشرة، وهي ظاهر الجلد، وقد تقدّم تفسير الصلصال والحمأ المسنون قريبًا مستوفى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: سويت خلقه، وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزاءه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} النفخ: إجراء الريح في تجاويف جسم آخر.
فمن قال: إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر، ومن قال: إنه جوهر مجرد غير متحيز، ولا حال في متحيز.
فمعنى النفخ عنده: تهيئة البدن لتعلق النفس الناطقة به.
قال النيسابوري: ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم، مثل {ناقة الله}، و{بيت الله}.
قال القرطبي: والروح: جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم.
وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح: خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا.
قال: ومثله: {وَرُوحٌ مّنْهُ} [النساء: 171].
وقد تقدّم في النساء {فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} الفاء تدلّ على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفح من غير تراخٍ، وهو أمر بالوقوع، من وقع يقع.
وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود، لا مجرّد الانحناء كما قيل، وهذا السجود: هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء؛ وقيل: كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم.
{فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعًا عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخٍ، قال المبرد: قوله: {كلهم} أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد، وقوله: {أجمعون} توكيد بعد توكيد، ورجح هذا الزجاج.
قال النيسابوري: وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالًا، ولو صح أن يكون حالًا لكان منتصبًا، ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} قيل: هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ولكنه أبى ذلك استكبارًا واستعظامًا لنفسه وحسدًا لآدم، فحقت عليه كلمة الله.
وقيل: إنه لم يكن من الملائكة، ولكنه كان معهم، فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلًا.
وقيل: إن الاستثناء منفصل بناءً على عدم كونه منهم، وعدم تغليبهم عليه، أي: ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة، وجملة {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} استئناف مبين لكيفية ما فيهم من الاستثناء من عدم السجود؛ لأن عدم السجود قد يكون مع التردّد، فبين سبحانه أنه كان على وجه الإباء.
وجملة {قَالَ يَا إِبْلِيسَ مالك أَلا تَكُونَ مَعَ الساجدين} مستأنفة أيضًا جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم، بل للتقريع والتوبيخ، والمعنى: أي غرض لك في الامتناع؟ وأيّ سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة وهم في الشرف وعلوّ المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها.