فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجملة {قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} مستأنفة كالتي قبلها، جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشرًا مخلوقًا من صلصال من حمأ مسنون زعمًا منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرًا منه.
وقد صرح بذلك في موضع آخر، فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 76].
وقال في موضع آخر: {أأسجد لمن خلقت طينا} [الإسراء: 61].
واللام في {لأسجد} لتأكيد النفي، أي: لا يصح ذلك مني، فأجاب الله سبحانه عليه بقوله: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} والضمير في {منها}، قيل: عائد إلى الجنة، وقيل: إلى السماء.
وقيل: إلى زمرة الملائكة أي: فأخرج من زمرة الملائكة {فإنك رجيم} أي: مرجوم بالشهب.
وقيل: معنى رجيم: ملعون، أي: مطرود؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} أي: عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرًا عليك لازمًا لك إلى يوم الجزاء، وهو يوم القيامة.
وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت، لأن المراد دوامها من غير انقطاع، وذكر يوم الدين، للمبالغة كما في قوله تعالى: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107].
أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشدّ من اللعن من أنواع العذاب، فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب.
{قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي: أخرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون، أي: آدم وذريته.
طلب أن يبقى حيًا إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبدًا، لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه.
وقيل: إنه لم يطلب أن لا يموت، بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} لما سأل الإنظار، أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه، وأخبره بأنه من جملة من أنظره ممن أخر آجالهم من مخلوقاته، أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا.
ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها، فقال: {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وهو يوم القيامة، فإن {يوم الدين} و{يوم يبعثون} و{يوم الوقت المعلوم} كلها عبارات عن يوم القيامة.
وقيل: المراد بالوقت المعلوم: هو الوقت القريب من البعث، فعند ذلك يموت.
{قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَزَيّنَنَّ لَهُمْ في الأرض} الباء للقسم، وما مصدرية، وجواب القسم {لأزينن لهم} أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض، أي: ما داموا في الدنيا.
والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها، أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها.
وإقسامه ها هنا بإغواء الله له لا ينافي إقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره، لأن الإغراء له هو من جملة ما تصدق عليه العزّة {وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية، وأحملهم عليه {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام، أي: الذين استخلصتهم من العباد.
وقرأ الباقون بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا لك العبادة، فلم يقصدوا بها غيرك.
{قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} أي: حق عليّ أن أراعيه، وهو ألا يكون لك على عبادي سلطان.
قال الكسائي: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك عليّ ومصيرك إليّ.
وكقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14].
فكأن معنى هذا الكلام: هذا طريق مرجعه إليّ، فأجازي كلا بعمله، وقيل: {على} هنا بمعنى إلى.
وقيل: المعنى: على أن الصراط المستقيم بالبيان والحجة.
وقيل: بالتوفيق والهداية.
وقرأ ابن سيرين، وقتادة، والحسن، وقيس بن عباد، وأبو رجاء، وحميد، ويعقوب {هذا صراط علي} على أنه صفة مشبهة، ومعناه: رفيع.
{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} المراد بالعباد هنا: هم المخلصون، والمراد أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به، ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} استثنى سبحانه من عباده هؤلاء.
وهم المتبعون لإبليس من الغاوين عن طريق الحقّ الواقعين في الضلال، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله: {وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}، ويمكن أن يقال: إن بين الكلامين فرقًا فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلاّ من اتبعه من الغاوين، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين؛ وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلاّ المخلصين، فدخل فيهم من لم يكن مخلصًا ولا تابعًا لإبليس غاويًا.
والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس.
وقد قيل: إن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون.
ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].
ثم قال الله سبحانه متوعدًا لأتباع إبليس: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: موعد المتبعين الغاوين، و{أجمعين} تأكيد للضمير، أو حال {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يدخل أهل النار منها، وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها {لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ} أي: من الأتباع الغواة {جُزْء مَّقْسُومٌ} أي: قدر معلوم متميز عن غيره.
وقيل: المراد بالأبواب: الأطباق طبق فوق طبق، وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، فأعلاها للموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطباق، ثم ما بعدها تحتها، ثم كذلك، كذا قيل.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: خلق الإنسان من ثلاث: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون، فالطين اللازب: اللازم الجيد، والصلصال: المدقق الذي يصنع منه الفخار، والحمأ المسنون: الطين الذي فيه الحمأة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه قال: الصلصال: الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها، فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: الصلصال: هو التراب اليابس الذي يبلّ بعد يبسه.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: الصلصال: طين خلط برمل.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا.
قال: الصلصال: الذي إذا ضربته صلصل.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا.
قال: الصلصال: الطين تعصر بيدك، فيخرج الماء من بين أصابعك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال: من طين رطب.
وأخرج هؤلاء عنه أيضًا {مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال: من طين منتن.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: الجان: مسيخ الجنّ، كالقردة والخنازير مسيخ الإنس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: الجان: هو إبليس، خلق من قبل آدم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} قال: من أحسن النار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: نار السموم: الحارة التي تقتل.
وأخرج الطيالسي، والفريابي، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: السموم.
التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، ثم قرأ: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم}.
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعًا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قال: أراد إبليس لا يذوق الموت فقيل: إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن سيرين {هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} أي: رفيع.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} بعدد أطباق جهنم كما قدّمنا.
وأخرج ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وهناد، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في صفة النار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث من طرق عن عليّ قال: أطباق جهنم سبعة، بعضها فوق بعض، فيملأ الأوّل، ثم الثاني، ثم الثالث حتى.
تملأ كلها، وأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي، وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سلّ السيف على أمتي» وقد ورد في صفة النار أحاديث وآثار.
وأخرج ابن مردويه، والخطيب في تاريخه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في قوله تعالى: {لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ} قال: جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
قوله تعالى: {إلى يَوْمِ} يجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار في عليك، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ اللعنةِ.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}
والضميرُ في: {لَهُمْ} لذرِّيَّةِ آدم، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ للعِلْمِ بهم.
قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ}: {هذا} إشارةٌ إلى الإِخلاص المفهومِ من {المُخْلَصين}، وقيل: {هذا}، أي: انتفاءُ تَزْيينِه وإغوائه، و{عليَّ}، أي: مَنْ مَرَّ عليه مَرَّ عليَّ، أي على رضواني وكرامتي، وقيل: على بمعنى إلى، نُقِل عن الحسن.
وقرأ الضَّحاك وأبو رجاء وابن سيرين ويعقوب في آخرين: {عَلِيٌّ}، أي: عالٍ مرتفعٌ.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ متصل، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ الأكثرِ من الأقل، وهي مسالةُ خلافٍ.
والثاني: أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في {عبادي}؛ إذ المرادُ بهم الخُلَّصُ، والإِضافةُ إضافةُ تشريفٍ.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)}
و{أَجْمَعِينَ}: تأكيدٌ، وقال ابن عطية: تأكيدٌ فيه معنى الحال وفيه جنوحٌ لِمَنْ يَرَى اتحادَ الوقت. قوله: {لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} في {أجمعين} وجهان أظهرُهما: أنه تأكيدٌ للضمير، والثاني: أنه حالٌ منه، والعاملُ فيه معنى الإِضافة، قاله أبو البقاء، وقد عَرَفْتَ خلافَ الناس في مجيءِ الحالِ من المضافِ إليه، ولا يَعْمل فيها المَوْعِدُ إن أريد به المكانُ، فإن أُريد به المصدرُ جاز أَنْ يعملَ لأنه مصدرٌ، ولكن لابد مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: مكان موعدِهم.
قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً وهو الظاهرُ، ويجوز أن تكونَ خبرًا ثانيًا، ولا يجوز أن تكونَ حالًا من {جهنم} لأنَّ {إنَّ} لا تعملُ في الحال، قاله أبو البقاء، وقياسُ ما ذكروه في ليت وكأنَّ ولعلَّ مِنْ أخواتها، مِنْ عملِها في الحال، لأنها بمعنى تَمَنَّيْتُ وشَبَّهْتُ وترجَّيْتُ: أن تعمل فيها {إنَّ} أيضًا؛ لأنها بمعنى أكَّدْتُ، ولذلك عَمِلَتْ عَمَلَ الفعلِ، وهي أصلُ البابِ.
قوله: {منهم} يجوز أن يكونَ حالًا مِنْ {جُزْء} لأنه في الأصل صفةٌ له، فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالًا، ويجوز أن تكونَ حالًا من الضميرِ المستترِ في الجارِّ، وهو {لكلِّ بابٍ} والعاملُ في هذه الحالِ ما عَمِل في هذا الجارَّ، ولا يجوز أن تكونَ حالًا من الضمير المستكنِّ في {مَقْسُوم} لأنَّ الصفةَ لا تعمل فيما قبل الموصوفِ، ولا يجوز أن تكونَ صفةً لـ: {باب} لأنَّ البابَ ليس من الناس.
وقرأ أبو جعفر بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، كأنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الزاي، ووَقَفَ عليها فَشَدَّدها، كقولهم: خالدّْ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
ولمَّا أبعده الحقُّ- سبحانه- عن معرفته، وأفرده باللعنة استنظره إلى يوم القيامة والبعث، فأجابه، وظَنَّ اللَّعينُ أنه حصل في الخير مقصوده، ولم يعلم أنه أراد بذلك تعذيبه عذابًا شديدًا، فكأنه كان في الحقيقة مكرًا- وإن كان في الحال في صورة إجابة السؤال بما يُشْبِهُ اللطفَ والبِرَّ.
وبعض أهل الرجاء يقول: إن الحق- سبحانه- حينما يهين عدوَّه لا يَرُدُّ دعاءَه في الإمهال ولا يمنعه من الاستنظار؛ فالمؤمن- إذ أَمْرُهُ الاستغفارُ السؤالُ بوصفِ الافتقارِ- أَوْلَى ألا يقنظَ مِنْ رحمتهِ، لأنَّ إنظارَ اللعين زيادةُ شقاء له تحقيق عطاء.
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}
الباء في {بِمَا أَغْوَيْتَى} باء القسم، ولم يكن إغواؤه إياه مما يجب أن يُقْسِم به لولا فَرْطُ جَهْلِه. ثم هو في المعنى صحيح، لأنَّ الإغواء مما يتفرَّدُ بالحق بالقدرة عليه، ولا يشاركه فيه أحد، ولكن اللَّعِينَ لا يعرف الله الحقيقة، إذ لو عَرَفَه لم يدعُ إلى الضلال، لأنه لو قدر على إضلالِ غيره لاستبقى على الهدايةِ نَفْسَه، وعند أهل التحقيق إنه يقول جميع ذلك حَدْسًا وهو لم يَعْرِفْ الله- على الحقيقة- قَطُّ.
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)}
الإخلاصُ هو تصفيةُ الأعمالُ عن الغَيْن وعن الآفات المانعة من صالح الأعمال، وقد عَلِمَ اللعينُ أنه لا سبيل له إليهم بالإغواء لمَّا تَحَقَقَ من عناية الحقِّ بشأنهم.
{قال هذا صراط عليَّ مستقيم} تهديدٌ، كما تقول: افعل ما شِئْتَ، وهذا طريقي.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}
السلطان الحجة، وهي لله على خَلْقه، وليس للعدوِّ حجة على مخلوق، إذ لا تَتَعدَّى مقدرتُه محلَّه، فلا تَسلَّطَ- في الحقيقة- لمخلوق بالتأثير فيه.
{إِنَّ عِبَادِى}: إذا سمى الله واحدًا عبدًا فهو من جملة الخواص، فإذا أضافه إلى نفسه فهو خاص الخاص، وهم الذين محاهم عن شواهدهم، وحفظهم وصانهم عن أسباب التفرقة وجرَّدهم عن حَوْلهم وقُوَّتِهم، وكان النائبَ عنهم في جميع تصرفاتهم وحالاتهم، وحفظ عليهم آدابَ الشرع، وألبَسُهم صِدارَ الاختيار في أوان أداء التكليف، وأخذهم عنهم باستهلاكهم في شهوده، واستغراقهم في وجوده.. فأيُّ سبيلٍ للشيطان إليهم؟ وأي يدٍ للعدو عليهم؟
ومَنْ أشهدِ الحقُّ حقائقَ التوحيد، ورأى العالَمَ مُصَرَّفًا في قبضة التقدير، ولم يكن نهبًا للأغيار.. فمتى يكون لِلَّعين عليه تسلط، وفي معناه قالوا:
جحودي فيك تقديسُ ** وعقلي فيك تهويسُ

فمن آدم إلاَّكَ ** ومَنْ في البيت إبليسُ

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}
اجتمعوا اليومَ في أصل الضلالة، ثم الكفر مِلَلٌ مختلفةٌ، ثم يجتمعون غدًا في العقوبة وهم زُمَرٌ مختلفون، لكلِّ دَرَكَةٍ من دركات جهنم قوم مُخَصُّون. اهـ.