فصل: قال الزمخشرى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الكلبي عن أبي صالح عنه: هي نار لادخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله له أمرًا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت، فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب.
أبو روق عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار.
روى سعيد عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من عبد الله [قال: بلى، قال:]. سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءًا من السموم التي خلق منها الجان وتلا: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم}.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ} سأخلق {بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} عدلت صورته وأتممت خلقه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} فصار بشرًا حيًا {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة {فَسَجَدَ الملائكة} المأمورون بالسجود {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} على التأكيد {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين}.
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرًا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: لانفعل. فأرسل عليهم نارًا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشرًا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم نارًا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشرًا من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلاّ إبليس كان من الكافرين.
{قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} محل {أن} النصب بفقد الخافض.
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فاخرج مِنْهَا} أي من الجنة ومن السماوات {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ملعون طويلًا {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي بأغوائك أياي وهو الإضلال والإبعاد {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} معاصيك ولأُحببنَّها اليهم {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنهم {أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}.
قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام: بفتح اللام، وإختاره أبو عبيد، يعني إلاّ من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته.
وقرأ أهل مكة والبصرة: بكسر اللام، وإختاره أبو حاتم، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة، وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعًا: المؤمنين.
{قَالَ} الله لإبليس {هَذَا صِرَاطٌ} طريق {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
قال الحسن: هذا صراط إليَّ مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لايعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة صراط مستقيم.
وقال الكسائي: هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمتهُ وتهدده: طريقك عليَّ، كما قال الله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14]. فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلًا بأعمالهم.
وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب: هذا صراط عليٌّ برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع، كقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57].
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} قوة.
قال أهل المعاني: يعني على قلوبهم.
وسُئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم.
{إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أطباق {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ} يعني من أتباع إبليس {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} حظ معلوم.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الباب.
فقال: لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.
وأبو سنان عن الضحاك في قول الله: {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} قال: للنار سبعة أبواب هي سبعة أدراك بعضها على بعض.
فأولها: أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثمّ يخرجون.
والثاني: فيه اليهود.
والثالثة: فيه النصارى.
والرابع: فيه الصابئون.
والخامسة: فيه المجوس.
والسادس: فيه مشركوا العرب.
والسابع: فيه المنافقون.
فذلك قوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145]. الآية.
أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرّت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بلغ هذه الآية: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} فخرّت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف وقال: يا بلال عليَّ بماء. فجاء فصب على وجهها حتّى أفاقت وجلست، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا هذه ما حالك؟ فقالت: رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أُصلي خلفك ركعتين، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك؟
قال بلال: فما أحسبه إلاّ قال: يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل.
فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها.
فقال: يا أعرابية لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب على كل باب على قدر أعمالهم.
فقالت: والله إني لامرأة مسكينة مالي مالٌ ومالي إلاّ سبعة أعبد أشهدك يارسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حرُّ لوجه الله. فأتاه جبرئيل فقال: يارسول الله بشّر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها»
.
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادخلوها} قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر، مجازه: يقال لهم ادخوها.
وقرأ الحسن: أدخلوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير.
{بِسَلامٍ} بسلامة {آمِنِينَ} من الموت والعذاب والآفات {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} نصب على الحال، وإن شئت قلت: جعلناهم إخوانا {على سُرُرٍ} جمع سرير مثل جديد جدد {مُّتَقَابِلِينَ} يقابل بعضهم بعضًا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه {لاَ يَمَسُّهُمْ} لا يصيبهم {فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}. اهـ.

.قال الزمخشرى:

سورة الحجر مكية إلا آية 87 فمدنية، وهي تسع وتسعون آية، نزلت بعد سورة يوسف.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

.[سورة الحجر: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}.
{تِلْكَ} إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، و{الكتاب}، و{قرآن المبين}: السورة.
وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابًا وأى قرآن مبين، كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.

.[سورة الحجر: الآيات 2- 3]

{رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}.
قرئ: {ربما}، و{ربتما}. بالتشديد، و{ربما}، و{ربما}: بالضم والفتح مع التخفيف. فإن قلت: لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت: لأن المترقب في إخبار اللّه تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل: ربما ودّ. فإن قلت: متى تكون ودادتهم؟ قلت: عند الموت، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين، وقيل: إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار، وهذا أيضًا باب من الودادة. فإن قلت: فما معنى التقليل؟ قلت: هو وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل، ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا: لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه، كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة، فبالحرى أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة {لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} حكاية ودادتهم، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم، كقولك: حلف باللّه ليفعلنّ، ولو قيل: حلف باللّه لأفعلنّ، ولو كنا مسلمين، لكان حسنًا سديدًا، وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكوتهم تمنوا، فلذلك قلل {ذَرْهُمْ} يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم عن النهى عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم {يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيرًا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم.
والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة، وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّى إليه طول الأمل، وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.

.[سورة الحجر: الآيات 4- 5]

{وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)}.
{وَلَها كِتابٌ} جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ} وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. {كتاب مَعْلُومٌ} مكتوب معلوم، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين، ألا ترى إلى قوله: {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها} في موضع كتابها، وأنث الأمّة أوّلا ثم ذكرها آخرا، حملا على اللفظ والمعنى: وقال: {وَما يَسْتَأْخِرُونَ} بحذف عنه لأنه معلوم.

.[سورة الحجر: آية 6]

{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}.
قرأ الأعمش: {يا أيها الذي ألقى عليه الذكر}، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء، كما قال فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون، والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع، وقد جاء في كتاب اللّه في مواضع، منها {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}، {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} وقد يوجد كثيرًا في كلام العجم، والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أنّ اللّه نزل عليك الذكر.

.[سورة الحجر: آية 7]

{لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}.
{لو} ركبت مع لا وما لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض: قال ابن مقبل:
لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدّينُ عِبْتُكُمَا ** بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى

والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟.

.[سورة الحجر: آية 8]

{ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}.
قرئ: {تنزل}، بمعنى تتنزل وتنزل على البناء للمفعول من نزل، و{ننزل الملائكة}: بالنون ونصب {الملائكة إِلَّا بِالْحَقِّ} إلا تنزلا ملتبسًا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانًا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار، ومثله قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} وقيل: الحق الوحى أو العذاب. وإِذاً جواب وجزاء، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم.

.[سورة الحجر: آية 9]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)}.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولذلك قال: {إنا نحن}، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ردًا لإنكارهم واستهزائهم، فكيف اتصل به قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُون}؟ قلت: قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية، لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواهـ، وقيل: الضمير في لَهُ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ}.

.[سورة الحجر: الآيات 10- 11]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)}
{فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} في فرقهم وطوائفهم، والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة، ومعنى أرسلناه فيهم: نبأناه فيهم وجعلناه رسولا فيما بينهم {وَما يَأْتِيهِمْ} حكاية حال ماضية، لأنّ {ما} لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.

.[سورة الحجر: الآيات 12- 13]

{كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}.
يقال: سلكت الخيط في الإبرة، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته، وقرئ: {نسلكه} للذكر، أى: مثل ذلك السلك، ونحوه: نسلك الذكر {في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذبًا مستهزآً به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت:
كذلك أنزلها باللئام، تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية، ومحل قوله: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} النصب على الحال، أى غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ}. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} طريقتهم التي سنها اللّه في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم.