فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.كلام نفيس لابن القيم في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه حكاية مناظرة بين الرسول وبين اليهود لما قال لهم آمنوا بما أنزل الله تعالى فأجابوه بأن قالوا {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ومرادهم بهذا التخصيص أن نؤمن بالمنزل علينا دون غيره فظهرت عليهم الحجة بقولهم هذا من وجهين دل عليهما قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} إلى آخر الآية. قال إن كنتم قد آمنتم بما أنزل عليكم لأنه حق فقد وجب عليكم أن تؤمنوا بما جاء به محمد لأنه حق مصدق لما معكم وحكم الحق الإيمان به أين كان ومع من كان فلزمكم الإيمان بالحقين جميعا أو الكفر الصراح وفي وقوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} نكتة بديعة جدا وهي أنهم لما كفروا به وهو حق لم يكن إيمانهم بما انزل عليهم لأجل أنه حق فإذا لم يتبعوا الحق فيما أنزل عليهم ولا فيما جاء به محمد لأنهم لو آمنوا بالمنزل عليهم أنه حق لآمنوا بالحق الثاني وأعطوا الحق حقه من الإيمان ففي ضمن هذه الشهادة عليهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الأول ولا بالثاني وهكذا الحكم في كل من فرق الحق فآمن ببعضه وكفر ببعضه كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وكمن آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض لم ينفعه إيمانه بما كفر به حتى يؤمن بالجميع.
ونظير هذا التفريق من يرد آيات الصفات وأخبارها ويقبل آيات الأوامر والنواهي فإن ذلك لا ينفعه لأنه آمن ببعض الرسالة وكفر ببعض فإن كانت الشبهة التي عرضت لمن كفر ببعض الأنبياء غير نافعة له فالشبهة التي عرضت لمن رد بعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن لا تكون نافعة وإن كانت هذه عذرا له فشبهة من كذب بعض الأنبياء مثلها وكما أنه لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع الأنبياء ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بعضه ورد بجميعهم فكذلك لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما جاء به الرسول فإذا آمن ببعضه فهو كمن كفر به كله.
فتأمل هذا الموضع واعتبر به الناس على اختلاف طوائفهم يتبين لك أن أكثر من يدعى الإيمان برئ من الإيمان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوجه الثاني من النقض قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ووجه النقض أنكم إن زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم وبالأنبياء الذين بعثوا فيكم فلم قتلتموهم من قبل وفيم أنزل إليكم الإيمان بهم وتصديقهم فلا آمنتم بما انزل إليكم ولا بما أنزل على محمد ثم كأنه توقع منهم الجواب بأنا لم نقتل من ثبتت نبوته ولم نكذب به فأجيبوا على تقدير هذا الجواب الباطل منهم بأن موسى قد جاءكم بالبينات وما لا ريب في صحة نبوته ثم عبدتم بعد غيبته عنكم وأشركتم بالله وكفرتم به وقد علمتم نبوة موسى وقيام البراهين على صدقة فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فهكذا تكون الحجج والبراهين ومناظرات الأنبياء لخصومهم. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ}.
إما معطوف على {قَالُواْ نُؤْمِنُ} فيكون جوابا لِإذا، أي إِذَا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يكفرون بما وراء كتابهم، وإما حال مع أن المضارع لا يأتي حالا بالواو إلا قليلا، لكنه هنا على إضمار المبتدإ أي وهم يكفرون بما وراءه.
أخبر الله عن تناقضهم بأن إيمانهم بكتابهم يستلزم إيمانهم بما سواه من الكتب التي من جملتها القرآن، وكفرهم بالقرآن يستلزم كفرهم بكتابهم المنزل عليهم، لأنّ الكتب كلّها يصدق بعضها بعضا.
قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ}.
أبو حيان {مُصَدِّقًا} حال مؤكدة.
قال ابن عرفة: بل هي مبنية، لأن الحقّ قد يكون مصدقا لما معهم، وقد لا يكون مصدقا ولا مكذبا، لأن النّبي عليه الصلاة والسلام أتى بشرائع بعضها في كتابهم، وبعضها ليس موجودا في كتابهم بوجه، فكتابنا حق ومصدق لما في كتابهم بالنسبة إلى ما تكرر في الكتابين، وليس بمصدق أو مكذب بالنسبة إلى ما زاد به على كتابهم، وأما أنه مكذب فَلاَ لأن كلا الكتابين حق، فليس من لوازم كون القرآن حقا يصدق ما معهم إنّما من لوازمه أنْ لا يكذبه لأن الحق لا يكذب الحق. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} ظرف لقالوا والجملة عطف على {قَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] ولا غرض يتعلق بالقائل، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.
{بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ} الجمهور على أنه القرآن، وقيل: سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم ومع هذا: جُلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارًا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون، وتنبيهًا على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانًا بما أنزل الله.
{قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيًا وحسدًا على نزوله على من ليس منهم وإما أنفسهم ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن ودسائس اليهود مشهورة أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه.
{وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} عطف على {قَالُواْ}؛ والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابًا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار، وقيل: استئناف وعليه ابن الأنباري ويجوز أن يكون حالًا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالًا مع الواو، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون، والتقييد بالحال حينئذٍ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضوا في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به وهذا أدخل في رد مقالتهم ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه، ووراء في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلًا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر، ولصدقه على الضدين الخلف، والأمام عد من الأضداد وليس موضوعًا لهما، وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفًا كان أو قدامًا إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك.
والمراد هنا بما بعده قاله قتادة أو بما سواه وبه فسر {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 4 2] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور.
وقال الواحدي: هو والإنجيل، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.
{وَهُوَ الحق} الضمير عائد لما وراءه حال منه، وقيل: من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال كجاء زيد والشمس طالعة وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضًا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفه من قبيل والدك العبد فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني مصدقًا لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضًا، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناءً على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضًا، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقًا إلا أنه بعيد.
{مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ} حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضًا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في (البحر) لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقًا وسياقًا.
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتًا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه، ويحتمل أن يكون أمرًا لمن يريد جدالهم كائنًا من كان.
والفاء جواب شرط مقدر أي: إن كنتم مؤمنين {فَلَمْ} الخ، وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغير هاء، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وقيل: لحكاية تلك الحال، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه، وهذا كما يقال لأهل قبيلة أنتم قتلتم زيدًا إذا كان القاتل آباءهم، وقيل: القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتًا منه على الآخرين فتدبر، وفي إضافة أنبياء إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك، وقيل: إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناءً على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبي زيد، واختاره في (البحر)، وقال الزجاج: {إن} هنا نافية ولا يخفى بعده. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}.
معطوف على قوله: {ولما جاءهم كتاب من عند الله} [البقرة: 89] المعطوف على قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} [البقرة: 88] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفًا على {وقالوا قلوبنا غلف} على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا: قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدًا أن نزل على رجل من غيرهم، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلًا من عند الله أعرضوا وقالوا: نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدًا لقوله الآتي: {ما ننسخ من آية} [البقرة: 106] الآيات.
وقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم {آمنوا بما أنزل الله} علموا أنهم إن امتنعوا امتناعًا مجردًا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم {نؤمن بما أنزل علينا} أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه.
وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع {نؤمن} أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم {آمنوا بما أنزل الله} وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيًا الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي {آمنوا بما أنزل الله} وجوابها بقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا}.
وقوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه} جيء بالمضارع محاكاة لقولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرًا في معنى التعجب والغرابة.
وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله: {وهو الحق مصدقًا لما معهم}.
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرًا.
جعل الوراء مجازًا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضًا مجازًا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة:
وليس وراء الله للمرء مطلب

واستعمل أيضًا بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا} [الكهف: 79] وقول لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي ** لزوم العصا تحني عليها الأصابع

فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في الموازنة كونه ضدًا.
فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} ولتعقيبه بقوله: {وهو الحق مصدقًا}.
وجملة {وهو الحق} حالية واللام في الحق للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان:
وإن سنام المجد من آل هشام ** بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في دلائل الإعجاز.
وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله: {مصدقًا} أي هو المنحصر في كونه حقًا مع كونه مصدقًا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقًا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرًا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق.
ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم.
وقوله: {مصدقًا} حال مؤكدة لقوله: {وهو الحق} وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله: {مصدقًا لما معهم} مشعر بوصف زائد على مضمون {وهو الحق} إذ قد يكون الكتاب حقًا ولا يصدق كتابًا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شئونهم وهيئاتهم.
وقوله: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبئاء دأب لهم وأن قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} كذب إذ لو كان حقًا لما قتل أسلافهم الأنبئاء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم.
وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبئاء.
والإتيان بالمضارع في قوله: {تقتلون} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله: {من قبل} فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادًا به الاستقبال في قوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر

بقرينة قوله يوم يلقى ربه.
والمراد بأنبئاء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى: {ويقتلون النبيئين بغير الحق} [البقرة: 61]. اهـ.