فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فإذا سويته}، أي: عدّلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح فيه بالفعل {ونفخت فيه من روحي}، أي: خلقت الحياة فيه وليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل وأضاف الروح إليه تشريفًا كما يقال: بيت الله وهو ما يصير به الروح عالمًا وأشرف منه ما يصير به العالم عاملًا خاشعًا وسيأتي الكلام على الروح إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح}.
{فقعوا}، أي: أسقطوا {له} تعظيمًا حال كونكم {ساجدين} وتقدّم في سورة البقرة الكلام على من المخاطب بالسجود وهل هو كل الملائكة أو ملائكة السموات أو ملائكة الأرض وهل هو سجود انحناء أو غيره.
{فسجد الملائكة} وقوله تعالى: {كلهم أجمعون} قال سيبويه: تأكيد بعد تأكيد، وسئل المبرد عن ذلك فقال: لو قال: {فسجد الملائكة} احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: {كلهم} زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت آخر، فلما قال: {أجمعون} ظهر أنّ الكل سجدوا دفعة واحدة. قال الزجاج: وقول سيبويه أجود لأنّ أجمعين معرفة فلا يكون حالًا وقوله تعالى: {إلا إبليس} أجمعوا على أنّ إبليس كان مأمورًا بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة على الاستقصاء في سورة البقرة وقوله تعالى: {أبى أن يكون مع الساجدين} أي: لآدم استئناف تقديره إنّ قائلًا قال: هل سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه.
{قال} الله تعالى له: {يا إبليس ما لك ألا تكون} أي: أن تكون ولا مزيدة، أي: ما منعك أن تكون {مع الساجدين} لآدم {قال لم أكن لأسجد لبشر} جسماني كثيف واللام لتأكيد النفي، أي: لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد وأنا ملك روحاني لبشر. {خلقته من صلصال من حمأ مسنون} وهو أخس العناصر {وخلقتني من نار} وهي أشرفها استنقص آدم باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف. تنبيه: قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله وضعف لأنّ إبليس قال في الله لجواب: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال} فقوله: خلقته خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأنّ إبليس تكلم مع الله بغير واسطة فكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى من غير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم؟ وأجيب: بأنّ مكالمة الله تعالى إنما تكون منصبًا عاليًا إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام فأمّا إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى زَيِّنَنَّ لَهُمْ في ارْضِ وَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}.
{قال} الله تعالى له {فاخرج منها} أي: من الجنة وقيل: من السموات وقيل: من زمرة الملائكة وقد تقدّم الكلام على ذلك أيضًا في سورة الأعراف. {فإنك رجيم} أي: مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان رجيم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
{وإن عليك اللعنة} أي: هذا الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين} قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم مثل قوله تعالى: {مالك يوم الدين}. فإن قيل: كلمة إلى تفيد حصر انتهاء الغاية فهذا يفيد أنّ اللعنة لا تحصل إلا إلى يوم الدين وعند القيامة يزول اللعن؟
أجيب: بجوابين الأوّل: أنّ المراد التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية ذكرها الناس في كلامهم كقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض}
في التأبيد والثاني: أنه مذموم مدعو عليه باللعن في السموات والأرض إلى يوم القيامة من غير أن يعذب فإذا جاء اليوم عذب عذابًا يقترن اللعن معه فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه، ولما جعله رجيمًا ملعونًا إلى يوم القيامة فكأنَّ قائلًا يقول فماذا قال؟ فقيل:
{قال رب} فاعترف بالعبودية والإحسان إليه {فأنظرني} أي: أخرني والإنظار تأخير المحتاج للنظر في أمره والفاء متعلقة بمحذوف دلّ عليه {فاخرج منها فإنك رجيم}. {إلى يوم يبعثون} أي: الناس أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث. قال الله تعالى مجيبًا للأوّل دون الثاني بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل: كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال؟
أجيب: بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته، ولما أجيب لذلك كأنه قيل فماذا قال فقيل: {قال رب} أي: أيها الموجد والمدبر لي وقوله: {بما أغويتني} أي: خيبتني من رحمتك الباء فيه للقسم وما مصدرية وجواب القسم {لأزينن} أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن {لهم في الأرض} حب الدنيا ومعاصيك كقوله: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}
إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وهنا أقسم بإغواء الله، وهي من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال والراجح فيها الصحة. {ولأغوينهم} أي: بالإضلال عن الطريق الحميدة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ولأحملنهم. {أجمعين} على الغواية وقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا دينك عن الشوائب وقرأه الباقون بفتحها، أي: الذين أخلصهم الله تعالى بالهداية وإنما استثنى إبليس المخلصين لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه، وقال الرازي: والذي حمله على هذا الاستثناء أنه لا يصير كاذبًا في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أنّ الكذب في غاية الخساسة. تنبيه: قال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عنه عوضًا من الدارين ولا عوضًا من الملكين، وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله، وذكر القشيري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرّ استودعته قلب من أحب من عبادي»، ولما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه وتضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته.
قال تعالى: {هذا} أي: الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه {صراط} أي: طريق {عليّ مستقيم} أي: لا انحراف عنه لأني قضيت به وحكمت به عليك وعليهم ولو لم تقل أنت، ولما قال إبليس لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أوهم هذا أنّ له سلطانًا على عباد الله غير المخلصين فبين تعالى كذبه أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء أكانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين ومن اتبع منهم إبليس باختياره صار تبعًا له ولكن حصول تلك المتابعات أيضًا ليس لأجل إبليس وأوهم أن له على بعض عباد الله سلطانًا فبين تعالى كذبه وذكر تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلًا بقوله تعالى: {إن عبادي} أي: المؤمنين كلهم {ليس لك} أي: بوجه من الوجوه {عليهم سلطان} أي: لتردّهم كلهم عما يرضيني ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}
وقال تعالى في آية أخرى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}. {إلا من اتبعك} أي: بتعمدٍ منه ورغبة من اتباعك {من الغاوين} أي: ومات من غير توبة فإني جعلت لك عليهم سلطانًا بالتزيين والإغواء وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية؟ فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي، وقيل: إنّ الإضافة للتشريف فلا تشمل إلا الخلص فحينئذ يكون الاستثناء منقطعًا وفائدة سوقه بصورة الاستثناء على تقدير الانقطاع الترغيب في رتبة التشريف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام ويرونه كما هو الحق أعلى مرام.
{وإن جهنم لموعدهم} أي: الغاوين وهم إبليس ومن تبعه {أجمعين} ثم بين تعالى أنهم متفاوتون فيها بقوله تعالى: {لها} أي: لجهنم {سبعة أبواب} أي: سبع طبقات قال عليّ رضي الله تعالى عنه: أتدرون كيف أبواب النار؟ هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي: سبعة أبواب بعضها فوق بعض، وإنّ الله تعالى وضع الجنات على العرض ووضع النيران بعضها على بعض. قال ابن جريج: النار سبعة دركات أوّلها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. تنبيه: تخصيص العدد لأنّ أهلها سبع فرق وقيل: جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحدًا فجعلت أبواب الجنان ثمانية قال تعالى: {لكل باب} أي: منها {منهم} أي: من الغاوين خاصة لا يشاركهم فيها مخلص {جزء} أي: نصيب، وقرأ شعبة بضم الزاي والباقون بالسكون {مقسوم} أي: معلوم فلكل دركة قوم يسكنونها. قال الضحاك: في الدرجة الأولى أهل التوحيد الذي أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون، وفي الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون، فذلك قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمّتي أو قال على أمّة محمد»، ولما شرح تعالى أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب بقوله تعالى مؤكدًا لإنكار المكذبين بالبعث: {إن المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى كما قال جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح لأنّ المتقي والآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرّة واحدة فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضاربًا أو قاتلًا كونه آتيًا بجميع أنواع الضرب والقتل ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيًا كونه آتيًا بجميع أنواع التقوى لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيًا بالتقوى، لأنّ كل فرد من أفراد الماهية يجب كونه مشتملًا على تلك الماهية {في جنات} أي: بساتين. قال الرازي: أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
ثم قال: {ومن دونهما جنتان}
فيكون المجموع أربعة، وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى، وقوله تعالى: {ولمن خاف} يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة، وقوله تعالى: {وعيون} قال الرازي: يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى}، ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل: هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض؟
أجيب: بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم، ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى: {ادخلوها} أي: يقال لهم ذلك {بسلام} أي: سالمين من كل آفة مرحبًا بكم {آمنين} من ذلك دائمًا، ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى: {ونزعنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {ما في صدورهم من غلّ} أي: حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم {إخوانًا} أي: متصافين حالة كونهم {على سرر} جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال، وعند مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. تنبيه: ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}.
وعن الجنيد أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد، وقوله تعالى: {لا يمسهم فيها نصب} أي: إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى: {وما هم منها بمخرجين} المراد به كونه خلودًا بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالًا بلا نقصان وفوزًا بلا حرمان. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}
هنا نجيء إلى قصة البشرية الكبرى: قصة الفطرة الأولى. قصة الهدى والضلال وعواملهما الأصيلة. قصة آدم. مم خلق؟ وماذا صاحب خلقه وتلاه؟
ولقد مرت بنا هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل. في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص، في معرض خاص، في جو خاص، ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء، واختلفت الظلال، واختلفت الإيقاع. مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف.
تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث؛ في الأشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها:
ففي سورة البقرة سبقها في السياق: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وفي سورة الأعراف سبقها: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلًا ما تشكرون} وهنا سبقها: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض..
في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق لله للناس ما فيها جميعًا: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سره: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره، وسكنى آدم وزوجه الجنة، وإزلال الشيطان لهما عنها وأخراجهما منها. ثم الهبوط إلى الأرض للخلافه فيها، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية، واستغفارهما وتوبة الله عليهما، وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم، فكان هذا متصلًا باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض، وعهده معه، والتجربة القاسية لأبي البشر..
وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها؛ وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها. حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولي. ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه، وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود، ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء ابليس واستكباره.
وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث، ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد. ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة، هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة. ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهم إلى الأرض جميعًا للعمل في أرض المعركة الكبرى: {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى، وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار. ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النار: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} وأسدل الستار..