فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}.
عُهِدَ فِي سِيرَةِ الْبَشَرِ أَنَّ الْأُمَّةَ تُوعَظُ وَتُنْذَرُ، فَتَتَّعِظُ وَتَتَدَبَّرُ، فَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْأَمَدُ بَعْدَ النَّذِيرِ تَقْسُو الْقُلُوبُ، وَيَذْهَبُ أَثَرُ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الصُّدُورِ، وَتَفْسُقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَتَنْسَى مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ مِمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ، أَوْ تُحَرِّفُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ بِضُرُوبِ التَّأْوِيلِ، وَزُخْرُفِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَلَقَدْ يَكُونُ لِلْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا بَعْضُ الْعُذْرِ لِجَهْلِهِ بِمَا فَعَلَ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخْذِهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ لِكَمَالِ الثِّقَةِ وَحُسْنِ الظَّنِّ.
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّنَّةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [57: 16] وَلِهَذَا كَانَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَطُولَ أَمَدُ الْإِنْذَارِ عَلَى النَّاسِ فَيَفْسُقُوا وَيَضِلُّوا، وَلَا يَعْرِفُ التَّارِيخُ شَعْبًا جَاءَتْ فِيهِ الرُّسُلُ تَتْرَى كَشَعْبِ إِسْرَائِيلَ؛ لِذَلِكَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ صِحَّةِ الْعُذْرِ بِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى الْإِنْذَارِ، وَفِي نَاحِيَةٍ عَمَّا يُرْجَى قَبُولُهُ مِنَ التَّعَلُّلِ وَالِاعْتِذَارِ؛ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} فَلَمْ يَمُرَّ زَمَنٌ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى آخِرِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَّا وَكَانَ فِيهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ أَنْبِيَاءُ مُتَعَدِّدُونَ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْلَمُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِطُولِ الْأَمَدِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ بِالرُّسُلِ يَدٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ وَنِسْيَانِ الشَّرَائِعِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ لِاعْتِذَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُكُمْ، فَإِنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءَتْكُمْ تَتْرَى ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ مَعَهُمْ مَا كَانَ.
ذَكَرَ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْإِجْمَالِ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمَسِيحَ عليه السلام فَقَالَ: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}، فَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ: فَهِيَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا عَادَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ. وَأَمَّا رُوحُ الْقُدُسِ فَهُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَنْبِيَاءَهُ فِي عُقُولِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَهُوَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [42: 52] الْآيَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُقَدَّسٌ، أَوْ لِأَنَّهُ يُقَدِّسُ النُّفُوسَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ الْمُوحَى إِلَيْهِ يَكُونُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ يَأْمَنُ مَعَهَا التَّلْبِيسَ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [26: 193، 194].
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمَلَكُ الْمُسَمَّى بِجِبْرِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ الشَّرَائِعَ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ حَاتِمُ الْجُودِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا رُوحُ عِيسَى نَفْسِهِ، وَوَصْفُهَا بِالْقَدَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ بِمَعْنَى إِعَاذَتِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تُقَدِّسُ النُّفُوسَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الْإِنْجِيلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عِيسَى بَعْدَ ظُهُورِ رُسُلٍ كَثِيرِينَ فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى، وَأَعْطَاهُ مَا لَمْ يُعْطِ كُلَّ رَسُولٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ كَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَحَظِّ سَابِقِيهِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا مِنَ الْمَوَاهِبِ مِثْلُ مَا أُوتِيَ.
مَاذَا كَانَ حَظُّ أُولَئِكَ الرُّسُلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ كَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُمْ مَا أَفَادَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ}، فَاتَّبَعْتُمُ الْهَوَى وَأَطَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ، وَعَصَيْتُمُ الرُّسُلَ وَاحْتَمَيْتُمْ عَلَيْهِمْ أَنْ أَنْذَرُوكُمْ وَدَعَوْكُمْ إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِكُمْ، {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} كَانَ الْمَعْهُودُ فِي التَّخَاطُبِ وَكَلَامِ النَّاسِ أَنَّ تُذْكَرَ هَذِهِ الْمَسَاوِئُ ثُمَّ يُوَبَّخُونَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ طَوَاهَا فِي الْخِطَابِ وَأَدْمَجَهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ لِتُفَاجِئَ النُّفُوسَ بِقُوَّةِ التَّشْنِيعِ وَالتَّقْبِيحِ، وَتَبْرُزَ لَهَا فِي ثَوْبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَفِي ذَلِكَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ السُّوءَى مِمَّا لَا يَخْفَى خَبَرُهَا، وَلَا تَغِيبُ عَنِ الْإِنْكَارِ صُوَرُهَا، فَلَا يَنْبَغِي الْإِلْمَاعُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي سِيَاقِ تَقْرِيعِ مُجْتَرِحِيهَا، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِكْرُ الْإِنْسَانِ، وَانْظُرْ كَيْفَ أَوْرَدَ خَبَرَ الْقَتْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْفَظِيعَةِ، وَتَمْثِيلِهَا لِلسَّامِعِ حَتَّى يُمَثِّلَهَا فِي الْخَيَالِ، وَإِنْ مَرَّتْ عَلَيْهَا الْقُرُونُ وَالْأَحْوَالُ؛ لِأَنَّهَا أَفَاعِيلٌ لَا تَخْلَقُ جِدَّتُهَا، وَدِمَاءٌ لَا تَطِيرُ رَغْوَتُهَا، وَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ لِيُمَثِّلُ تِلْكَ الصُّورَةَ الْمُشَوَّهَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا قَرَعَتِ الذِّهْنَ بِمَفْهُومِهَا، يَتَنَاوَلُ الْخَيَالُ ذَلِكَ الْمَفْهُومَ وَيُصَوِّرُهُ بِالصُّورَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يُنَاسِبُهُ.
قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَيُرْوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَةً وَخَمْسِينَ نَبِيًّا، فَإِنْ صَحَّ هَذَا، فَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَدَلِيلُهَا مَحْصُورٌ فِي الْإِنْبَاءِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْفَرِيقُ مُنْتَشِرًا فِي أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثِيرًا بِكَثْرَتِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَعْجَبُونَ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَإِجَابَتِهِمْ دَعْوَتَهُ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمُجَاحَدَةَ وَالْمُعَانَدَةَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ شَنْشَنَتِهِمْ، وَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} وَالْغُلْفُ: بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِهِ غِلَافٌ يَمْنَعُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ. وَالْمُرَادُ أَنَّنَا لَا نَعْقِلُ قَوْلَكَ، وَلَا يَنْفُذُ إِلَى قُلُوبِنَا مَفْهُومُ دَعْوَتِكَ؛ فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ} [41: 5].
وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا يُشْعِرُ بِكَذِبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَقَالَ: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ غُلْفًا لَا تَفْهَمُ الْحَقَّ بِطَبْعِهَا، وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَبِالْكِتَابِ الَّذِي تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَحَرَّفُوهُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ قَدْ أَنِسُوا بِالْكُفْرِ وَانْطَبَعُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ قَبُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعَهُ عِلَّتَهُ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِهَذَا، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكُفْرَ، وَالْعِصْيَانِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى التَّمَادِي فِي الْعِصْيَانِ، كَمَا هِيَ السَّنَةُ فِي أَخْلَاقِ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّعْنَ مُعَلَّلًا بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرُسُلِهِ إِلَيْهِمُ اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}، وَإِنَّمَا الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْمَنُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَتَحْكِيمِهِ فِي الْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ.
وَلَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِالشَّرِيعَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَمَا تُعْطِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَلْبِسُوهَا مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا وَلَمْ يَفْقَهُوا حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِإِرَادَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحَرِّكُهَا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَيُصَرِّفُهَا عَامِلُ اللَّذَّةِ، فَالْإِيمَانُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ، وَرَسْمًا يَلُوحُ فِي الْخَيَالِ، تُكَذِّبُهُ الْأَعْمَالُ وَتَطْمِسُهُ السَّجَايَا الرَّاسِخَةُ وَالْخِلَالُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ نَرَى آيَاتِ الْقُرْآنِ تُبْطِلُهُ بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ غَافِلُونَ، فَقَلِيلًا مَا يَعْتَبِرُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا زَائِدَةٌ وَمَا هِيَ بِزَائِدَةٍ وِفَاقًا لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَجَلَّ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَلِمٌ زَائِدٌ، وَإِنَّمَا تَأْتِي مَا هَذِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ تَارَةً وَلِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَيَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمُقَامِ كَمُبْتَدَأِ كَلَامٍ جَدِيدٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِيمَانًا قَلِيلًا ذَلِكَ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَأَمَّا الَّتِي لِتَفْخِيمِ الشَّيْءِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} [3: 159] أَيْ فَبِسَبَبِ رَحْمَةٍ عَظِيمَةِ الشَّأْنِ خَصَّكَ اللهُ بِهَا لِنْتَ لَهُمْ عَلَى مَا لَقِيتَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الرَّحْمَةَ بِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [9: 128] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [21: 107].
هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}، وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمُ الْمُسْتَقِرَّ، وَعِصْيَانَهُمُ الْمُسْتَمِرَّ، كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمْ وَإِبْعَادِهِمْ، كَانَ لِلْوَهْمِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ وَعَمَّهُمْ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْوَهْمَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَأَنَّ تَأْثِيرَ مَا ذُكِرَ فِي مَجْمُوعِ الشَّعْبِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ أَفْرَادَهُ اسْتِغْرَاقًا، وَإِنَّمَا غَمَرَ الْأَكْثَرِينَ، وَيُرْجَى أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ النَّفَرُ الْقَلِيلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ.
أَقُولُ: وَفِيهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الصِّدْقِ وَتَحْدِيدِ الْحَقِّ مَا لَا يُعْهَدُ فِي كَلَامِ النَّاسِ.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ}... إِلَخْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ قَلِيلًا حَالَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا وَكِتَابًا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا أَوْ أَقَلَّ بَعْدَمَا جَاءَ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ ثُمَّ كَفَرُوا؟ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَيَصِحُّ أَيْضًا هَذَا الِاتِّصَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}، وَالْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، نَكَّرَهُ لِلتَّفْخِيمِ، وَقَوْلُهُ: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ، وَالِاسْتِفْتَاحُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} مَعْنَاهُ طَلَبُ الْفَتْحِ وَهُوَ الْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ وَالْحُكْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّصْرِ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَحَارِبِينَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَفْتِحُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالنَّبِيِّ الْمُنْتَظَرِ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَظْهَرُ فَيَنْصُرُ كِتَابُهُ التَّوْحِيدَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَيَخْذُلُ الْوَثَنِيَّةَ الَّتِي تَنْتَحِلُونَهَا وَيُبْطِلُهَا، فَيَكُونُ مُؤَيِّدًا لِدِينِ مُوسَى.
أَقُولُ: رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِيهِمْ وَفِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ، قَالُوا: كُنَّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ قَهْرًا دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ الْآنَ نَتَّبِعُهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادَ وَإِرَمَ. إِلَخْ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ {يَسْتَفْتِحُونَ}: يَسْتَنْصِرُونَ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ. إِلَخْ.
وَتَتِمَّتُهُ فِي تَفْسِيرِ الْعِمَادِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَشَذَّ بَعْضُهُمْ كَالْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ أَوْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ: اللهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي نَجِدُ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكَانُوا يُنْصَرُونَ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمْ يُعَرِّجِ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهَا لِأَنَّهَا عَلَى ضَعْفِ رِوَايَتِهَا وَمُخَالَفَتِهَا لِلرِّوَايَاتِ الْمَعْقُولَةِ شَاذَّةُ الْمَعْنَى- بِجَعْلِ الِاسْتِفْتَاحِ دُعَاءً بِشَخْصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِحَقِّهِ وَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللهِ فَيُدْعَى بِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ، لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ رِوَايَاتِ الدُّعَاءِ بِحَقِّهِ وَالِاسْتِنْصَارِ بِشَخْصِهِ، بَلْ ذَكَرَ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ اللهَ بِأَنْ يَبْعَثَهُ لِيَقْتُلَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي مَجِيءِ الْكِتَابِ لَا فِي مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُ مَجِيئِهِ قَرِيبًا، عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}. أَعَادَ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} وَهِيَ عَيْنُ الْأَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ، وَوَصَلَ بِهِ الْجَوَابَ وَهُوَ {كَفَرُوا بِهِ} ذَلِكَ أَنَّهُ رَاعَهُمْ كَوْنُهُ بُعِثَ فِي الْعَرَبِ فَحَسَدُوهُ، فَحَمَلَهُمُ الْحَسَدُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ جُحُودًا وَبَغْيًا، فَسُجِّلَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ بِكُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكُفْرَ صَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَظْهَرَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ هَذَا الْكُفْرِ وَسَبَبَهُ، وَبَيَّنَ فَسَادَ رَأْيِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}.
أَيْ بِئْسَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ كَمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ. شَرَى الشَّيْءَ وَاشْتَرَاهُ: يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى بَاعَ الشَّيْءَ، وَبِمَعْنَى ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ اشْتَرَوْا هُنَا بِمَعْنَى بَاعُوا؛ أَيْ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَبَاعُوهَا بِمَا حَرَصُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَغْيًا وَحَسَدًا لِلنَّبِيِّ وَحُبًّا فِي الرِّيَاسَةِ وَاعْتِزَازًا بِالْجِنْسِيَّةِ، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَبَادَلَةِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ ثَمَنًا لِأَنْفُسِهِمُ الَّتِي خَسِرُوهَا بِالْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ فَقَدُوهَا كَمَا يَفْقِدُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اشْتَرَوْا هُنَا بِمَعْنَى ابْتَاعُوا، أَيْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ ثَمَنًا لِلْكُفْرِ الَّذِي ذُكِرَتْ عِلَّتُهُ آنِفًا. وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْقَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ قَدْ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَ، وَأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ.
وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، فَهُوَ تَعْلِيلٌ لِكُفْرِهِمْ لَا لِشِرَائِهِمْ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ لِمَحْضِ الْبَغْيِ الَّذِي أَثَارَهُ الْحَسَدُ كَرَاهَةَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ الْوَحْيَ مِنْ فَضْلِهِ بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، وَأَيُّ بَغْيٍ أَقْبَحُ مِنْ بَغْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَيُقَيِّدَ رَحْمَتَهُ، فَلَا يَرْضَى مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَحْيَ فِي آلِ إِسْمَاعِيلَ كَمَا جَعَلَهُ فِي آلِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ؟ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُنْزِلَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْزَالِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْزِيلِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} فَهُوَ الْغَضَبُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ حَدِيثًا بِالْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ ذَلِكَ الْغَضَبِ الَّذِي لَحِقَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِإِعْنَاتِ مُوسَى عليه السلام وَالْكُفْرِ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} [2: 61]، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بَعْدَ الْغَضَبِ الْمُزْدَوِجِ فَقَالَ: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَيْ مَقْرُونٌ بِالْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَبِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَكَأَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدٌ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الذَّنْبِ.
وَقَالَ: {وَلِلْكَافِرِينَ} وَلَمْ يَقُلْ وَلَهُمْ لِمَا فِي الْمَظْهَرِ مِنْ بَيَانِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي سَجَّلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا الْعَذَابُ مُطْلَقٌ، يَشْمَلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ تَتْبَعُهَا عُقُوبَتُهَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا اللهُ كَذَلِكَ لِتَكُونَ عِبْرَةً يَتَأَدَّبُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّ عَذَابَ كُلِّ شَخْصٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِي عَقْلِهِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَسُوءِ الْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهِ.
اعْتَذَرَ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ لَمْ تَفْهَمِ الدَّعْوَةَ وَلَمْ تَعْقِلِ الْخِطَابَ، فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَضَبِ وَالْهَوَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ اعْتِذَارًا آخَرَ لَهُمْ مَقْرُونًا بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} صِيغَةُ الدَّعْوَةِ تُشْعِرُ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ لَا لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ فَلَانٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: آمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا هُمْ مُبَلِّغُونَ، فَتَقْيِيدُ الْخُضُوعِ لِوَحْيِ اللهِ بِكَوْنِهِ لابد أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا عَلَى شَخْصٍ مِنْ شَعْبِ كَذَا بِعَيْنِهِ تَحَكُّمٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَقَضَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ تَكُونَ رَحْمَتُهُ مُقَيَّدَةً بِأَهْوَاءِ فَرِيقٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَإِيرَادُ الدَّعْوَةِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِطْلَاقِ مَعَ إِيرَادِ الْجَوَابِ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يُشْعِرُ بِقُوَّةِ حُجَّةِ الدَّعْوَةِ، وَوَهَنِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ مِنَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدَّعُونَ هَذَا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} مِنْ مَدْلُولٍ وَلَازِمٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَالْبِشَارَةِ بِرَسُولٍ مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ أَيْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَوْنِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ بِمُسَاوَاتِهِ لِمَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ مُوسَى يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ كَمَا اتُّبِعَ مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ يَتْبَعُ دَلِيلَهُ فِي كُلِّ زَمَنٍ وَكُلِّ مَوْضُوعٍ، قَالَ: إِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَ الْمَنَزَّلِ إِلَيْهِمْ {وَهُوَ الْحَقُّ} أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي نَفْسِهِ بِالدَّلِيلِ حَالَ كَوْنِهِ {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}، فَهُوَ مُؤَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ مَا كَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمَا اقْتَرَفُوا مِنْ فُحْشِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَالْفُسُوقِ عَنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُحَكِّمُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ فِيهِ النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِكُمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَوِ الْبَلَاغَةِ:
أَنَّهُ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ فِي بَيَانِ كَوْنِ مَا كَفَرُوا بِهِ هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ ثُبُوتِ مَضْمُونِهَا عَلَى حُدُوثِ مَا جُعِلَتْ قَيْدًا لَهُ، وَمَا كَفَرُوا بِهِ كَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ قَبْلِ كُفْرِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ هُوَ مَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ شَيْخُنَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ قَرَأَ دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ، وَقَوْلُهُ: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} حَالٌ مُفْرَدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُقَارَنَةُ لِمَا هِيَ قَيْدٌ لَهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ كُفْرِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِالتَّبَعِ لِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لَهَا، وَلَوْ فِيمَا صَدَّقَهَا فِيهِ، وَالْكُفْرُ بِبَعْضِهِ كَالْكُفْرِ بِهِ كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَيْضًا: وَضْعُ الْمُضَارِعِ تَقْتُلُونَ مَوْضِعَ الْمَاضِي قَتَلْتُمْ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ مِنْ إِرَادَةِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ هَذَا الْجُرْمِ الْفَظِيعِ مُبَالَغَةً فِي التَّقْرِيعِ، وَإِغْرَاقًا فِي التَّشْنِيعِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحَالِ، فَتُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقْتَرِفُونَ هَذِهِ الْجَرِيمَةَ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنْبِيَاءُ إِلَّا مَنْ يُبَكِّتُهُمْ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ، وَصَلَهَا بِقوله: {مِنْ قَبْلُ} دَفْعًا لِذَلِكَ الْوَهْمِ. وَالْفَاءُ فِي قوله: {فَلِمَ} وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنَّ خِطَابَ الْخَلَفِ بِإِسْنَادِ مَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ إِلَيْهِمْ مَقْصُودٌ لِبَيَانِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا وَكَوْنِهَا فِي الْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مَا تُبْلَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ إِنَّمَا هُوَ أَثَرُ الْأَخْلَاقِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهَا، وَالْأَعْمَالُ الْفَاشِيَةُ فِيهَا مُنْبَعِثَةٌ عَنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ، فَمَا جَرَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَذَفَاتِ الْمُصَادَفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ أَخْلَاقٍ رَاسِخَةٍ فِي الشَّعْبِ تَبِعَ الْآخِرُونَ فِيهَا الْأَوَّلِينَ، إِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالْإِقْرَارِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَجْمُوعُ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمَا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَلَمَا تَمَادَى وَاسْتَمَرَّ.
فَالْحُجَّةُ تَقُومُ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ الْغَابِرِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَأَقَرَّهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الدِّينِ وَلَا رَفْضًا لِلشَّرِيعَةِ، وَتَبِعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَفَاعِلُ الْكُفْرِ وَمُجِيزُهُ وَاحِدٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ. اهـ.