فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء، وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها، وقيل: المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة: المستقدمون من خلق، والمستأخرون من لم يخلق بعد، والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى. ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال: {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء.
الدليل الثامن: الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لابد من انتهاء الناس إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها، وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه السلام، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وكيف كان فلابد من إنسان هو أول الناس، والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإٍ مسنون ثم من صلصال كالفخار، وقد كان قادرًا على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان، بل كان قادرًا على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة. أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن، أو لغير ذلك من المصالح، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار، وقيل: هو تضعيف صل إذا أنتن، والحمأ الأسود المتغير من الطين، وكذلك الحمأة بالتسكين. المسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه، وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة، وقال ابن السكيت: سمعت أبا عمرو يقول: معنا متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتنًا. قال في الكشاف: قوله: {من حمإٍ} صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ. قلت: ولا يبعد أن يكون بدلًا أي خلقه من حم. قال: وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر. قوله: {والجانّ} قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس- وعن ابن عباس- في رواية أخرى: هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول الأكثرين.
والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وق مر فيما سلف ولاسيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب {خلقناه من قبل} قال ابن عباس: أي من قبل خلق آدم و{السموم} الريح الحارة النافذة في السمام تكون في النهار وقد تكون بالليل، ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم. قال ابن مسعود: هذه السموم جزءًا من سبعين جزءًا من سموم النار التي خلق. الله منها الجان، ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها. على قاعدة الحكيم: كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها، وحينئذٍ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها. ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادرًا مختارًا ذكر بعده واقعته، والمراد بكونه بشرًا أنه يكون جسمًا كثيفًا يباشر ويلاقي، والملائكة والجن لا يباشرون للطاقة أجسامهم.
والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان. {فإذا سوّيته} عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالًا نوعيًا أو شخصيًا. {ونفخت فيه من روحي} النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر. فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به. قال جار الله: ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه، وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله: {يسألونك عن الروح} [الإسراء: 85]، ولا خلاف في أن الإضافة في قوله: {روحي} للتشريف والتكريم مثل {ناقة الله} و{بيت الله} والفاء في قوله: {فقعوا} تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجبًا عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ. قال المبرد: قوله: {كلهم} أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا، وقوله: {أجمعون} أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين، وقال سيبويه والخليل {أجمعون} توكيد بعد توكيد، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالًا، ولو صح أن يكون حالًا وكا منتصبًا لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد، ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول البقرة. ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال: {أبى أن يكون مع الساجدين} يعني إباء استكبار.
ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف {يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين} وقال بعض المتكلمين: خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله: حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود {قال لم أكن لأسجد} اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد {لبشر} وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله: {فاخرج منها} أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة.
وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حدًا للعنة جريًا على عادة العرب في التأبيد كما في قوله: {ما دامت السموات والأرض} [هود: 107]. أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه. قال صاحب الكشاف: وأقول: هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة. أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو، وإنما ذكر اللعنة هاهنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال: {إني خالق بشرًا} ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في سورة ص حيث قال: {لما خلقت بيدي} [الآية: 75]. خصص اللعنة أيضًا بالإضافة فقال: {وإن عليك اللعنة} فافهم. {قال رب فأنظرني} قد مر مثله في أول الأعراف، ومعنى {الوقت المعلوم} أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضًا، وقيل: لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله {قال رب بما أغويتني} قد مر مباحثه في الأعراف، ومفعول {لأزينن} محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله:
وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها ** من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم. قال بعض الحذاق: احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصًا لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحًا أو مساويًا، ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر {قال} الله سبحانه {هذا} يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ ان أراعيه أو عليّ مروره أي على رضواني وكرامتي.
وقيل: لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم لا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول: {هذا} أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي. {صراط عليّ} تقريره وتأكيده، ومن قرأ {عليّ} بالتوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع. {مستقيم} لا عوج له، وقال جار الله: هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} قال الكلبي: المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر {إلا عبادك} بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلًا {إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك} أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة، وقال آخرون: هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطانًا على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلًا إلا الغواة، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم} [إبراهيم: 22]، وهذا يناسب أصول الاعتزال {وإن جهنم لموعدهم أجميعن} قال ابن عباس: يريد إبليس ومن تبعه من الغاوين. {لها سبعة أبواب} أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين، وعن ابن عباس في رواية ابن جريج: إن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين، وقيل: إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه، والسبب في أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة. فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضًا متفاوته بحسبها.
ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: {إن المتقين في جنات وعيون} فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح، وقال جمهور: الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتيًا بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم، والآية أيضًا وردت عقيب قوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم، والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله قولًا واعتقادًا سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية.
ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. ثم قال: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62]، وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله: {فيها أنهار من ماء غير آسن} [محمد: 15]. الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك. ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم، ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد. فإن قيل: إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة {ادخلوها} فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك، ومعنى {بسلام} أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع. قوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} قد مر تفسيره في الأعراف {إخوانًا} نصب على الحال، وكذلك {على سرر متقابلين} والمراد بالإخوة. إخوة الدين والتعاطف، والسرر جمع سرير. قيل: هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور، وقال الليث: سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه، والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قوله: سر الوادي لأفضل موضع منه ومنه السر الذي يكتم. عن ابن عباس: يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، وعن مجاهد: تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين، والتقابل التواجه نقيض التدابر، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلًا على الآخر بالكلية، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد التمانع فيكون موجبًا للتباغض والتخالف، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله: {إن المتقين} إشارة إلى المنفعة وقوله: {ادخلوها} رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم، وقوله: {ونزعنا} إلى قوله: {لا يمسهم فيها نصب} أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خاصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله: {إن للمتقين} إشارة إلى المنفعة وقوله: {ادخلوها} رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم، وقوله: {ونزعنا} إلى قوله: {لا يمسهم فيها نصب} أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله: {ونزعنا ما في صدورهم} إشارة إلى نفي المضار الروحانية، وقوله: {لا يمسهم} إشارة إلى نفي المضار الجسدانية، وقوله: {وما هم بمخرجين} مفيد لمعنى الخلود. ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريرًا وتمكينًا في النفوس فقال: {نبىء عبادي} وفيه من التوكيدات ما لا يخفى: منها إشهاد رسوله وإعلامه، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه، ومنها التوكيد بـ: أن وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر كل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال: «سبقت رحمتي غضبي». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وكذا في سورة الذاريات: {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وورد في سورة الصافات: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] خلاف الوصف بالعلم في السورتين.
ووجه ذلك، والله أعلم: أن آية والصافات لما وردت كالتمهيد لما تلاها متصلًا بها من قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فتلقى الذبيح، وعليه السلام، ما أخبره به، أبوه-لعلمه أنه من أمر الله-بالرضى والصبر. قال ابن عطية في تفسير حليم: صابر محتمل عظيم العقل، قال: والحلم العقل، فأحسن، عليه السلام، جوب أبيه معزيًا له محتسبًا بنفسه، فناسب هذا الموضع وورد وصف الذبيح بالحلم، ولما لم يرد في الآيتين الأخريين ذكر الأمر بالذبح ناسبها الوصف بالعلم، وهو صفة الأنبياء، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}
لمَّا ذَكَرَ حديثَ المتقين وما لهم من علوِّ المنزلة انكسرت قلوب العاصين، فَتَدارَك اللَّهُ قلوبهم، وقال لنبيِّه- صلى الله عليه وسلم- أخبر عبادي العاصين أني غفور رحيم، وأني إنْ كنتُ الشكورَ الكريمَ بالمطيعين فأنا الغفورُ الرحيمُ بالعاصين.
ويقال مَنْ سَمِعَ قوله: {أَنِّى أَنَا} بسمع التحقيق لا يبقى فيه مساغٌ لسماع المغفرة والرحمة؛ لأنه يكون عندئذ مُخْتَطَفًا عن شاهده، مُسْتَهَلكًا في أنيته.
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
العذابُ الأليم هنا هو الفراق، ولا عذابَ فوق في الصعوبة والألم.
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}
أَلا عرَّفهم كيف كانت فتوة الخليل في الضيافة، وقيامه بحقِّ الضيفان، وكان الخليلُ عليه السلام يقوم بنفسه بخدمة الضيفان، فلمَّا سلموا من جانبهم وردَّ عليهم وانْفَضُّوا عن تناولِ طعامِه:
قوله جلّ ذكره: {قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ}.
وَجلون أي خائفون، فإنَّ الإمساكَ عن تناول طعام الكرام موضعٌ للريبة، ولمَّا عَلِمَ أنهم ملائكة خاف أن يكونوا نزلوا لتعذيب قومه إذ كانوا مجرمين، ولكن سكن رَوْعُه.
{قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}
فليس لك موضِعٌ للوَجَلِ لكن موضِعٌ لفَرَجِ؛ فإنا جئناك مُبَشِّرين، وإن كُنَّا لغيرِكَ مُعَذِّبين.
نحن {نبشرك بغلام عليم}: أي يعيش حتى يعلم، لأن الطفل ليس من أهل العلم، وكانت بشارتُهم بالوَلَدِ وببقاءِ الولد هي العجب.
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}
قال أبشرتموني وقد مسَّني الكِبَرُ؟ وإنَّ الكبير قد فاته الوقت الذي يفرح فيه من الدنيا بشيء. بماذا تبشروني وقد طَعَنْتُ في السنِّ، وعن قريب أرتحل إلى الآخرة؟ قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من جملة من يقنط من رحمة الله، ولا يقنط من رحمة ربه إلا من كان ضالًا.
قال: كيف أخطأ ظنكم فيّ فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي؟
فلما فرغ قلبه من هذا الحديث، وعرف أنه لن يُصيبَه ضررٌ منهم سألهم عن حالهم. اهـ.