فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}
عطف جزء من قصة قوم لوط وهو الجزء الأهم فيها.
ومجيء أهل المدينة إليه ومحاورته معهم كان قبل أن يعلم أنهم ملائكة ولو علم ذلك لما أشفق مما عزم عليه أهل المدينة لمّا علم بما عزموا عليه بعد مجادلتهم معه، كما جاء في قوله تعالى: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} في [سورة هود: 81].
والواو لا تفيد ترتيب معطوفها.
ويجوز جعل الجملة في موضع الحال من ضمير لوط المستتر في فعل {قال إنكم قوم منكرون} [سورة الحجر: 62]، أو من الهاء في {إليه}، ولا إشكال حينئذٍ.
والمدينة هي سدوم.
و{يستبشرون} يفرحون ويسرون.
وهو مطاوع بشره فاستبشر، قال تعالى: {فاستبشروا ببيعكم} في [سورة براءة:111].
وصيغ بصيغة المضارع لإفادة التجدد مبالغة في الفرح.
ذلك أنهم علموا أن رجالًا غرباء حلوا ببيت لوط عليه السلام ففرحوا بذلك ليغتصبوهم كعادتهم السيئة.
وقد تقدمت القصة في سورة هود.
والفضح والفضيحة: شهرة حال شنيعة.
وكانوا يتعيرون بإهانة الضيّف ويعد ذلك مذلة لمُضيفه.
وقد ذكرهم بالوازع الديني وإن كانوا كفارًا استقصاء للدعوة التي جاء بها، وبالوازع العرفي فقال: {واتقوا الله ولا تخزون} كما في قول عبد بني الحسحاس:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

والخزي: الذلّ والإهانة.
وتقدم في قوله تعالى: {إلا خزي في الحياة الدنيا} في أوائل [سورة البقرة: 85].
وتقدم في مثل هذه القصة في سورة هود.
{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)}
الواو في {أولم ننهك} عطف على كلام لوط عليه السلام جار على طريقة العطف على كلام الغير كقوله تعالى: {قال ومن ذريتي} بعد قوله تعالى: {قال إني جاعلك للناس إمامًا} في [سورة البقرة:124].
والاستفهام إنكاري، والمعطوف هو الإنكار.
و{العالمين} الناس.
وتعدية النّهي إلى ذات العالمين على تقدير مضاف دلّ عليه المقام، أي ألم ننهك عن حماية الناس أو عن إجارتهم، أي أن عليك أن تخلي بيننا وبين عادتنا حتى لا يطمع المارون في حمايتك، وقد كانوا يقطعون السبيل يتعرضون للمارين على قُراهم.
و{العالمين} تقدم في الفاتحة.
وأرادوا به هنا أصناف القبائل لقصد التعميم.
وعرض عليهم بناته ظنًا أن ذلك يردعهم ويطفىء شبقهم.
ولذلك قال: {إن كنتم فاعلين}.
وقد تقدم في سورة هود معنى عرضه بناته، وأن قوله: {بناتي} يجوز أن يراد به بنات صلبه وكنّ اثنتين أو ثلاثًا، ويجوز أن يراد به بنات القوم كلهم تنزيلًا لهم منزلة بناته لأن النبي كأب لأمّته.
وجملة {لعمرك إنهم لفي سكراتهم يعمهون} معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواهـ.
والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى.
وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول.
وكلمة {لعمرك} صيغة قسم.
واللام الداخلة على لفظ {عمر} لام القسم.
والعَمْر بفتح العين وسكون اللام أصله لغة في العُمر بضم العين، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفّته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام.
فهو قسم بحياة المخاطب به.
وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوبًا.
والتقدير: لعمرك قَسمي.
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفًا لازمًا في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللّام على معنى القسم.
وقد يستعملونه بغير اللّام فحينئذٍ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما، كقول عُمر بن أبي ربيعة:
عَمرَك اللّهَ كيفَ يلتقيان

فنصَب عمرَ بنزع الخافض وهو ياء القسم ونَصب اسم الجلالة على أنه مفعولُ المصدر، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله، أي قولك للّهِ لعمرك تعظيمًا لله لأن القسم باسم أحد تعظيم له، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد «التّحِيّات لله» أي أقسم عليك بتعظيمك ربّك.
هذا ما يظهر لي في توجيه النصب، وقد خالفت فيه أقوالَ أهل اللّغة بعضَ مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال.
والسكرة: ذهاب العقل.
مشتقّة من السَكْر بفتح السين وهو السدّ والغلق.
وأطلقت هنا على الضلال تشبيهًا لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته.
و{يعمهون} يتحيّرون ولا يهتدون.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} في [سورة البقرة: 15]
وجملة {فأخذتهم الصيحة مشرقين} تفريع على جملة {وقضينا إليه ذلك الأمر} [سورة الحجر: 66].
{والصيحة}: صعْقة في الهواء، وهي صواعق وزلازل وفيها حجارة من سجّيل.
وقد مضى بيانها في سورة هود.
وانتصب {مشرقين} على الحال من ضمير الغيبة.
وهو اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا في وقت شروق الشمس.
وضميرَا {عاليَها سافلها} للمدينة.
وضمير {عليهم} عائد إلى ما عادت عليه ضمائر الجمع قبله.
وجملة {إن في ذلك لأيات للمتوسمين}: تذييل.
والآيات: الأدلّة، أي دلائل على حقائق من الهداية وضدّها، وعلى تعرُّض المكذبين رُسلهم لعقاب شديد.
والإشارة {في ذلك} إلى جميع ما تضمّنته القصة المبدوءة بقوله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} [سورة الحجر: 51].
ففيها من الآيات آية نزول الملائكة في بيت إبراهيم عليه السلام كرامة له، وبشارته بغلام عليم، وإعلام الله إيّاه بما سيحلّ بقوم لوط كرامة لإبراهيم عليهما السلام، ونصر الله لوطًا بالملائكة، وإنجاء لوط عليه السلام وآله، وإهلاك قومه وامرأته لمناصرتها إيّاهم، وآية عماية أهل الضلالة عن دلائل الإنابة، وآية غضب الله على المسترسلين في عصيان الرّسل.
وتقدم الكلام على لفظ آية عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} في [سورة البقرة: 39].
وقوله: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} في [سورة الأنعام: 37].
والمتوسّمون أصحاب التوسم وهو التأمّل في السّمة، أي العلامة الدّالة على المعلّم، والمراد للمتأملين في الأسباب وعواقبها وأولئك هم المؤمنون.
وهو تعريض بالّذين لم تردَعْهم العبر بأنهم دون مرتبة النظر تعريضًا بالمشركين الذين لم يتّعظوا؛ بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها.
ولذلك أعقب الجملة بجملة {وإنها لبسبيل مقيم}، أي المدينة المذكورة آنفًا هي بطريق باقٍ يشاهِد كثير منكم آثارها في بلاد فلسطين في طريق تجارتكم إلى الشّام وما حولها، وهذا كقوله: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [سورة الصافات: 137 138].
والمقيم: أصله الشخص المستقرّ في مكانه غير مرتحل.
وهو هنا مستعار لآثار المدينة الباقية في المكان بتشبيهه بالشخص المقيم.
وجملة {إن في ذلك لآية للمؤمنين} تذييل.
والإشارة إلى ما تقدم من قوله من القصّة مع ما انضمّ إليها من التذكير بأن قراهم واضحة فيها آثار الخسف والأمطار بالحجارة المُحماة.
وعبّر في التذييل بالمؤمنين للتنبيه على أن المتوسّمين هم المؤمنون.
وجعل ذلك {آية} بالإفراد تفنّنًا لأن {آية} اسم جنس يصدق بالمتعدّد، على أن مجموع ما حصل لهم آية على المقصود من القصة وهو عاقبة المكذبين.
وفي مطاوي تلك الآيات آيات.
والذي في درة التنزيل، أي الفرق بين جمع الآيات في الأول، وإفراده ثانيًا في هذه الآية بأن ما قصّ من حديث لوط وضيف إبراهيم وما كان من عاقبة أمرهم كل جزء من ذلك في نفسه آية.
فالمشار إليه بذلك هو عدة آيات، وأمّا كون قرية لوط بسبيل مقيم فهو في جملته آية واحدة.
فتأمّل.
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)}
{وَإِن كَانَ أصحاب الْأَيْكَةِ لظالمين فانتقمنا مِنْهُمْ}.
عطف قصة على قصة لما في كلتيهما من الموعظة.
وذكر هاتين القصّتين المعطوفتين تكميل وإدماج، إذ لا علاقة بينهما وبين ما قبلهما من قصة إبراهيم والملائكة.
وخصّ بالذكر أصحاب الأيكة وأصحاب الحِجر لأنهم مثل قوم لوط في موعظة المشركين من الملائكة لأن أهل مكة يشاهدون ديار هذه الأمم الثّلاث.
و{إنْ} مخفّفة {إنّ} وقد أهمل عملها بالتخفيف فدخلت على جملة فعلية.
واللام الداخلة على {الظالمين} اللام الفارقة بين {إن} التي أصلها مشددة وبين {إن} النافية.
و{الأيكة}: الغيضة من الأشجار الملتفّ بعضها ببعض.
واسم الجمع {أيك}، وأطلقت هنا مرادًا بها الجنس إذ قد كانت منازلهم في غيضة من الأشجار الكثيرة الورق.
وقد تخفّف الأيكة فيقال: ليكة.
و{أصحاب الأيكة}: هم قوم شعيب عليه السلام وهم مَدْيَن.
وقيل أصحاب الأيكة فريق من قوم شُعيب غير أهل مدين.
فأهل مدين هم سكان الحاضرة وأصحاب الأيكة هم باديتهم، وكان شُعيب رسولًا إليهم جميعًا.
قال تعالى: {كذب أصحاب ليكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} [سورة الشعراء: 176 177].
وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى في سورة الشّعراء.
والظالمون: المشركون.
والانتقام: العقوبة لأجل ذنب، مشتّقة من النّقم، وهو الإنكار على الفعل.
يقال: نقم عليه كما في هذه الآية، ونقم منه أيضًا.
وتقدم في قوله: {وما تنقم منا} في [سورة الأعراف:126].
وأجمل الانتقام في هذه الآية وبيّن في آيات أخرى مثل آية هود.
{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}
ضمير {إنهما} لقرية قوم لوط وأيكة قوم شعيب عليهما السلام.
والإمام: الطريق الواضح لأنه يأتمّ به السائر، أي يعرف أنه يوصل إذ لا يخفى عنه شيء منه.
والمبين: البيّن، أي أن كلتا القريتين بطريق القوافل بأهل مكّة.
وقد تقدم آنفًا قوله: {وإنها لبسبيل مقيم} [سورة الحجر: 76]. فإدخال مدينة لوط عليه السلام في الضمير هنا تأكيد للأول.
ويظهر أن ضمير التثنية عائد على أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان، وهما مدين وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم، فإن إبراهيم عليه السلام أسكن ابنه مَدين في شرق بلاد الخليل، ولا يكون إلا في أرض مأهولة.
وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيْب عليه السلام باسم مَدين مرّات وباسم أصحاب الأيكة مرّات.
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في سورة الشّعراء. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}
وعندما عَلِم أهل المدينة من قوم لُوطٍ بوصول وَفْد من الشبان الحِسَان المُرْد عند لوط جاءوا مُستبشرين فَرِحين، وكان حُسْنهم مضربَ الأمثال؛ وكأن كُلًا منهم ينطبق عليه قَوْله الحق عن يوسف عليه السلام: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
وقوله سبحانه: {وَجَاءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ} [الحجر: 67].
يجمع لقطات مُركّبة عن الأمر الفاحش الشائع فيما بينهم، وكانوا يستبشرون بفعله ويَفْرحون به؛ فهم مَنْ ينطبق عليهم قوله الحق: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].
وكان لوط يعلم هذا الأمر فيهم، ويعلم ما سوف يَحيق بهم؛ وأراد أنْ يجعل بينهم وبين فِعْل الفاحشة مع الملائكة سَدًّا؛ فهم في ضيافته وفي جواره، والتقاليد تقتضي أنْ يأخذَ الضيف كرامة المُضيف، وأيّ إهانة تلحق بالضيف هي إهانة للمُضيف، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)}
والفضيحة هي هَتْك المساتير التي يستحيي منها الإنسان، فالإنسان قد يفعل أشياءَ يستحي أنْ يعملها عنه غيره، والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا أن نتخلَّق بخُلُقه؛ جعل من كُلِّ صفات الجمال والجلال نصيبًا يعطيه لخَلْقه.
ولكن هناك بعضًا من صفاته يذكرها ولا يأتي بمقابل لها؛ فهو قد قال مثلًا الضَّارّ ومقابلها النافع وقال الباسط ومقابلها القابض وقال المُعِزّ ومقابلها المُذِلّ، ومن أسمائه الستار ولم يَأْتِ بالمقابل وهو الفاضح؛ لماذا لم يَأْتِ بهذا المقابل؟