فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} [هود: 7 8] والمخصوص بالذم محذوف أي قتل الأنبياء وكذا وكذا، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصًا بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيدًا. اهـ.

.قال الفخر:

الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. اهـ.
قال الفخر:
المراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} [البقرة: 91] إلى آخر الآيات المذكورة في ردّ دعواهم الإيمان، أو الجملة الإنشائية السابقة إما بتأويل أو بلا تأويل وتقرير ذلك: إن كنتم مؤمنين ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلًا، أو: إن كنتم مؤمنين بها فبئسما أمركم به إيمانكم بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء على الأول: بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض وعلى الثاني: تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر، واستظهر بعضهم في هذا ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي: إن كنتم مؤمنين تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: {إن} نافية، وقيل: للتشكيك وإليه يشير كلام (الكشاف) وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام لا للتشكيك على أنه لم يعهد استعمال إن لتشكيك السامع كما نص عليه بعض المحققين وقرأ الحسن ومسلم بن جندب بهو إيمانكم بضم الهاء ووصلها بواو. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم: {سمعنا وعَصَيْنا} هو خلاصة لإبطال قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله: {قل فلم تقتلون أنبئاء الله} [البقرة: 91] وقوله: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} وقوله: {قالوا سمعنا وعصينا} ولذلك فَصَله عن قوله: {قل فلم تقتلون أنبئاء الله} لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلًا، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول: {قل} والأمر هنا مستعمل مجازًا في التسبب.
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلًا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو: {قل إن كان للرحمن من ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم {مؤمنين} وهو المقصود فقوله: {بئسما يأمركم} جواب الشرط مقدم عليه أو {قل} دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضًا كما يفرض المحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم {مؤمنين} إلا منفيًا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالًا لطائرهم.
وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو {بئسما يأمركم} وإلى هذا أشار صاحب (الكشاف) كما قاله التفتازاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.
ولا معنى لجعل {إن كنتم مؤمنين} ابتداء كلام وجوابه محذوفًا تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة.
على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمَرهم بهذا المذام فكيف ينفي بَعْد ذلك أن يكون إميانهم يأمرهم؟
و{بئسما} هنا نظير بئسما المتقدم في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} [البقرة: 90] سوى أن هذا لم يؤت له باسممٍ مخصوص بالذم لدلالة قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}.
كرَّرَ الإخبار عن غُلُوِّهم في حُبِّ العجل، ونُبُوِّهم عن قبول الحق، و.... وتعريفهم معاجلتهم بالعقوبة على ما يسيئون من العمل، فلا النصحُ نَجَعَ فيهم، ولا العقوبةُ أوجبت إقلاعهم عن معاصيهم، ولا بالذم فيهم احتفلوا، ولا بموجب الأمر عملوا. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}.
على حذف القول أي القائلين: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}.
قيل لابن عرفة: هل فيه دليل على أن الأشياء كلها محض تفضل من الله تعالى وليست باستحقاق لأن هؤلاء يستحقون ذلك؟
فقال: نعم.
قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}.
قال الطيبي: هذا من القول بالموجب، ومنه قول الله تعالى: {يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} قال ابن عرفة: لا بل هو مغالطة منهم لأن السماع في قوله: {واسمعوا} ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا بالطاعة فغالطوا في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}.
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ}.
الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر.
قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل ذلك كفر بوجه؟
فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل بالفعل.
قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ}.
عبر بالفعل المضارع، وقال بعده {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} فعبر بالماضي فما السر في ذلك؟
أجاب ابن عرفة: بأن الشراء لا يتكرر لأنه إذا دفع للبائع الثمن لم يعد إليه بوجه، فلا يقال: إنه يبيع سلعته مرة أخرى أو يشتري العوض مرة أخرى.
فإلإيمان الذي باعوه لا يرجع إليهم بوجه بخلاف أمر الإيمان لهم فإنه يتجدد بحسب متعلقه شيئا فشيئا.
قال ابن عرفة: وقبح فعلهم إما من جهة كذبهم في مقالتهم إذ {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وليسوا بمؤمنين، وإما من جهة إيمانهم مع اتصافهم بالقبيح.
والإيمان لا ينشأ عنه إلا الحسن.
قيل لابن عرفة: المراد بقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} الإيمان الحقيقي الشرعي، والإيمان الحقيقي لا يأمر إلا بالخير فكيف قال لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ}؟
فقال: المراد إن كنتم تدّعون الإيمان حاصلا لكم، فبئس ما يأتيكم به إيمانكم المدّعى.
قيل له: لما يأمرهم الإيمان بذلك، وإنما هو إيمان ناقص زاحمه غيره من وساوس النفس، فالمزاحم هو الأمر لا الإيمان؟
فقال: بل الأمر الإيمان المدعى أنه إيمان. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوّة}: تقدم تفسير هذه الجمل، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، وهم كاذبون في ذلك.
ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرر عبادة العجل تنبيهًا على عظيم جرمهم.
ولأن ذكر ذلك قبل، أعقبه تعداد النعم بقوله: {ثم عفونا عنكم} و{فلولا فضل الله عليكم ورحمته} وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ.
ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختيارًا، حتى ألجئوا إلى القبول اضطرارًا، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة.
ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره.
والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه، كررته.
وفي هذا التكرار أيضًا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
{واسمعوا} أي: اقبلوا ما سمعتم، كقوله: {سمع الله لمن حمده}، أو {اسمعوا متدبرين لما سمعتم}، أو {اسمعوا وأطيعوا} لأن فائدة السماع الطاعة، قاله المفضل.
والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب.
قال الماتريدي: معنى اسمعوا: افهموا.
وقيل: اعملوا، ووجهه أن السمع يسمع به، ثم يتخيل، ثم يعقل، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملًا.
ولما كان السماع مبتدأ، والعمل غاية، وما بينهما وسائط، صح أن يراد بعض الوسائط، وصح أن يراد به الغاية.
{قالوا}: هذا من الالتفات، إذ لو جاء على الخطاب لقال: قلتم {سمعنا وعصينا}: ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان.
ويؤيده قول ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا: {سمعنا وأطعنا}، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: {سمعنا وعصينا}.
وقيل: القول هنا مجاز، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين، ولكن لما لم يقبلوا شيئًا مما أمروا به، جعلوا كالناطقين بذلك.
وقيل: يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله، وإن لم يكن نطق.
وقيل: المعنى سمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا، وهذا راجع لما قاله الزمخشري، قال: قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك.
فإن قلت: فكيف طابق قوله جوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة، انتهى كلامه.
والقول الأوّل أحسن، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره، لاسيما إذا لم يقم دليل على خلافه.
{وأشربوا}: عطف على قالوا سمعنا وعصينا.
فيكون معطوفًا على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة، قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالًا، والقول الأول هو الظاهر.
{في قلوبهم}: ذكر مكان الإشراب، كقوله: {إنما يأكلون في بطونهم} {العجل}: هو على حذف مضافين، أي حب عبادة العجل من قولك: أشربت زيدًا ماء، والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، قالوا: وأشربت البياض حمرة، أي خلطتها بالحمرة، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته، كما داخل الصبغ الثوب، وأنشدوا:
إذا ما القلب أشرب حب شيء ** فلا تأمل له عند انصرافًا

وقال ابن عرفة: يقال أشرب قلبه حب كذا، أي حل محل الشراب ومازجه. انتهى كلامه.
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولهذا قال بعضهم:
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ** فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

وأما الطعام فقالوا: وهو مجاور لها، غير متغلغل فيها، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير، وقال:
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي ** فباديه مع الخافي يسير

وحسن حذف ذينك المضافين، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف.
وقيل: معنى اشربوا: أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به، من أشربت البعير: إذا شددت حبلًا في عنقه.
وقيل: هو من الشرب حقيقة، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا، فشرب جميعهم.
فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، وهذا قول يردّه في قوله: {في قلوبهم}.
وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن.
وبناؤه للمفعول في قوله: وأشربوا، دليل على أن ذلك فعل بهم، ولا يفعله إلا الله تعالى.
وقالت المعتزلة: جاء مبنيًا للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته، كما يقال: معجب برأيه، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجنّ دعوهم إليه، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض، نسب ذلك إلى المحبة، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
{بكفرهم}: الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوبًا بكفرهم، فيكون ذلك كفرًا على كفر.
{قل} يا محمد، أو قل يا من يجالهم.
{بئسما ما يأمركم به إيمانكم}: تقدم الكلام في بئس، وفي المذاهب في ما، فأغنى عن إعادته.
وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: بهو إيمانكم، بضم الهاء ووصلها بواو، وهي لغة، والضم في الأصل، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا}، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم، كما قال أصحاب شعيب: أصلواتك تأمرك أن نترك؟ وقيل: ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم، وهو إبليس.
وقيل: ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل، وأضاف: الإيمان إليهم لكونه إيمانًا غير صحيح، ولذلك لم يقل الإيمان، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله.
والمخصوص بالذمّ محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئًا يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئًا شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئًا ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم.
والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا.
فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامّة.
وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعًا من الإعراب.
{إن كنتم مؤمنين}، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية.
قال الزمخشري: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم. انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: وقد يأتي الشرط، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله عن عيسى عليه السلام: {إن كنت قلته فقد علمته}، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك {إن كنتم مؤمنين}، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه أقام حجة لقياس بين.
انتهى كلامه، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم.
وقيل تقديره: إن كنتم مؤمنين فلا تقتلوا الأنبياء، ولا تكذبوا الرسل، ولا تكتموا الحق.
وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى. اهـ.