فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين: إما التزام إضمار أو التزام حذف، أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذابًا كما أنزلناه على المقتسمين، وعلى هذا الوجه، المفعول محذوف وهو المشبه، ودل عليه المشبه به، وهذا كما تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي رأيت إنسانًا كالقمر في الحسن، وأما الحذف فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} [الشورى: 11]، والتقدير: ليس مثله شيء، وقال بعضهم: لا حاجة إلى الإضمار والحذف، والتقدير: إني أنا النذير أي أنذر قريشًا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله: {الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} فيه بحثان:
البحث الأول: في هذا اللفظ قولان: الأول: أنه صفة للمقتسمين.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره هو قوله: {لَنَسْئَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92]، وهو قول ابن زيد.
البحث الثاني: ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين:
القول الأول: أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة، وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته، وكل قطعة عضة، وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل، والتعضية التجزئة والتفريق، يقال: عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها، وفي الحديث: «لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة» أي لا تجزئه فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف.
فقوله: {جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} يريد جزؤه أجزاء، فقالوا: سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى.
والقول الثاني؛ أن واحدها عضة وأصلها عضهة، فاستثقلوا الجمع بين هاءين، فقالوا: عضة كما قالوا شفة، والأصل شفهة بدليل قولهم: شافهت مشافهة، وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال، وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب، ومنه الحديث: «إياكم والعضة» وقال ابن السكيت: العضة بأن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه.
وهذا قول الخليل فيما روى الليث عنه، فعلى هذا القول معنى قوله تعالى: {جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} أي جعلوه مفترى.
وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف، فجعل الجمع بالواو والنون عوضًا مما لحقها من الحذف.
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن يكون راجعًا إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى، ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى جميع المكلفين لأن ذكرهم قد تقدم في قوله: {وَقُلْ إِنِّى أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89]. أي لجميع الخلق وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين، فيعود قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} على الكل، ولا معنى لقول من يقول إن السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال، لأن اللفظ عام فيتناول الكل.
فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وبين قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39]. أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسئلون سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم، وإنما يسئلون سؤال التقريع يقال لهم لم فعلتم كذا؟
ولقائل أن يقول: هذا الجواب ضعيف، لأنه لو كان المراد من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات.
والوجه الثاني: في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر، لأن يوم القيامة يوم طويل.
ولقائل أن يقول: قوله؛ {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 39]. هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض.
والوجه الثالث: أن نقول: قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} يفيد عموم النفي وقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
أما قوله فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل وأنشد ابن السكيت لجرير:
هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم ** بالحق يصدع ما في قوله حيف

فقال يصدع يفصل وتصدع القوم إذا تفرقوا ومنه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] قال الفراء يتفرقون والصدع في الزجاجة الإبانة أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعًا لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق قال الأزهري وسمي الصبح صديعًا كما يسمى فلقًا وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح إذا عرفت هذا فقول فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي فرق بين الحق والباطل وقال الزجاج فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا كقولك صرح بها وهذا في الحقيقة يرجع أيضًا إلى الشق والتفريق أما قوله بِمَا تُؤْمَرُ ففيه قولان الأول أن يكون ما بمعنى الذي أي بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

الثاني أن تكون ما مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك قالوا وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت هذه الآية.
ثم قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة قال بعضهم هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {لا تمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجًا منهم} يعني ما متعناهم به من الأموال.
وفي قوله: {أزواجًا منهم} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم الأشباه، قاله مجاهد.
الثاني: أنهم الأصناف قاله أبو بكر بن زياد.
الثالث: أنهم الأغنياء، قاله ابن أبي نجيح.
{ولا تحزن عليهم} فيه وجهان:
أحدهما: لا تحزن عليهم بما أنعمت عليهم في دنياهم.
الثاني: لا تحزن بما يصيرون إليه من كفرهم.
{واخفض جناحك للمؤمنين} فيه وجهان:
أحدهما: اخضع لهم، قاله سعيد بن جبير.
الثاني: معناه أَلِنْ جانبك لهم، قال الشاعر:
وحسبك فتيةٌ لزعيم قومٍ ** يمدّ على أخي سُقْم جَناحا

وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به ضيف فلم يلق عنده أمرًا يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود يستسلف منه دقيقًا إلى هلال رجب، فقال: لا إلاّ برهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأدّيتُ إليه» فنزلت عليه {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} قوله عز وجل: {كما أنزلنا على المقتسمين}
فيهم سبعة أقاويل:
أحدها: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى اقتسموا القرآن فجعلوه أعضاءً أي أجزاءً فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، قاله ابن عباس.
الثاني: أنهم أهل الكتاب اقتسموا القرآن استهزاءً به، فقال بعضهم: هذه السورة لي، وهذه السورة لك، فسموا مقتسمين، قاله عكرمة.
الثالث: أنهم أهل الكتاب اقتسموا كتبهم، فآمن بعضهم ببعضها، وآمن آخرون منهم بما كفر به غيرهم وكفروا بما آمن به غيرهم، فسماهم الله تعالى مقتسمين، قاله مجاهد.
الرابع: أنهم قوم صالح تقاسموا على قتله، فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} [النمل: 49]. قاله ابن زيد.
الخامس: أنهم قوم من كفار قريش اقتسموا طرق مكة ليتلقوا الواردين إليها من القبائل فينفروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون، حتى لا يؤمنوا به، فأنزل الله تعالى عليهم عذابًا فأهلكهم، قاله الفراء.
السادس: أنهم قوم من كفار قريش قسموا كتاب الله، فجعلوا بعضه شعرًا وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين، قاله قتادة.
السابع: أنهم قوم أقسموا أيمانًا تحالفوا عليها، قاله الأخفش.
وقيل إنهم العاص بن وائل وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج.
قوله عز وجل: {الذين جعلوا القرآن عضين} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: يعني فرقًا، فجعلوا بعضه شعرًا، وبعضه سحرًا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين، فجعلوه أعضاء كما يعضّى الجزور و{عضين} جمع عضو، مأخوذ من عضَّيت الشيء تعضية إذا فرقته كما قال رؤبة بن العجاج:
وليس دينُ الله بالمعضى

يعني بالمفرَّق، قاله ابن عباس والضحاك.
الثاني: أن العضين جمع عضه وهو البهت، ومن قولهم: عضهتُ الرجل أعضهه عضهًا إذا بهتّه، لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر:
إن العضيهة ليستْ فعل أحرار

الثالث: أن العضين المستهزئون، لأنه لما ذكر في القرآن البعوض والذباب والنمل والعنكبوت قال أحدهم: أنا صاحب البعوض، وقال آخر: أنا صاحب الذباب وقال آخر: أنا صاحب النمل، وقال آخر: أنا صاحب العنكبوت، استهزاء منهم بالقرآن، قاله الشعبي والسدي.
الرابع: أنه عنى بالعضه السحر، لأنهم جعلوا القرآن سحرًا، قاله مجاهد، قال الشاعر:
لك من عضائهن زمزمة

يعني من سحرهن، وقال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة العاضهة، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن العاضهة والمستعضهه، يعني الساحرة والمستسحرة.
وفي اشتقاق العضين وجهان:
أحدهما: أنه مشتق من الأعضاء، وهو قول عبيدة.
الثاني: أنه مشتق من العضه وهو السحر، وهو قول الفراء.
قوله عز وجل: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني عما كانوا يعبدون، قاله أبو العالية.
الثاني: عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين، رواه الربيع بن أنس.
قوله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر}
فيه ستة تأويلات:
أحدها: فامضِ بما تؤمر، قاله ابن عباس.
الثاني: معناه فاظهر بما تُؤمر، قاله الكلبي. قال الشاعر:
ومَن صادعٌ بالحق يعدك ناطقٌ ** بتقوى ومَن إن قيل بالجوْر عيّرا

الثالث: يعني اجهر بالقرآن في الصلاة، قاله مجاهد.
الرابع: يعني أعلن بما يوحى إليك حتى تبلغهم، قاله ابن زيد.
الخامس: معناه افرق بين الحق والباطل، قاله ابن عيسى.
السادس: معناه فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى، حكاه النقاش.
وقال رؤية: ما في القرآن أعْرَبُ من قوله: {فاصدع بما تؤمر} {وأعرض عن الجاهلين} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منسوخ بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]. قاله ابن عباس.
الثاني: أعرض عن الاهتمام باستهزائهم.
الثالث: معناه بالاستهانة بهم، قاله ابن بحر.
ثم فيه وجهان:
أحدهما: اصدع الحق بما تؤمر من اظهاره.
الثاني: اصدع الباطل بما تؤمر من إبطاله. اهـ.