فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



القول الثاني- أن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى، وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا بعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 23]. الاية، وقوله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]. الآية.
القول الثالث- أن المراد بالمقتسمين: جمتعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41-42]، وقوله: {فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]، وقوله: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} [ص: 7]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24]، وقوله: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ولا تنافي الثاني بخلاف الأول. لأن قوله: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]. أظهر في القول الثالث، لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة، كقولهم: شعر، سحر، كهانة إلخ.
وعلى أنهم أهل الكتاب- فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، أو القرآن لأنهم آمنوا بما وافق هواهم منه وكفروا بغيره.
وقوله: {عضين} جمع عضة، وهو العضو من الشيء، اي جعلوه أعضاء متفرقة، واللام المحذوفة أصلها واو. قال بعض العلماء: اللام المحذوفة أصلها هاء، وعليه فأصل العضة عضهة، والعضه السحر. فعلى هذا القول- فالمعنى جعلوا القرآن سحرًا. كقوله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]، وقوله: {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48]. إلى غير ذلك من الآيات.
والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة، والسحر عضها، ويقال: إن ذلك لغة قريش، ومنه قول الشاعر:
أعوذ بربي من الناقثا ** ت في عقد العاضه المعضه

تنبيه:
فإن قيل: بم تتعلق الكاف في قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} [الحجر: 90].؟
فالجواب- ما ذكره الزمخشري في كشافه قال: فإن قلت بم تعلق قوله: {كما أنزلنا} قلت: فيه وجهان: احدهما- أن يتعلق بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} [الحجر: 87]. اي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه.
وقيل: كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي إلى أن قال الوجه الثاني- أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89]. اي وأنذر قريشًا مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة والنضير. جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف.
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في البحر المحيط ثم قال أبو حيان:
أما الوجه الأول وهو تعلق {كما} بـ: {آتيناك} فذكره أبو البقاء على تقدير، وهو أن يكون في موضع نصب نعتًا لمصدر محذوف تقديره: آتيناك سبعًا من المثاني إيتاء كما أنزلنا، أو إنزالًا كما أنزلنا. لأن {آتيناك} بمعنى أنزلنا عليك.
قوله تعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}.
أي فاجهر به وأظهره. من قولهم: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا، كقولك: صرح بها.
وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علنًا في غير خفاء ولا مواربة، وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67]. الآية.
وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع آخر. كقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54]. إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه:
قوله: {فاصدع} قال بعض العلماء: أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم: انصدع الصبح: انشق عنه الليل، والصديع: الفجر لانصداعه، ومنه قول عمروبن معد يكرب:
ترى السرحان مفترشًا يديه ** كأن بياض لبته صديع

اي فجر والمعنى على هذا القول: أظهر ما تؤمر به وبلغه علنًا على رؤوس الأشهاد وتقول العرب: صدعت الشيء: أظهرته، ومنه قول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه ** يسر يفيض على القداح ويصدع

قاله صاحب اللسان.
وقال بعض العلماء: اصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب كالزجاج والحائط، ومنه بمعنى التفريق: قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]. اي يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السعير. بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]، ومنه قول غيلان ذي الرمة:
عشية قلبي في المقيم صديعه ** وراح جناب الظاعنين صديع

يعني ان قلبه افترق إلى جزءين: جزء في المقيم وجزء في الطاعنين.
وعلى هذا القول- {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} اي فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه، وقوله: {بِمَا تُؤْمَرُ} يحتمل أن تكون مات موصوله، ويحتمل أن تكون مصدرية، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية. قال أبو حيان في البحر: والصحيح أن ذلك لا يجوز.
قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين}.
في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء:
أحدهما- أن معنى {وأعرض عن المشركين} أي لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا يصعب عليك ذلك. فالله حافظك منهم.
والآية على هذا التأويل معناها: فاصدع بما تؤمر- أي بلغ رسالة ربك، وأعرض عن المشركين، أي لا تبال بهم ولا تخشهم، وهذا المعنى كقوله تعالى: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67].
الوجه الثاني- وهو الظاهر في معنى الآية- أنه كان في أول الأمر مأمورًا بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الأنعام: 106]، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} [السجدة: 30]، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} [النجم: 29]، وقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]. إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}
والمَدُّ: هو مَطُّ الشيء وزيادته، وللعيْن مسافات تُرَى فيها المرائي؛ كُل عَيْن حَسْب قدرتها، فهناك مَنْ يتمتع ببصر قوي وحادّ، وهناك مَنْ ليس كذلك.
ويتراوح الناس في قدرة إبصارهم حسب توصيف وضعه الأطباء؛ ليعالجوا ذلك على قَدْر استطاعتهم العلمية، وفي المثَل اليومي نسمع مَنْ يقول فلان عنده بُعْد نظر أي: يملك قدرة على أن يقيسَ رُدود الأفعال، ويتوقّع ما سوف يحدث، وما يترتَّب على نتائج أيِّ فعل.
والمراد بمَدِّ العين ليس إخراج حبة العين ومدِّها؛ ولكن المراد إدامة النظر والإمعان، ولكن الحق سبحانه عبَّر في القرآن هذا التعبير، وكأن الإنسان سيخرج حبَّة عينه ليجري بها، وليُمعِن النظر، وهذا ما يفهم من منطوق الآية، والمنطوق يشير إلى المفهوم المراد، وهذا عين الإعجاز.
وكلمة {متاع} تفيد أن شيئًا يُتمتَّع به وينتهي، ولذلك يُوصَف متاع الدنيا في القرآن بأنه متَاعُ الغرور، أي: أنه متاع موقوت بلحظة.
وقول الحق سبحانه: {أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} [الحجر: 88].
هي جَمْع زَوْج، وسبق أنْ أوضحنا أن كلمة زوج هي مفرد، والذكَر والأنثى حين يتلاقيان يصبح اسمهما زوجين، والحق سبحانه هو القائل: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36].
والأزواج كلُّها تعني الفرد، ومعه الفرد من كل صنف من الأصناف. المراد بكلمة أزواج هنا أن المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا شِلَلًا شِللًا؛ ضال ومضل؛ وضال آخر معه مُضِل.
ولحظة الحساب سيقول كل منهم: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51].
وهكذا كانت كلمة أزواج تدل على أصناف متعددة من الذين يقفون معاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومُنكِرين لمنهجه.
وفي موقع آخر من القرآن يكشف سبحانه عَمَّنْ أغوتْهم الشياطين، ويحشرهم الحق سبحانه مع الشياطين في نار جهنم: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128].
أي: يا معشرَ الجنِّ قد استطعتُم أنْ تُوحوا لكثير من الإنس بالغواية والمعصية، ليكونوا أولياءكم، وهكذا نجد أن كل جماعة تتفق على شيء نُسمِّيهم أزواجًا.
وهنا يُوضِّح الحق سبحانه: إياكَ أنْ تَمُدَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجًا منهم، لأننا أعطيناك أعلى عطاءٍ، وهو معجزة القرآن حارس القيم، والذي يضمُّ النَّهْج القويم.
ويتابع سبحانه: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88].
ويُقال: حزنت منه، وحَزِنت عليه، وحَزِنت له؛ فمَنْ ناله ما يُحزن، ولم يَصْدُر عنك هذا السبب في حزنه؛ فأنت تقول له حَزِنت لك.
وآخر ارتكب فِعْلًا يُسِيء إلى نفسه؛ فأنت تحزن عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَزِن عليهم؛ فقد كان يُحِبّ أنْ يؤمنوا، وأنْ يتمتعوا بالنعمة التي يتمتع هو بها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
فمِنْ رأفته صلى الله عليه وسلم صَعُبَ على نفسه أنْ ينَال قومه مشقةٌ؛ فالرحمة والرأفة مصدرها ما وهبه الله إياه من فَهْم لقيمة نعمة الإيمان.
وفي آية أخرى يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6].
أي: أنه لن ينقصَ منك شيء في حالة عدم إيمانهم، ولن يزيدك إيمانهم أجرًا؛ ذلك أن عليك البلاغَ فقط؛ فلماذا تحزن على عدم إيمانهم؟
وقول الحق سبحانه هنا:
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88].
دليل على أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان حريصًا على أن يُؤمِن قومه، محبةً فيهم، وليتعرَّفوا على حلاوة الإيمان بالله، وكان صلى الله عليه وسلم يتألم ويحز في نفسه عدم إيمانهم، لدرجة أن الحق سبحانه قال له في آية أخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
وهنا يُوضِّح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن إيمانهم ليس أمرًا صعبًا عليه سبحانه؛ ذلك أنه قادر أنْ ينزِّل آية من السماء تجعلهم خاضعين؛ مؤمنين؛ لكنه سبحانه يحب أن يأتيه خَلْقُه محبةً، وأن يُحسِنوا استخدام ما وهبهم من خاصية الاختيار.
فسبحانه لا يقهر أحدًا على الإيمان به؛ فالإيمان عَمَل قلوب، وسبحانه لا يريد قوالب، وإنما يريد قلوبًا خاشعة، ولو شاء سبحانه من خَلْقه أنْ يأتوه طواعية؛ فالقهر من القاهر يُثبِت له القدرة، ولكن أنْ يأتيَ الخَلْق إلى خالقهم طواعية؛ فهذا يُثبت له المحبوبية.
والحق سبحانه يريد أن يكون الإيمان نابعًا من محبوبية العابد للمعبود؛ ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88].
ثم يُوجِّه له الأمر بأنْ يُوجّه طاقة الحنان والمودَّة التي في قلبه إلى مَنْ يستحقها، وهم المؤمنون برسالته صلى الله عليه وسلم؛ وعليه أنْ يخفضَ جناحه للمؤمنين.
فكُلُّ حركة من الإنسان هي نزوع يتحرَّك من بعد وُجدْان، والوُجْدان يُولِّد طاقة داخلية تُهيئ للنزوع وتدفع إليه، فإن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم إيمان صناديد قريش برسالته؛ فهذا الحُزْن إنما يخصم ويأخذ من طاقته؛ فيأتيه الأمر من الحق سبحانه أن يُوفِّر طاقته، وأنْ يُوجِّهها لمَنْ آمن به؛ وأن يخفِضَ جناحه لهم.
وخَفْض الجناح هو التواضُع؛ ذلك أن الجناحَ هو الجانب، فحين يأتيك إنسانٌ تريد أنْ تتكبَّر عليه؛ فهو يقول فلان لَوَى عنِّي جانبه.
وهكذا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يتواضع مع المؤمنين؛ وأنْ يتوجه إليهم لا باستقامة قالبه، بل أن ينزل هذا القالب قليلًا.
وكلمة: {واخفض جَنَاحَكَ} [الحجر: 88]. مأخوذة من خَفْض جناح الطائر، فالطائر يرفع جناحه عند الطيران، ولكن ما أنْ يلمسَ هذا الطائر فَرْخَه الصغير حتى يَخفِض جناحه له ليضمه إليه.
إذن: فالطاقة التي كنتَ تُوجِّهها يا رسول الله إلى مَنْ لا يستحق؛ عليك أنْ تُوجِّهها لِمَنْ يستحقها، فيكفيك أن تُبلِّغ الناس جميعًا برسالتك؛ ومَنْ يؤمن منهم هو مَنْ يستحق طاقةَ حنانِك ورحمتك.
وخَفْض الجناح لِمَنْ آمن برسالتك لا يورثه كِبْرًا عليك؛ بل يزيده أدبًا معك.
وقد جاء في الأثر: إذا عَزَّ أخوك فَهُنْه أي: أنك إذا رأيتَ أخاك في وضع يعِزّ عليك، فَهُنْ له أنت.
ومن قبل الإسلام قال الشاعر العربي:
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ ** وقُلْنا القَوْمُ إخْوانُ

عَسَى الأيامُ أنْ يَرْجِعْ ** نَ قَوْمًا كَالذِي كَانُوا

فَلمَّا صَرَّح الشَّر ** فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ

مَشَيْنَا مِشْيَةَ الليْثِ ** غَدا والليْثُ غَضْبَان

بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ ** وتَخْضِيعٌ وإقرانُ

وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ ** غَدَا والزِّق مَلآنُ

وَفِي الشَّرِّ نَجَاة حِي ** ينَ لاَ يُنجِيكَ إحسَانُ

وَبعضُ الحلمِ عِنْدَ الجَهـ ** ـلِ لِلْذلةِ إذْعَانُ

ونجد القرآن حينما يطبع خلق المؤمن بالله وبالمنهج؛ لا يطبعه بطابع واحد يتعامل به مع كل الناس، بل يجعل طَبْعه الخُلقي مطابقًا لموقف الناس منه، فيقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54].
ويقول أيضًا في وصف المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وهكذا لم يطبع المؤمن على الشدة والعزة، بل جعله يتفاعل مع المواقف؛ فالموقف الذي يحتاج إلى الشدة فهو يشتد فيه؛ والموقف الذي يحتاج إلى لِينٍ فهو يلين فيه.
والحكمة الشاعرة تقول:
وَوَضْعُ النَّدى في مَوضْعِ السَّيف بالعلي مضر ** كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضعِ النَّدَى

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)}
ونعلم أن الرسل مُبشرِّين ومُنذرِين؛ ولسائل أنْ يقولَ: ولماذا تأتي صيغة الإنذار دائمًا؟ وأقول: إن مَنْ يؤمن هو مَنْ يتلقَّى البشارة؛ أما مَنْ عليه أنْ يتوقَّع النِّذارة فهو الكافر المُنكِر.