فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الإنذار تخويفٌ بشيء ينالُ منك في المستقبل؛ وعليك أنْ تَعُد العُدَّة لتبتعد بنفسك أن تكون فيه، والتبشير يكون بأمر تتمناه النَّفْس، وبالإنذار والتبشير يتضح الموقف بجلاء، ويُحَاط الإنسان بكل قضايا الحياة؛ ويتضح مسَار كُل أمرٍ من الأُمورِ.
وبذلك يكون الحق سبحانه في الآيتين السابقتين قد امتنَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد آتاه السبع المثاني والقرآن العظيم؛ ولذلك يوصيه ألاَّ تطمح نفسه إلى ما أوتي بعضٌ من الكفار من جاه ومال، فالقرآن عزُّ الدنيا والآخرة.
ويوصيه كذلك بألا يحزنَ عليهم نتيجة انصرافهم عن دعوته، فليس عليه إلا البلاغ، وأن يتواضعَ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليزداد ارتباطهم به، فهم خير من كل الكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم. ثم يُوصيه الحق سبحانه أن يُبلغ الجميع أنه نذير وبشير، يوضح ما جاء في القرآن من خير يعُمَّ على المؤمنين، وعقاب ينزل على الكافرين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثَلي ومثَل ما بعثني اللهُ به كمثَلِ رجلٍ أتى قومًا فقال: يا قوم، إني رأيتُ الجيشَ بعينيَّ، وإني أنا النذير العُرْيان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فَأدْلجوا فانطلقوا على مهلهِم فَنجَوْا، وكذَّبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثَل مَنْ أطاعني فاتَّبع ما جِئْتُ به، ومثَل مَنْ عصاني وكذَّب بما جئتُ به من الحقِّ».
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}
ونعلم أنه سبحانه قد أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم، واستقبله الناس استقباليْنِ: فمنهم مَنِ استمع إلى القرآن فتبصَّر قول الحق وآمن، وفي هؤلاء قال الحق سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83].
والصنف الآخر استمع إلى القرآن، فكانت قلوبهم كالحجارة، وفيهم قال الحق سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفًا أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16].
ذلك أن قلوبهم مُمْتلئة بالكفر؛ وقد دخلوا ومعهم حكم مُسْبق، فلم يقيموا ميزانَ العدل ليقيسوا به فائدة ما يسمعون.
ولذلك أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن، فالمسألة لها سوابق مع غيرك من الرسل؛ فقد نزل كل رسول بكتاب يحمل المنهج، ولكن الناس استقبلوا تلك الكتب كاستقبال قومك لِمَا نزل إليك بين كافر ومؤمن، واختلفوا في أمور الكُتب المنزَّلة إلى رسلهم.
وكان انقسامهم كانقسام قومك حول الكتاب المُنزَّل إليك، فلا تحزنْ إنِ اتهموك بأنك ساحرٌ، أو أن ما نزل إليك كتابُ شعر، أو أنك تمارس الكهانة؛ أو فقدوا القدرة على الحكم عليك واتهموك بالجنون.
وهكذا قَسَّموا القرآن المُنزَّل من الله سبحانه إلى أقسام هي: السِّحْر، والكهانة، والشعر، والجنون، كما فعل من قبلهم أقوام أخرى:
فمنهم مَنْ قال، وأثبته القرآن عليهم: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
وهكذا تعلم يا رسول الله أنك لست بِدْعًا من الرسل، ذلك أن الرسل لا يأتون أقوامهم إلا وقد طَمَّ الفساد والبلاء، ولا يوجد فساد إلا بانتفاع واحد بالفساد بينما يضرُّ بالآخرين.
وإذا ما جاء رسول ليصلح هذا الفساد يهُبُّ أهل الاستفادة من الفساد ليقاوموه ويضعوا أمامه العراقيل؛ مثلما حدث معك يا رسول الله حين قال بعضهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].
ومثل هذا القول إنما يدلُّ على أنهم لو صَفُّوا نفوسهم، واستمعوا للقرآن لاهتدوا؛ لذلك يقول لهم سادتهم: {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
أي: شَوِّشوا عليه.
وهكذا فالاقتسام الذي استقبل به الكفار القرآن سبق وأنْ حدث مع الرسل الذين سبقوك.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}
وكلمة {عضين} تعني القطع؛ فيُقال للجزار حين يذبح الشاة أو العجل أنه قد جعله عِضين. أي: فصَل كُلَّ ذراع عن الآخر، وكذلك قطع الفخذ؛ أي: أنه جعل الذبيحة قِطَعًا قِطَعًا بعد أنْ كانت أعضاء مُتصلة.
وكذلك كان القرآن حينما نزل كيانًا واحدًا؛ فأراد بعض من الكفار أن يُقطِّعوه إلى أجزاء، والمقصود هنا هم جماعة من اليهود وجماعة من النصارى الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أنْ يُقطِّعوا القرآن كما فعلوا مع الكتابين اللذين نزلا على موسى، وهما التوراة؛ والإنجيل الذي جاء به عيسى.
وقد قال الحق سبحانه فيهما: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13].
أي: أن بعضًا من اليهود قد نَسُوا بعضًا من التوراة، وكذلك نسى البعض من أتباع عيسى بعضًا من الإنجيل الذي نزل عليه.
وإنْ وجدنا لهم العذر في النسيان؛ فماذا عن الذي كتموه من تلك الكتب؟ وماذا عن الذي بدَّلوه وحرَّفوه من كلمات تلك الكتب؟ وماذا عن الذي أضافوه عليه، ولم ينزل من عند الله؟ وقد فضح سبحانه كل ذلك في القرآن.
أو: أن اليهود استقبلوا القرآن استقبالَ مَنْ يُصدِّق بعضه مِمَّا لا يتعبهم، وكذَّبوه في البعض الذي يتعبهم، فقد كذَّبوا مثلًا أن كتابهم قد بشَّرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا نرى كيف حاولوا أن يجعلوا القرآن عِضين، أي: قطعًا مفصولة عن بعضها البعض، وقد حاولوا ذلك بعد أن تبيَّن لهم أن القرآن مُؤثِّر وفاعل.
وشاء الحق سبحانه للقرآن أن يحمل النذارة والبشارة؛ فالرسول نذير بالقرآن المبين الواضح لِمَنِ اقتسموا الأمر بالنسبة لمحمد- عليه الصلاة والسلام- فقِسْم منهم تفرَّغ للاستهزاء بمحمد ومَنْ آمنوا معه؛ وجماعة أخرى قسَّمتْ أعضاءها ليجلسوا على أبواب مكة أثناء موسم الحج، ويستقبلون القادمين للحج من البلاد المختلفة ليحذروهم من الاستماع لمحمد عليه الصلاة والسلام.
ومن هؤلاء مَنْ وصف الرسولَ صلى الله عليه وسم بالجنون؛ ومنهم مَنْ وصف القرآن بأنه شِعْر؛ ومنهم مَنْ وصفَ الرسول بأنه ساحر.
ثم يقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ}.
وهنا يُقسِم الحق سبحانه بصفة الربوبية التي تعهدتْ رسوله بالتربية والرعاية ليكون أهلًا للرسالة أنه لن يُسلِمه لأحد، وهو سبحانه مَنْ قال: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39].
أي: أن كل رسول هو مصنوع ومَحْميّ بإرادته سبحانه؛ وتلك عناية الحماية للمنهجية الخاصة، وعناية المصطفين الذين يحملونَ رسالته إلى الخَلْق؛ فقد رزق سبحانه خَلْقه جميعًا؛ والرسل إنما يأتون لمهمة تبليغ المنهج الذي يُدير حركة الحياة؛ لذلك لابد أن يُوفّر لهم الحق سبحانه عناية من نوع خاص.
وقَوْل الحق سبحانه هنا:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92].
يُبيِّن لنا أنه سيسألهم سبحانه عن أدقِّ التفاصيل؛ ومجرد توجيه السؤال إليهم فيه لَوْن من العذاب.
ويحاول البعض مِمَّنْ يريدون أنْ يعثروا على تعارض في القرآن أن يقولوا: كيف يقولَ الله مرة: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].
ويقول في اكثر من موقع بالقرآن أنه سيسأل هؤلاء المُكذِّبين؛ فكيف يُثبِت السؤالَ مرة، وينفيه مرة أخرى؟
ونقول لهؤلاء: أنتم تستقبلون القرآن بسطحية شديدة، فهذا الذي تقولون إنه تعارض إنما هو مجرد ظاهر من الأمر، وليس تعارضًا في حقيقة الأمر.
ونحن نعلم أن السؤال أيّ سؤال له مُهِمتان، المُهِمة الأولى: أن تعلم ما تجهل، والمهمة الثانية: لتقرَّ بما تعلم.
والحق سبحانه حين ينفي سؤالًا فهو ينفي أن أحدًا سيُخبره بما لا يعلم سبحانه؛ وحين يثبت السؤال؛ فهذا يعني أنه سيسألهم سؤالَ الإقرار.
وهكذا نعلم أن القرآن إذا أثبت حدثًا مرة ونفَاهُ مرة أخرى، فاعلم أن الجهة مُنفكّة، أي: أن جهة النفي غَيْر جهة الإثبات، وكُلٌّ منهما لها معنًى مختلف.
وقوله هنا:
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92].
يعني أن الضَّال والمُضِلْ، والتابع والمتبوع سَيُسألون عَمَّا عملوا. ثم يقول الحق سبحانه: {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
والعمل كما نعلم هو اتجاه جارحة إلى مُتعلّقها؛ فجارحةُ العين مُتعلِّقها أنْ ترى؛ وجارحةُ اللسان مُتعلِّقها أن تتكلم، وجارحةُ اليد إما أنْ تُربّت، وإما أنَ تبطشَ.
وهكذا فكُلُّ ما تصنعه ملكَاتُ الإدراك في النفس البشرية نُسمِّيه عملًا، وسبق أن علمنا أن العمل ينقسم إلى قول وفعل.
ويقول الحق سبحانه: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
أي: تذكَّروا أن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، وأن كل ما تعملونه يعلمه، وأنكم ملاقونه يوم القيامة ومحتاجون إلى رحمته ومغفرته.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}.
أي: افرغ لِمُهمتك؛ فالصّدع تصنع شقًا في متماسك، كما نشق زجاجًا بالمشرط الخاص بذلك، أو ونحن نصنع شقًا في حائط، والرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء لِيشقَّ الكفر ويهدم الفساد القوي المتماسك الذي يَقْوي بقوة صناديد قريش.
وقد شاع ذلك المصطلح الصدع في الزجاج؛ لأن أيَّ شقٍّ في أيِّ شيء من الممكن أنْ يلتئمَ إلا في الزجاج؛ لأنه يصعب أن يجمع الإنسان الفتافيت والقطع الصغيرة التي تنتج من صدعه، وقد جاء الإيمان ليصدع بنيان الكفر والفساد المتماسك.
وقول الحق سبحانه: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الحجر: 94].
أي: أَعْطِهم عرض كتفيك، ولا تسأل عنهم؛ فَهُم لن يُسلِموا لك، ذلك أنهم مستفيدون من الفساد الذي جِئْتَ أنت لتهدمه، ولكنهم سيأتون لك تباعًا بعد أن تتثبت دعوتُك، وتصل قلوبهم إلى تيقُّن أن ما جئتَ به هو الحق.
والمثَل هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص؛ فقد قالا: لقد استقر الأمر لمحمد، ولم تَعُدْ معارضتنا له تفيد أحدًا، ودخلاَ الإسلام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، وفي سورة الشعراء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]، فزيد هنا قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} ومقصود الآيتين واحد فللسائل أن يسأل عن وجه التخصيص؟
والجواب عن ذلك: إنه لما لم يتقدم آية الحجر تخصيص بمدعو بل تقدمها خطابه، عليه السلام، بالتأنيس والتسلية عمن أعرض والرفق بمن آمن فقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، لم يحتج هنا إلى زيادة، ولما تقدم آية الشعراء قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، والإنذار يستصحب التخويف والاستعلاء على من يخاطب به، اتبع ذلك تعالى تلطفًا وإنعامًا على من آمن من عشيرته، عليه السلام، وغيره بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] فقيل هنا: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ} ليكون أنص في تعميم المؤمنين مطلقًا من العشيرة وغيرهم، ولو قيل هنا {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} لما كان نصًا في التعميم بل كان يحتمل أن يراد به خصوص المؤمنين من عشيرته، عليه السلام، وكأن قد قيل: واخفض جناحك لمت آمن منهم أي من العشيرة، لأن لفظ المؤمنين هنا-وإن عم- فإنه مما تقدمه وبني عليه من قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] يشبه الوارد من العمومات على سبب خاص، وذلك مما يكسر سورة عمومه ويدخله الخلاف، فجيء بالمجموع من قوله: {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لايمتنع أن يراد به الخصوص، فالجواب ان رجوع الضمير إلى العشيرة على اللزوم غير لازم بل يمكن رجوعه إلى الجميع من متماد على كفره ومتبع. أما الأول فبين، وأما الثاني فالارتداد وقد قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86]، بل رجوع الضمير إلى الكل أولى ليستصحب المؤمن الخوف، ولهذا قيل: {فَإِنْ عَصَوْكَ} لوقوع اسم المعصية على الكفر وما فوقه. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ}.
لم يُسَلِّمْ له إشباع النظر إلى زَهْرَة الدنيا وزينتها.
ويقال غار على عينيه- صلى الله عليه وسلم- أن يستعملَها في النظر إلى المخلوقات.
ويقال أَدَّبَه اللَّهُ- سبحانه- بهذا التأديب حتى لا يُعِيرَ طَرْفَه من حيث الاستئناس به.
ويقال أمره بحفظ الوفاء لأنه لمًّا لم يكن اليومَ سبيلٌ لأحد إلى رؤيته، فلا تمدن عينيك إلى ملاحظة شيء من جملة ما خوَّلْناهم، كما قال بعضهم:
لمَّا تَيَقَّنْتُ أني لسْتُ أبصركم ** أغمضتُ عيني فلم أنظر إلى أحد

ويقال شَتَّانَ بينه وبين موسى- عليه السلام! قال له: {لَن تَرَانِى وَلَكِن انظُرْ إِلَى الجَبَلِ} [الأعراف: 143]، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- مَنَعَه من النظر إلى المخلوقات بوصفٍ هو تمام النظر فقال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88].
ويقال إذا لم يسلم له إشباع النظر بظاهره إلى الدنيا فكيف يسلم له السكون بقلبه إلى غيرالله؟!
ويقال لما أُمِرَ بِغَضِّ بَصَرِه عما يتمتُّع به الكفارُ في الدنيا تَأَدَّبَ- عليه السلام- فلم ينظرْ ليلةَ المعراج إلى شيءٍ مما رأى في الآخرة، فأثنى عليه الحقُّ بقوله: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وكان يقول لكل شيءٍ رآه «التحيات لله» أي المُلْكُ لله.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِم}.
أدّبه حتى لا يتغير بصفة أحد، وهذه حال التمكين.
قوله جلّ ذكره: {وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
أي أَلمِنْ لهم جانبَكَ، وكان عليه السلام إذا استعانت به الوليدة في الشافعة إلى مواليها يمضي معها إلى غير ذلك من حسن خُلُق- صلوات الله عليه- وكان في الخبر إنه كان يخدم بيته وكان في مهنة أهله، وتولَّى خدمة الوفد، وكان يقول؛ «سيدُ القومِ خادمُهم».
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)}
لمَّا لم يكن بنفسه وكان قائمًا بحقه- سبحانه وتعالى- سَلّمَ له أن يقول: إني وأنا، وفي الخبر: أن جابرًا دَقَّ عليه الباب، فقال: «مَنْ؟» قال: أنا. فقال النبي عليه السلام: «أنا أنا».. كأنه كرهها.
ويقال: قُلْ لا حدَّ لاستهلاكك فينا، سلَّمنا أن تقول: إني أنا، لما كنتَ بنا ولنا.
قوله جلّ ذكره: {كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ}.
أي قل: إني أنا لكم مُنذِرٌ بعذابٍ كالعذاب الذي عذَّبْنا به المقتسمين؛ وهم الذين تقاسموا بالله لنبيِّه في قصة صالح عليه السلام، وقيل هم من أهل الكتاب الذين اقتسموا كتاب الله؛ فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضِه.
ويقال إني لكم نذير أخوفكم عقوبة المقتسمين الذين اقتسموا الجبال والطرق بمكة في الموسم، وصدوا الناس، وكان الواحد منهم يقول لِمَنْ مَرَّ به: لا تُؤْمِنْ بمحمدٍ فإنه ساحر، ويقول الآخر: إنه كاهن ويقول ثالث: إنه مجنون، فهم بأقسامهم: {الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْءَانَ عِضِينَ}.
ففرقوا القول فيه، فقال بعضهم إنه شعر، وقال بعضهم إنه سحر، وقال بعضهم إنه كهانة. إلى غير ذلك.
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}
العوام يسألهم عن تصحيح أعمالهم، والخواص يسألهم عن تصحيح أحوالهم.
ويقال يسأل قومًا عن حركات ظواهرهم، ويسأل آخرين عن خطرات سرائرهم، ويسأل الصديقين عن تصحيح المعاني بفعالهم، ويسأل المدَّعين عن تصحيح الدعاوى تعنيفًا لهم.
ويقال سماع هذه الآية يوجب لقوم أْنسًا وسرورًا حيث علموا أنه يكلِّمهم ونُسْمِعُهُم خطابَه لاشتياقِهم إليه، ولا عَجَبَ في ذلك فالمخلوق يقول في مخلوق:
في الخَفِراتِ البيضِ وَدَّ جليسُها ** إذا مانتهت أُحْدُوثَةٌ لَوْ تُعِيدُهَا

فلا أسعدَ مِنْ بَشَرٍ يعرف أَنَّ مولاه غدًا سيكلمه.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
كُنْ بنا وقُلْ بنا، وإِذَا كنتَ بِنا ولَنَا فلا تجعلْ حِسابًا لغيرنا، وصرِّحْ بما خاطبناك به، وأَفْصِحْ عَمَّا نحن خصصناكَ به، وأَعْلْنْ محبتنا لك:
فسبِّحْ باسم مَنْ تَهْوى ودَعْنا من الكُنى ** فلا خيرَ في اللَّذاتِ مِنْ بعدها سَتْرُ

. اهـ.