فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [99]
قوله تعالى: {واعبد رَبَّكَ}.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، اي يقترب له علة وجه الذل والخضوع والمحبة بما امر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع، وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها، وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65]، وقال: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256]، وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، والآيات في مثل ذلك كثيرة جدًا.
قوله تعالى: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين}.
قالت جماعة من أهل العلم، منهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد، والحسن وقتادة، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم وغيرهم: اليقين: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين حتى أَتَانَا اليقين} [المدثر: 43-47]، وهو الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أُمُّ العلاء: رحمة الله عليك أبا السَّائب! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله!؟ فقال: «أَما هو فقد جاءه اليقين، وإِني لأَرجو له الخير..» الحديث، وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت، وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينًا، ولقد أجاد التهامي في قوله: والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري.
وقال صاحب الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في لاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}».
وأخرج ابن مروديه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}».
وأخرج ابن مروديه والديلمي عن أب الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أوحي إلى أن أكون تاجرًا ولا أجمع المال متكاثرًا، ولكن أوحي إلي: أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}».
تنبيه:
الأول- هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيًا وله عقل ثابت يميز بهن فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائمًا فليصل قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وهكذا قال تعالى عن نبيه عيس عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، وقال البخاري في صحيحه باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول غلى القبلة صلى حيث كان وجهه- حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن بريدة، عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير، فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» اهـ ونحو هذا معلوم. قال تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16]، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الحديث.
التنبيه الثاني- اعلم ان ما يفسر به هذه الآية الكريمه بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين- أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف. لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين، وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلًا، بل يسمى لعبًا كما قدمنا في آل عمران، ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عباد لله جل وعلا، وأشدهم خوفًا منه وطمعًا في رحمته، وقد قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}
فبعد أنْ قال له: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الحجر: 94].
وبعد أن ثبت لكل مَنْ عاش تلك الفترة أن كل مُستهزيء بمحمد صلى الله عليه وسلم قد ناله عقاب من السماء. فها هو ذا الوليد بن المغيرة الذي يتبختَّر في ثيابه؛ فيسير على قطعة من الحديد، فيأنَفُ أن ينحنيَ لِيُخلّص ثوبه الذي اشتبك بقطعة الحديد؛ فتُجرح قدمه وتُصاب بالغرغرينا ويقطعونها له، ثم تنتشر الغرغرينا في كُلِّ جسده إلي أنْ يموتَ.
وها هو الثاني الأسود بن عبد يغوث يُصاب بمرض في عينيه؛ ويُصاب بالعمَى، وكذلك الحارث بن الطلاطلة، والعاصي بن وائل.
وكل مستهزيء برسول الله صلى الله عليه وسلم قد ناله عقابٌ ما، ومَنْ لم تُصِبْه عاهة أو آفة صرعتْه سيوف المسلمين في بدر، لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدد المواقع التي سيلْقى فيها كل واحد من صناديد قريش حَتْفه؛ فقال: هنا مصرع فلان، وهناك مصرع فلان.
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم تلك المواقع من قبل أن تبدأ المعركة، ونعلم أن الحرب تتطلب كَرًا وفَرًا، ولكن ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث بالضبط.
ويُحدِّد الحق سبحانه نوعية هؤلاء المستهزئين بقوله: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)}
أي: أن هؤلاء المشركين الذين يَهْزءون بك لهم عذابهم؛ ذلك أنهم أشركوا بالله سبحانه، وحين يقول الحق سبحانه: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96].
ففي هذا القول استيعاب لكل الأزمنة، أي: سيعلمون الآن ومن بعد الآن، فكلمة سوف تتسع لكل المراحل، فالحق سبحانه لم يأخذهم جميعًا في مرحلة واحدة، بل أخذهم على فترات.
فحين يأخذ المُتطرِّف في الإيذاء؛ قد يرتدع مَنْ يُؤذِي، ويتراجع عن الاستمرار في الإيذاء، وقد يتحوّل بعضهم إلى الإيمان؛ فمَنْ كانت شِدّته على رسول الله صلى الله عليه وسلم تصبح تلك الشدة في جانب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وها هو المثَلُ واضح في عكرمة بن أبي جهل؛ يُصَاب في موقعة اليرموك؛ فيضع رأسه على فَخذِ خالد بن الوليد ويسأله: يا خالد، أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيرد خالد: نعم. فيُسلِم الروح مُطْمئنًا.
وهؤلاء المستهزئون؛ قد أشركوا بالله؛ فلم تنفعهم الآلهة التي أشركوها مع الله شيئًا، وحين يتأكد لهم ذلك؛ فَهُمْ يتأكدون من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أبلغ عن الحق سبحانه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)}
وفي هذا القول الكريم يتجلَّى تقدير الحق سبحانه لمشاعر النبوة، فالحق يُكلِّفه أنْ يفعلَ كذا وكذا، وسبحانه يعلم أيضًا ما يعانيه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ أوامر الحق سبحانه.
ورد هذا المعنى أيضًا في قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فأنت يا رسولَ الله أكرم من أنْ تكذبَ، فقد شهدوا لك بحُسْن الصدق عبر معايشتهم لك من قبل الرسالة.
وهنا يقول سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97].
ومعنى ضيق الصدر أنْ يقِلّ الهواء الداخل عَبْر عملية التنفُّس إلى الرئتين؛ فمن هذا الهواء تستخلص الرئتان الأوكسجين؛ وتطرد ثاني أوكسيد الكربون؛ ويعمل الأكسجين على أنْ يُؤكسِدَ الغذاء لِينتجَ الطاقة؛ فإنْ ضاق الصَّدْر صارت الطاقة قليلة.
والمثَل يتضح لِمَنْ يصعدون السُّلَّم العالي لأيّ منزل أو أيّ مكان؛ ويجدون أنفسهم ينهجون؛ والسبب في هذا النهجَ هو أن الرئة تريد أنْ تُسرِعِ بالتقاط كمية الهواء أكبر من تلك التي تصل إليها، فيعمل القلب بشدة اكثر كي يُتيح للرئةِ أن تسحبَ كمية أكبر من الهواء.
أما مَنْ يكون صدره واسعًا فهو يسحب ما شاء من الهواء الذي يتيح للرئة أن تأخذَ الكمية التي تحتاجها من الهواء، فلا ينهج صاحب الصدر الواسع.
فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يُكذِّبه أحد، أو يستهزئ به أحد كان يضيق صَدْره فتضيق كمية الهواء اللازمة للحركة؛ ولذلك يُطمئِنه الحق سبحانه أن مَدَده له لا ينتهي.
وأنت تلحظ عملية ضيق الصدر في نفسك حين يُضايقك أحد فتثور عليه؛ فيقول لك: لماذا يضيق صدرك؟ وَسِّع صدرك قليلًا.
والحق سبحانه يقول في موقع آخر: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125].
أي: يُوسّع صدره، وتزداد قدرته على فَهْم المعاني التي جاء بها الدين الحنيف.
ويقول أيضًا: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء} [الأنعام: 125].
وهنا نجد أن الحق سبحانه يشرح عملية الصعود وكأن فيها مجاهدةً ومكابدةً، وهذا يخالف المسألة المعروفة بأنك إذا صعدتَ إلى أعلى وجدتَ الهواء اكثرَ نقاءً.
وقد ثبت أن الإنسان كلما صعد إلى أعلى في الفضاء فلن يجد هواء.
ويدلُّ الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسم على علاج لمسألة ضيق الصدر حين يُحزنه أو يؤلمه مُكذّب، أو مُسْتهزيء؛ فيقول سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}.
وهكذا يمكن أن تُذْهب عنك أيَّ ضيق، أن تسبح الله، وإذا ما جافاكَ البِشْر أو ضايقك الخَلْق؛ فاعلم أنك قادر على الأُنْس بالله عن طريق التسبيح؛ ولن تجد أرحم منه سبحانه، وأنت حين تُسبِّح ربك فأنت تُنزِّهه عن كُلِّ شيء وتحمده، لتعيش في كَنَف رحمته.
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
ولذلك إذا ضاق صدرك في الأسباب فاذهب إلى المُسبِّب.
ونحن دائمًا نقرن التسبيح بالحمد، فالتنزيه يكون عن النقائص في الذات أو في الصفات أو في الأفعال، وسبحانه كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، فذاتُه لا تُشْبِه أيَّ ذات، وصفاته أزلية مُطْلقة، أما صفات الخَلْق فهي موهبة منه وحادثة.
وأفعال الحق لا حاكمَ لها إلا مشيئته سبحانه، ولذلك نجده جَلَّ وعَلا يقول في مسألة التسبيح: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} [يس: 36].
وهو القائل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
وكُلٌّ من المساء والصباح آية منه سبحانه؛ فحين تغيب الشمس، فهذا إذْنٌ بالراحة، وحين تصبح الشمس فهذا إِذْنٌ بالانطلاق إلى العمل، وتسبيح المخلوق للخالق هو الأمر الذي لا يشارك اللهَ فيه أحدٌ من خَلْقه أبدًا.
فكأن سَلْوى المؤمن حين تضيق به أسباب الحياة أنْ يفزَع إلى ربه من قسوة الخَلْق؛ ليجد الراحة النفسية؛ لأنه يَأْوي إلى رُكْن شديد.
ونجد بعضًا من العارفين بالله وهم يشرحون هذه القضية ليوجدوا عند النفس الإيمانية عزاءً عن جَفْوة الخَلْق لهم؛ فيقولون: إذا أوحشك من خَلْقه فاعلم أنه يريد أن يُؤنسك به.
وأنت حين تُسبِّح الله فأنت تُقِرّ بأن ذاته ليستْ كذاتِك، وصفاته ليست كصفاتك، وأفعاله ليست كأفعالك؛ وكل ذلك لصالحك أنت؛ فقدرتك وقدرة غيرك من البشر هي قدرة عَجْز وأغيار؛ أما قدرته سبحانه فهي ذاتية فيه ومُطْلقة وأَزلية، وهو الذي يأتيك بكُل النِّعم.
ولهذا فعليك أنْ تصحبَ التنزيه بالحمد، فأنت تحمد ربك لأنه مُنزَّه عن أنْ يكونَ مثلك، والحمد لله واجب في كل وقت؛ فسبحانه الذي خلق المواهب كلها لِتخدُمَك، وحين ترى صاحب موهبة وتغبطه عليها، وتحمد الله أنه سبحانه قد وهبه تلك الموهبة؛ فخيْرُ تلك النعمة يصِل إليك.
وحين تُسبِّح بحمد الله؛ فسبحانه لا يُخلِف وَعْده لك بكل الخير؛ فَكُلُّنا قد نُخلِف الوعد رغمًا عَنَّا، لأننا أغيار؛ أما سبحانه فلا يُخلِف وعده أبدًا؛ ولذلك تغمرك النعمة كلما سبَّحْتَ الله وحمدته.
وزِدْ خضوعًا للمُنْعِم، فاسجُدْ امتثالًا لأمره تعالى:
{وَكُنْ مِّنَ الساجدين} [الحجر: 98].
فالسجود هو المَظْهر الواسع للخضوع، ووجه الإنسان كما نعلم هو ما تظهر به الوجاهة؛ وبه تَلْقَى الناس؛ وهو أول ما تدفع عنه أيَّ شيء يُلوِّثه أو ينال من رضاك عنه.
ومَنْ يسجد بأرقى ما فيه؛ فهذا خضوع يُعطي عِزّة، ومَنْ يخضع لله شكرًا له على نعمه فسبحانه يعطيه من العزة ما يكفيه كل أَوْجُه السجود، وكُلُّنا نذكر قَوْل الشاعر:
وَالسُّجود الذِي تَْجتوِيه فِيهِ ** مِْن أُلوفِ السُّجودِ نَجاةٌ

والسجود هو قمة الخضوع للحق سبحانه، والإنسان يكره لفظ العبودية؛ لأن تاريخ البشرية حمل كثيرًا من المظالم نتيجة عبودية البشر للبشر، وهذا النوع من العبودية يعطي كما نعلم خَيْر العبد للسيد؛ ولكن العبوديةَ لله تعطي خَيْره سبحانه للعباد، وفي ذلك قِمَّة التكريم للإنسان.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
ونعرف أن العبادة هي إطاعة العابد لأوامر المعبود إيجابًا أو سَلْبًا، وتطبيق افعل ولا تفعل، وكثيرٌ من الناس يظنون أن العبادة هي الأمور الظاهرية في الأركان الخمسة من شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان؛ وحِجّ البيت لِمَن استطاع إليه سبيلًا.
ونقول: لا، فهذه هي الأُسس التي تقوم عليها العبادة. أي: أنها البِنْية التي تقوم عليها بقية العبادة، وهكذا تصبح العبادة هي، كُل ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، أي: أن حركة الحياة كلها حتى كَنْس الشوارع، وإماطة الأذى عن الطريق هي عبادة، كل ما يُقصد به نَفْع الناس عبادة، كي لا يصبح المسلمون عالة على غيرهم.
وفي إقامة الأركان إظهارٌ لقوة المسلمين، حين يُظهِرون كامل الولاء لله بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد، فيترك المسلم عمله فَوْر أنْ يسمع النداء بـ: الله أكبر فيخرج المسلم من صراعات الحياة، ويعلن الولاء للخالق المنعم.
وحين يصوم المسلم شهرًا في السنة؛ فهو يُعلِن الولاء للخالق الأكرم، ويصوم عن أشياء كثيرة كانت مُبَاحة؛ وأوَّل ما يأتي موعد الإمساك من قَبْل صلاة الفجر بقليل؛ فهو يمتنع فورًا.
وهذا الامتثال لأوامر الحق سبحانه يُذكِّرك بنعمه عليك؛ فأنت في يومك العادي لا تقرب المُحرَّمات التي أخذتْ وقتًا أثناء بدايات الدين إلى أن امتنع عنها المسلمون، فلا أحدَ من المسلمين يُفكِّر في شُرْب الخمر؛ ولا أحدَ منهم يُفكِّر في لعب المَيْسِر، وانطبعتْ تلك الأمور؛ وصارتْ عادة سلوكية في إلْف ورتَابة عند غالبية المسلمين مِمَّنْ يُنفِّذون شريعة الله، ويُطبّقون افعل ولا تفعل.
وعندما يأتي الصوم فأنت تمتنع عن أشياء هي حلال لك طوال العالم، وتقضي أي نهار في رمضان ونفسُك تستشرف سماع أذان المغرب لِتُفطر.
وهكذا تمتثل للأمر بالامتناع والإمساك والأمر بالإفطار، وذلك لِيعُوّدك على الكثير من الطاعات التي تصير عند المؤمنين عادةً؛ وسبحانه يريد أنْ يُديم عليك لذَّة التكليف العبادي.
وبعْضٌ من الناس يذهبون مذاهب الخطأ عندما يفسرون بأهوائهم قوله الحق:
{واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99].
ويقول الواحد من هؤلاء مخادعًا الغير لقد وصلت إلى مرتبة اليقين، ويمتنع عن أداء الفروض من صلاة وصوم وزكاة وحِجِّ إلى بيت الله الحرام رغم استطاعته، ويدَّعِي أن التكليف قد سقط عنه؛ لأن اليقين قد وصله.
ونقول لمن يدَّعي ذلك: أَتُخادع الله ورسوله؟ وكُلُّنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظَلَّ يُؤدِّي الفرائض حتى آخر يوم في حياته، وكُلُّنا يعلم أن اليقين المُتفق عليه والمُتيقن من كل البشر، ولا خلافَ عليه أبدًا هو الموت.
أما اليقين بالغيبيات فهو من خُصوصيات المؤمن؛ فما أنْ بلغه أمرها من القرآن فقد صَدَّقها، ولم يسأل كيف يتأتَّى أمرُها، والمثَلُ الواضح هو أبو بكر الصديق حينما كانوا يُحدِّثونه بالأمر الغريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول «مادام قد قال فقد صدق».
أما الكافر والعياذ بالله فهو يشكُّ في كل شيء غيبيّ أو حتى ماديّ ما لم يكن محسوسًا لديه، ولكن ما أنْ يأتيه الموت حتى يعلمَ أنه اليقين الوحيد.
ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول: «ما رأيت يقينًا أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت».
وكلنا نتيقن أننا سوف نموت؛ لكِنَّا نُزحزِح مسألة اليقين هذه بعيدًا عَنَّا رَغْم أنها واقعةٌ لا محالةَ. فإذا ما جاء الموت، نقول: ها هي اللحظة التي لا ينفع فيها شيء إلا عمل الإنسان إنْ كان مؤمنًا مُؤدِّيًا لحقوق الله.
ولذلك أقول دائمًا: إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقًا مؤكدًا، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به.
أما عَيْن اليقين؛ فهي التي ترى الحدث فتتيقّنه، أو هو أمر حقيقيّ يدخل إلى قلبك فَتُصدقه، وهكذا يكون لليقين مراحل: أمر تُصدِّقه تَصديقًا جازمًا فلا يطفو إلى الذهن لِيُناقَش من جديد، وله مصادر عِلْم مِمَّنْ تثق بصدقه، أو: إجماع من أناس لا يجتمعون على الكذب أبدًا؛ وهذا هو علم اليقين؛ فإنْ رأيتَ الأمر بعينيك فهذا هو حق اليقين.
والمؤمن يُرتِّب تصديقه وتيقّنه على ما بلغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هو الإمام عليّ كرَّم الله وجهه وأرضاه يقول: «ولو أن الحجاب قد انكشف عن الأمور التي حدثنا بها رسول الله غيبًا ما ازددتُ يقينًا».
وها هو سيدنا حارثة رضي الله عنه يقول: كأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرفت فالزم».
وذلك هو اليقين كما آمنَ به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.