فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

{نَبّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم}
فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده وفي عطف. {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} على {نَبِّئ عِبَادِى} تحقيق لهما بما يعتبرون به.
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا} أي نسلم عليك سلامًا أو سلمنا سلامًا. {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون وذلك لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت، ولأنهم امتنعوا من الأكل والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} وقرئ {لا تأجل} من أوجله و{لا توجل} من أوجله {ولا تواجل} من واجله بمعنى أوجله. {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، فإن المبشر لا يخاف منه، وقرأ حمزة نبشرك بفتح النون والتخفيف من البشر. {بغلام} هو إسحاق عليه السلام لقوله: {وبشرناه بإسحاق} {عَلِيمٍ} إذا بلغ.
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر} تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه، أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة وكذا قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أي فبأي أعجوبة تبشرون، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء، وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها وقرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالًا لإِجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية وكسرها على الياء. {قَالُواْ بشرناك بالحق} بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره. {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرًا من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر، وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك:
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ} وقرأ أبو عمرو والكسائي يقنط بالكسر، وقرئ بالضم وماضيهما قنط بالفتح.
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، ولعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عددًا والبشارة لا تحتاج إلى العدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.
{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يعني قوم لوط.
{إِلا ءَالَ لُوطٍ} إن كان استثناء من {قَوْمٌ} كان منقطعًا إذ ال {قَوْمٌ} مقيد بالإِجرام وإن كان استثناء من الضمير في {مُّجْرِمِينَ} كان متصلًا، والقوم والإِرسال شاملين للمجرمين، و{آلَ لُوطٍ} المؤمنين به وكأن المعنى: إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط منهم، ويدل عليه قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي مما يعذب به القوم، وهو استئناف إذا اتصل الاستثناء ومتصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع وعلى هذا جاز أن يكون قوله: {إِلاَّ امرأته} استثناء من {آلَ لُوطٍ}، أو من ضميرهم، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} اعتراضًا، وقرأ حمزة والكسائي {لَمُنْجُوهُمْ} مخففًا. {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وقرأ أبو بكر عن عاصم {قَدَرْنا} هنا وفي النمل بالتخفيف، وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم.
ويجوز أن يكون {قَدَّرْنَآ} أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم، وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما لهم من القرب والاختصاص به.
{فَلَمَّا جَاء ءالَ لُوطٍ المرسلون قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} تنكركم نفسي وتنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بِشَرٍ.
{قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك من عدوك، وهو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه.
{وآتيناك بالحق} باليقين من عذابهم. {وِإِنَّا لصادقون} فيما أخبرناك به.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} فاذهب بهم في الليل، وقرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السرى وهما بمعنى وقرئ {فسر} من السير. {بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} في طائفة من الليل وقيل في آخره قال:
افتَحِي البَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُوم ** كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطَعٍ لَيْلٍ بَهِيمِ

{واتبع أدبارهم} وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم. {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب، وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة. {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} إلى حيث أمركم الله بالمضي إليه، وهو الشام أو مصر فعدي {وامضوا} إلى {حَيْثُ تُؤْمَرُون} إلى ضميره المحذوف على الاتساع.
{تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} أي وأوحينا إليه مقضيًا، ولذلك عدي بإلى. {ذَلِكَ الامر} مبهم يفسره. {إِنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ} ومحله النصب على البدل منه وفي ذلك تفخيم للآمر وتعظيم له، وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد. {مُّصْبِحِينَ} داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء، أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى. فـ: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاء} في معنى مدبري هؤلاء.
{وَجَاء أَهْلُ المدينة} سدوم. {يَسْتَبْشِرُونَ} بأضياف لوط طمعًا فيهم.
{قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ} بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.
{واتقوا الله} في ركوب الفاحشة. {وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان، أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء.
{قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} على أن تجير منهم أحدًا أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل احد وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم.
{قَالَ هؤلاء بَنَاتِى} يعني نساء القوم فإن نبي كل أُمة بمنزلة أبيهم، وفيه وجوه ذكرت في سورة هود. {إِن كُنتُمْ فاعلين} قضاء الوطر أو ما أقول لكم.
{لَعَمْرُكَ} قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة والسلام وقيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك، والتقدير لعمرك قسمي، وهو لغة في العمر يختص به القسم لإِيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم. {إِنَّهُمْ لفي سكرتهم} لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم. {يَعْمَهُونَ} يتحيرون فكيف يسمعون نصحك، وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} يعني صيحة هائلة مهلكة، وقيل صيحة جبريل عليه السلام. {مُشْرِقِينَ} داخلين في وقت شروق الشمس.
{فَجَعَلْنَا عاليها} عالي المدينة أو عالي قراهم. {سَافِلَهَا} وصارت منقلبة بهم. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل، وقد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة هود.
{إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتفكرين المتفرسين الذين يتشبثون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته.
{وَإِنَّهَا} وإن المدينة أو القرى. {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها.
{إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} بالله ورسله.
{وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة لظالمين} هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه الله إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة، و{الأَيكة} الشجرة المتكاثفة.
{فانتقمنا مِنْهُمْ} بالإِهلاك. {وَإِنَّهُمَا} يعني سدوم والأيكة، وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثًا إليهما فكان ذكر إحداهما منبهًا على الأخرى. {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} لبطريق واضح، والإِمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح لأنها مما يؤتم به.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين} يعني ثمود كذبوا صالحًا ومن كذب واحدًا من الرسل فكأنما كذب الجميع، ويجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحًا ومن معه من المؤمنين، و{الحجر} واد بين المدينة والشأم يسكنونه.
{وءاتيناهم ءاياتنا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها ودرها، أو ما نصب لهم من الأدلة.
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءَامِنِينَ} من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها، أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد.
{وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق} إلا خلقًا ملتبسًا بالحق لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزاحة فسادهم من الأرض. {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} فينتقم الله لك فيها ممن كذبك. {فاصفح الصفح الجميل} ولا تعجل بانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وقيل هو منسوخ بآية السيف.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق} الذي خلقك وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم. {العليم} بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم، أو هو الذي خلقكم وعلم الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح، وفي مصحف عثمان وأبَيِّ رضي الله عنهما هو {الخالق}، وهو يصلح للقليل والكثير و{الخلاق} يختص بالكثير.
{وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا} سبع آيات وهي الفاتحة، وقيل سبع سور وهي الطوال وسابعتها الأنفال والتوبة فإنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية، وقيل التوبة وقيل يونس أو الحواميم السبع، وقيل سبع صحائف وهي الأسباع. {مِّنَ المثاني} بيان للسبع والمثاني من التثنية، أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته، أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه أو مشى عليه بالبلاغة والاعجاز، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى، ويجوز أن يراد بـ: {المثاني} القرآن أو كتب الله كلها فتكون {مِنْ} للتبعيض. {وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص، وإن أريد به الأسباغ فمن عطف أحد الوصفين على الآخر.
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لا تطمح ببصرك طموح راغب. {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أصنافًا من الكفار، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات، وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه «من أوتي القرآن فرأى أن أحدًا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا وعظم صغيرا» وروي «أنه عليه الصلاة والسلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله. فقال لهم: لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع». {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أنهم لم يؤمنوا، وقيل إنهم المتمتعون به. {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وتواضع لهم وارفق بهم.
{وَقُلْ إِنِّى أَنَا النذير المبين} أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.
{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا أي تقاسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا على أن يبيتوا صالحًا عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه. {وَلَقَدْ ءاتيناك} فإنه بمعنى أنزلنا إليك، والمقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عنادًا: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أن القرآن ما يقرؤون من كتبهم، فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} إلخ. اعتراضًا ممدًا لها.
{الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ} أجزاء جمع عضة، وأصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء، وقيل فعلة من عضهته إذا بهته، وفي الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» وقيل أسحارًا وعن عكرمة العضة السحر، وإنما جمع جمع السلامة جبرًا لما حذف منه والموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره.
{فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من التقسيم أو النسب إلى السحر فنجازيهم عليه، وقيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي.
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فاجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا، أو فافرق به بين الحق والباطل، وأصله الإِبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة، والراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع. {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} ولا تلتفت إلى ما يقولون.
{إِنَّا كفيناك المستهزءين} بقمعهم وإهلاكهم. قيل كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظمًا لاخذه، فأصاب عرقًا في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحًا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، وإلى عيني الأسود ابن المطلب فعمي.
{الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم في الدارين.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامدًا له على أن هداك للحق. {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} من المصلين، وعنه عليه الصلاة والسلام «أنه كان إذا حَزبه أمر فزع إلى الصلاة» {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق، والمعنى فاعبده ما دمت حيًا ولا تخلّ بالعبادة لحظة. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم»: والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}.
التفسير:
إنه سبحانه عطف {ونبئهم} على {نبىء عبادي} ليكون سماع هذه القصص مرغبًا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء، ومحذرًا من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين، وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم، وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام.
فقوله: {وجلون} معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت. {إنا نبشرك} استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل. بشروه بالولد الذكر بكونه عليمًا فقيل: أرادوا بعلمه نبوته، وقيل: العلم مطلقًا، وقوله: {على أن مسني} في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكرًا للولادة في حالة الهرم أنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال: {فبم تبشرون} ما استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني أي أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله: بما صلة للتبشير بل يكون سؤالًا عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق. المعتاد ممتنعًا فبأي طريق تبشرونني بالولد، فلذلك قالوا في جوابه {بشرناك بالحق} أي باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلًا من شيخ فانٍ وعجوز عاقر. قال أبو حاتم: حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز، وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة. قيل: عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب، وقيل: طلب مزيد الطمأنينة كقوله: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]. عن ابن عباس: يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء، وقوله: {فلا تكن من القانطين} لا يدل على أنه كان قانطًا فق ينهى عن الشيء ابتداء كقوله: {ولا تطع الكافرين} [الأحزاب: 48]، ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون} [يوسف: 87]، وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطًا من رحمته ولكن استبعادًا له في العادة التي أجراها الله هما لغتان: قنط يقنط مثل ضرب يضرب، وقنط يقنط مثل علم يعلم، وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين. ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال: {فما خطبكم} والخطب الشأن العظيم. فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟ وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟، وقال القاضي: إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافيًا، وقيل: علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة. قلت: لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيمًا لشأنهم {قالوا إنا أرسلنا} زعم صاحب الكشاف أن الإرسال هاهنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى.