فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى: {نبئ} أي: خبر يا أفضل الخلق {عبادي} إخبارًا جليلًا {أني أنا} أي: وحدي {الغفور} أي: للمؤمنين {الرحيم} بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون، وأمّا الهمزة في نبئ فلم يبدلها إلا حمزة في الوقف فقط، وكذا الهمزة من نبئهم ونقل عن حمزة كسر الهاء في الوقف.
{وأنّ عذابي} أي: وحدي للعصاة {هو العذاب الأليم} أي: المؤلم. تنبيه: في هذه الآية لطائف: الأولى أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه وهذا تشريف عظيم ألا ترى أنه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا} الإسراء.
الثانية: أنه تعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيدات بألفاظ ثلاث أوّلها: قوله تعالى: {أني}. ثانيها: قوله: {أنا}. ثالثها: إدخال حرف الألف واللام على قوله تعالى: {الغفور الرحيم}، ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: {وأن عذابي هو العذاب الأليم}. الثالثة: أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة، والرابعة: أنه لما قال: {نبئ عبادي} كان معناه نبئ كل من كان معترفًا بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك منها عنده تسعة وتسعين، وأرسل في خلقه رحمة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار»، وعن عبادة رضي الله تعالى عنه قال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه إلى قتلها»، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون وقد ذكر الجنة والنار نبى أيديكم فنزل {بنئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم}»، ولما بالغ تعالى في تقرير النبوّة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة ووصف الأشقياء والسعداء أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها مرغبًا في العبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ومحذرًا عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى: {ونبئهم} أي: خبّر يا سيد المرسلين عبادي {عن ضيف إبراهيم} وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل عليه السلام. فإن قيل: الضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى؟
أجيب: بأنّ هؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف فهو من دلالة التضمن وقيل أيضًا: إنّ من يدخل دار إنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفًا وإن لم يأكل.
{إذ دخلوا عليه} أي: إبراهيم وكان يكنى أبا الضيفان كان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد {فقالوا سلاما} أي: نسلم عليك سلامًا أو سلمت سلامًا {قال} إبراهيم عليه السلام بلسان الحال أو المقال: {إنا} أي: أنا ومن عندي {منكم وجلون} أي: خائفون وكان خوفهم لامتناعهم من الأكل أو لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
{قالوا لا توجل} أي: لا تخف {إنا} رسل ربك {نبشرك بغلام} أي: ولد ذكر في غاية القوّة ليس كأولاد الشيوخ ضعيفًا، وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشدّدة {عليم} أي: ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام كما ذكر في هود وتقدّم ذكر القصة هناك بأسرها {قال} إبراهيم عليه السلام {أبشرتموني} أي: بالولد وقوله: {على أن مسني الكبر} حال، أي: مع مسه إياي. فإن قيل: كيف قال: {فبم} أي: فبأيّ شيء {تبشرون} أي: بينوا لي ذلك بيانًا شافيًا مع أنهم قد بينوا ما بشروا به وما فائدة هذا الاستفهام؟
أجيب: بأنه أراد أن يعرف أنّ الله تعالى هل يعطيه الولد مع بقائه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شابًا ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أنّ العادة جارية بأنه لا يحصل في حالة الشيخوخة التامّة، وإنما يحصل في حال الشباب أو أنه استفهام تعجب ويدل لذلك قولهم:
{قالوا بشرناك بالحق} قال ابن عباس: يريدون بما قضاه الله تعالى والمعنى أنّ الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحاق ويخرج من صلب إسحاق ذرية مثل ما أخرج من صلب آدم وقولهم: {فلا تكن} أي: بسبب تبشيرنا {من القانطين} أي: الآيسين، نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط ونهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كونه فاعلًا للمنهي عنه، كما في قوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب]
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه {قال ومن يقنط} أي: ييأس من هذا اليأس. {من رحمة ربه} أي: الذي لم يزل إحسانه عليه {إلا الضالون} أي: المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون والباقون بفتحها ولما تحقق عليه السلام البشرى ورأى إتيانهم مختفين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما ينزل الملك إلا بالحق كان ذلك سببًا لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله ولذلك {قال} عليه السلام {فما} بفاء السبب {خطبكم} أي: شأنكم. قال أبو حيان: والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد اهـ، وقال الرماني: إنه الأمر الجليل. {أيها المرسلون} فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فصلًا بين هالك وناج.
{قالوا إنا أرسلنا} أي: أرسلنا العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به {إلى} إهلاك {قوم} أي: ذوي منعة {مجرمين} أي: كافرين وهم قوم لوط وقوله تعالى: {إلا آل لوط} فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} أي: لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملًا للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء، والثاني: أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم وقوله تعالى: {إلا امرأته} استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل {إنا لمنجوهم} اعتراضًا وقوله تعالى: {قدّرنا} قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {إنها لمن الغابرين} أي: من الباقين في العذاب لكفرها.
تنبيه:
معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال: قدر هذا الشيء لهذا، أي: اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل: معنى قدّرنا كتبنا، وقال الزجاج: دبرنا. فإن قيل: لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ؟
أجيب: بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا، ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا {وجاء أهل المدينة} [الحجر]
{قال} لهم {إنكم قوم منكرون} لأنهم دخلوا عليه هجمًا فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شبابًا مردًا حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة، وقيل: إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام {إنكم قوم منكرون} أي: لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك.
{قالوا} أي: الملائكة {بل جئناك بما} أي: بالعذاب الذي {كانوا} أي: قومك {فيه يمترون} أي: يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذبًا من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: {وأتيناك بالحق} أي: باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم:
{وإنا لصادقون} أي: فيما أخبرناك به {فأسر بأهلك} أي: فاذهب بهم في الليل {بقطع من الليل} أي: في طائفة من الليل وقيل: هي آخره، قال الشاعر:
افتحي الباب وانظري في النجوم ** كم علينا من قطع ليل بهيم

كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال، وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى. {واتبع أدبارهم} أي: وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم {ولا يلتفت منكم أحد} أي: لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل: جعل ترك الإلتفات علامة لمن ينجو من آل لوط {وامضوا حيث تؤمرون} أي: إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس: هو الشأم، وقال الفضيل: حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل: إلى الأردن، وقيل: إلى مصر. تنبيه: حيث هاهنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة.
{وقضينا} أي: وأوحينا {إليه} ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله {وقضينا إلى بني إسرائيل} [الإسراء]
وقوله تعالى: {ذلك الأمر} مبهم تفسيره {أن دابر هؤلاء مقطوع} أي: مستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله تعالى: {مصبحين} حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أي: يتم استئصالهم في الصباح.
{وجاء أهل المدينة} أي: مدينة من مدائن قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة وذال معجمة وأخطأ من قال بمهملة {يستبشرون} أي: بأضياف لوط طمعًا فيهم وليس في الآية دليل على المكان الذي جاؤوه إلا أن القضية تدل على أنهم جاؤوا دار لوط، وقيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط، وقيل: امرأة لوط أخبرتهم بذلك. قال الرازي: وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهًا ولا أحسن شكلًا منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبًا منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور ولما وصلوا إليه.
{قال} لهم لوط: {إن هؤلاء ضيفي} أي: وحق على الرجل إكرام الضيف {فلا تفضحون} فيهم يقال: فضحه إذا أظهر من أمره ما يلزم به العار وإذا قصد الضيف بسوء كان ذلك إهانة لصاحب المحل ثم أكد ذلك بقوله: {واتقوا} أي: خافوا {الله} في أمرهم {ولا تخزون} أي: ولا تخجلوني فيهم بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة من الخزاية وهي الحياء أو لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان.