فصل: مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي اللّه عنهم وفي العهود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واللّه أعلم بما يقول، فلو كانا بمعنى واحد لما أفردهما أي ان اللّه تعالى جعل لكم ذلك لنتمتعوا به {إِلى حِينٍ} مدة مقدرة من الزمن {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ} من الأشجار والزروع والمغر والوديان والكهوف {ظِلالًا} تستظلون بها من الحر والقر والمطر والخوف {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا} تسكنون بها، إذ جعل فيها مداخل وأسرابا لكم ولأنعامكم وحيوانانكم تتقون بها من الثلج والبرد والهواء الشديد بما يكفي للفقير الذي لا بيت له يلتجأ إليه، أما الغني فعنده الخيام والقساطيط بما يغنيه عن ذلك {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ} ثيابا وأكسية وقمصانا من القطن والحرير والصوف والوبر لكل بحسبه {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والبرد، واكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لدلالته عليه، وإن ما يقي الحر يقي البرد وقدمه بالذكر لأنه الغالب عندهم وجعل لكم {سَرابِيلَ} أخرى دروعا وجواشن جمع جوشن وهو الصدر في الحديد أو النحاس يلبسه المجاهد على صدره {تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} هلاككم في الحرب فتمنع وصول قواطع السلاح إلى أجسادكم {كَذلِكَ} مثل ما أتم عليكم نعمة التي بها قواكم {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في أمور دينكم ودنياكم حالا ومستقبلا {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} للّه وتؤمنون به وتخلصون العبادة إليه وتذرون ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عنك يا سيد الرسل بعد تعداد هذه النعم العظيمة المسبغة عليكم، وقد بلغتهم وأمرتهم ونهيتهم ونصحتهم وقمت بما أمرت به، فلا تبعة عليك {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 82 الظاهر فمن أطاعك فثواب طاعته لنفسه، من عصاك فعقاب عصيانه عليها إذ لم تؤمر بقسرهم بعد.
وبعد أن عدد اللّه تعالى هذه النعم العظيمة وأظهر لخلقه عدم تأثرهم مما ذكرهم به قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} التي غمرهم بها بأنها منه {ثُمَّ يُنْكِرُونَها} قولا وفعلا لأنهم ينسبون كسبها لفعلهم وفعل آبائهم الذين ورثوها عنهم {وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ} بها فلا يستعجلونها لطلب رضائه ولا يعترفون بها أنها منه إلا من لم يبلغ حد التكليف أو من لم تبلغه الدعوة، أو بلغته ولم يفعلها لنقص في عقله فليس عليه شيء، أما من يعرفها أنها من اللّه وينكرها عنادا فذلك هو الكافر.
وبعد ان ذمتهم اللّه تعالى على عدم تقديرهم تلك النعم، شرع يخوفهم عاقبة أمرهم بذكر أحوال القيامة فقال: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} نبيا يشهد لهم وعليهم بما عملوا في دنياهم {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بإدلاء الحجج هناك والمجادلة والعذر كما كانوا في الدنيا {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لأن العتاب يطلب لإزالة الوجدة التي في نفس الخصم ليسترضيه، فعدم طلبه ذلك دليل على بقاء غضبه، ولا يمكن استرضاء الرب إلا بالتوبة، ولات هناك توبة، ولو كانت لما بقي للنار من حاجة، لأنهم عند ما يساقون للعذاب ويرون أن في التوبة خلاصا يتوبون كلهم {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ} وأدخلوا فيه فلا محل لقبول العذر والاسترضاء {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} بسبب ذلك {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} لأجله بل يناغتهم ويحيط بهم.
فيا سيد الرسل اذكر لقومك هذا ليتذكروا ويتدبروا من الآن {وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءهُمْ} في الدنيا يوم القيامة في الموقف {قالُوا رَبَّنا هؤُلاء شُرَكاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ} فاسألهم يا رب وخذهم كما أوقعونا في العذاب وانتقم لنا منهم لإغرارهم إيانا بالدنيا بأنهم يشفعون لنا في هذا اليوم، ولما أسمع اللّه كلام العابدين إلى معبوديهم الذين اشاروا إليهم من الأصنام وغيرها {فَأَلْقَوْا} أجابوهم بصنف حالا دون رؤية وتأمل فرموا وطرحوا {إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} نبذوه نبذا وهو جملة: {إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ} بذلك لأنكم لم تعبدونا ولم تشركونا مع اللّه بالعبادة ولم نتعهد لكم بالشفاعة، ولا يقال إنها جماد لا تنطق لأن اللّه الذي بعثها وأعادها في الآخرة خلق فيها قوة النطق لتكذيب عابديها وترد عليهم {وَأَلْقَوْا} العابدون لما سمعوا منها ذلك {إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ} يوم كذبتهم أوثانهم وتبرأت منهم {السَّلَمَ} الاستسلام لحكم اللّه تعالى إذ أيسوا مما كانوا يرجونه {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} في الدنيا من أنها تشفع لهم، لأن الأوثان بعد أن ردت عليهم بما ذكر اللّه ولوا عنهم وغابوا لئلا يروهم مرة ثانية كراهية لهم ونفورا منهم {الَّذِينَ كَفَرُوا} بأنفسهم {وَصَدُّوا} غيرهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فمنعوهم عن الإيمان به {زِدْناهُمْ} بسبب صدهم غيرهم {عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ} الذي استحقوه {بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} غيرهم مرّ ما فيها في الآية 25 المارة فراجعها {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السابقة {شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} لأن كل نبي يبعث بلسان قومه ومن قبيلته عدا لوط عليه السلام فإنه ليس منهم ولكن لما تزوج منهم وقطن معهم عد منهم أو أنه من باب التغليب {وَجِئْنا بِكَ} يا أكرم الرسل {شَهِيدًا عَلى هؤُلاء} أمتك من قريش وغيرهم بما كان منهم وجاءت هذه الآية بمعنى التكرار للآية 84 المارة قبلها والتأكيد للآية 36 المارة أيضا تشديدا للتهديد وزيادة في الوعيد ليذكر قومه فيها وينبههم للتيقظ لعاقبتها {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} من الحدود والأحكام والحلال والحرام والقصص والأخبار {وَهُدىً} من الضلال {وَرَحْمَةً} للناس المخبتين لأوامره ونواهيه وحرمانا للكفرة المفرطين به المهملين ما فيه {وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} 89 خاصة بالجنة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} بين الناس وإليهم {وَإِيتاء ذِي الْقُرْبى} بما يمكن من الصلة إليهم بحسب الطاقة، قال عليه الصلاة والسلام بلوا أرحامكم ولو بالسلام {وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} التطاول على الناس ظلما {يَعِظُكُمْ} ربكم أيها الناس بما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فعظوا أنفسكم به وغيركم بالحسنى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بها فتحصدون ثمرها.

.مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي اللّه عنهم وفي العهود:

وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر، ولذلك اعتاد الخطباء قراءتها على المنابر يوم الجملة لأنها عظة جامعة للمأثورات والمنهيّات، قالوا إن أول من قرأها على المنبر الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه، وهو الذي منع سبب سيدنا علي كرم اللّه وجهه على المنبر الذي اعتاده من قبله من ملوك الأمويين عليهم ما يستحقونه من اللّه إذا كان وقع منهم ذلك، فيكون رضي اللّه عنه قد أبدل الشر بالخير كما أبدل حضرة الرسول الكفر بالإيمان، قال عبد اللّه بن عباس: مررت بقوم يسبون عليا وكان معي العباس فقال لي خذني إليهم فلما أوقفته عليهم، قال لهم أيكم السابّ للّه؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب لرسول اللّه؟ قالوا لا أحد، قال أيكم الساب لعلي؟ قالوا أما هذا فقد وقع، فقال إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «من سب عليا فقد سبّني، ومن سبني فقد سبّ اللّه تعالى، ومن سب اللّه فقد كفر» ثم تركهم وأدبرنا، فقال لي كيف رأيتهم حينما سمعوا ما قلت؟ فقلت له يا أبت:
نظروا إليك بأعين محمرة ** نظر الذليل إلى العزيز القاهر

فقال زدني يا بني، فقلت:
زرق الوجوه مصفرة ألوانهم ** نظر التيوس إلى شفار الجازر

فقال زدني، فقلت:
أحياؤهم تنعى على أمواتهم ** ومسبة أمواتهم للغابر

فقال لا فض اللّه فاك يا بني.
الحكم الشرعي: اختلف العلماء رحمهم اللّه في حكم من سب الصحابي على أقوال أصحها أنه يفسق، والحديث على فرض صحته جار مجرى التهديد.
قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لكفت في كونه تبيانا لكل شيء.
وقال أهل المعاني ما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وقال بعض أهل العلم إن اللّه تعالى جمع في هذه الآية ثلاثا من المأمورات وثلاثا من المنهيات: ذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وقابله بالفحشاء وهي أقبح شيء من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن تعفوا عمن ظلمك، وتحسن لمن أساء إليك، وتصل من قطعك وأرحامك والفقراء والمساكين، وقابله بالمنكر وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وتسيء لغيرك، وذكر إيتاء القربى وهو التودد إليهم والشفقة والإنفاق عليهم، وقابله بالبغي وهو التكبر عليهم وظلمهم حقوقهم وقطيعتهم، راجع الآية 32 من الأعراف والآية 36 من الإسراء في ج 1 تجد ما يتعلق بهذا مستوفيًّا.
روى عكرمة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي، فأعادها فقال له الوليد واللّه إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وأخرج البارودي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم، فأراد أن يأتيه، فأتى قومه فانتدب رجلين، فأتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال نحن رسل أكثم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال أنا محمد بن عبد اللّه عبد اللّه ورسوله، ثم تلا عليهم هذه الآية، قالوا ردد علينا هذا القول، فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوها، فأتيا أكثم، فأخبراه، فلما سمع الآية قال إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهي عن مذامها، فكونوا في هذا الأمر رأسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، عرض عليهم بكلامه هذا طلبا لأن يكونوا أول أتباعه لئلا يسبقهم أحد فيتقدم عليهم لدى محمد صلّى اللّه عليه وسلم ودينه.
وأخرج الطبراني وأحمد والبخاري في الأدب عن ابن عباس أن هذه الآية صارت سببا لاستقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبّته للنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: «كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره، فقال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع»، أي بموضعها هذا من هذه السورة.
وهذا يؤذن بأن نزولها كان متأخرا عنها، وهذا مغزى ما ذكرناه في المقدمة، وفي الآية 100 من سورة الكهف المارة.
قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ} أحدا باسم اللّه تعالى، لأنه من آكد الحقوق، وقدمنا ما يتعلق بالعهود في الآية 34 من سورة الإسراء فراجعها.
الحكم الشرعي: وجوب الوفاء به إذا كان فيه صلاحا، وإلا فلا، قال صلّى اللّه عليه وسلم: «من خلف يمينا ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأن العهد يمين وكفارته كفارة يمين وهذا من العام المخصص بالسنة، قالوا إن هذه الآية نزلت في الذين بايعوا حضرة الرسول في الموسم قبل الهجرة، وسيأتي بيانها إن شاء اللّه في الآية 10 من سورة الممتحنة والفتح في ج 3، وبعد أن أمر اللّه تعالى بإيفاء العهد نهى عن النكث فيه فقال: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها} باسم اللّه تعالى فتحنثوا، وكيف يليق بكم ذلك {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} على الوفاء به وهو الشهيد على كل شيء {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} من الوفاء والبر والنقض والحنث، ثم ضرب اللّه مثلا لنقض العهد فقال: {وَلا تَكُونُوا} أيها المعاهدون المؤكدون عهودكم بالأيمان {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} في إبرامه وإحكامه وجملة: {من بعد قوة} معترضة بين ما قبلها.
وقوله تعالى: {أَنْكاثًا} طاقات الخبوط المنقوضة بعد الغزل أو القتل {تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا} دغلا وخيانة وخديعة بأن تظهروا الوفاء وتبطنوا النقض، وهذا هو معنى الدخل، لأنه الذي يدخل بالشيء على طريق الإفساد بسبب {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى} أكثر عددا وأوفر مالا {مِنْ أُمَّةٍ} أخرى وذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يحالفون الخلفاء، فإذا وجدوا قوما أقوياء أكثر منهم وأعز نقضوا عهدهم معهم وحالفوا الأكثر عددا والأعز مكانة، فذم اللّه تعالى صنيعهم هذا وقال: {إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} أي الوفاء بالعهد ويختبركم لينظر أتتمسكون بعهدكم وما وكدتموه بالإيمان من بيعة الرسول أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم فتنقضونه كما كان يفعله من قبلكم {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا فيثيب المحق ويعاقب المبطل {وَلَوْ شاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} وقطع مادة الاختلاف {وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدِي مَنْ يَشاء وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير أو شر ثم كرر ما بمعنى الآية الأولى تأكيدا وتهديدا وإعلاما بعظم نقض العهد فقال: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أيها الناس الحذر الحذر من هذا {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} تزلق أقدامكم عن محجة الإسلام والإيمان بعد أن ثبتها اللّه فيهما بتوفيقكم إليهما وتعرضوا أنفسكم لما تكرهون {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} في الدنيا بذم الناس {بِما صَدَدْتُمْ} غيركم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لأن من نقض العهد فقد علّم غيره نقضه فكأنه صده عن الوفاء به {وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة جزاء عملكم ذلك، ثم أكد ثالثا فقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} الذي عاهدتم به رسوله عليه، لأنه هو المقصود في هذا الكون كلّه المطلوب بأن تنقاد له الخلق أجمع ويوقى له بما يريده منهم، لأن هذه المعاهدة هي التي سببت الهجرة إلى المدينة إذ جعلت لهم أصحابا فيها، فكذلك أكد اللّه تعالى عليها هذه التأكيدات لإيجاب الإيفاء بها، وهكذا كل عهد لعموم لفظ الآية، وإياكم أيها الناس أن تأخذوا لقاء نقضه {ثَمَنًا} ثم وصف هذا الثمن بكونه {قَلِيلًا} لأنه مهما كثر فهو قليل بنسبة نقض العهد الذي لا يقابله ثمن لما يترتب عليه من الخزي والعار في الدنيا والعذاب والعقاب في الآخرة، وبالنسبة لما يترتب على الوفاء به من المدح في الدنيا والثواب في الآخرة {إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ} من الأجر العظيم على الوفاء بالعهد {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} مما تتعجلون أخذه من حطام الدنيا على نقضه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ماهية العوضين وعاقبتهما في الدارين، واعلموا أيها الناس أن {ما عِنْدَكُمْ} من متاع الدنيا جميعه {يَنْفَدُ} يفنى فيها لا تأخذون معكم منه شيئا للآخرة إلا وباله {وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ} لكم ثوابه لا يقنى ويصحبكم في الآخرة، لأن من أخذ مالا على نقض العهد فقد فضل ما عنده البالي الذي يحمل ورزه في الآخرة على ما عند اللّه الباقي أجره المضاعف خيره في الدار الدائمة.
روى أبو موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} على ضراء العهد والبر بأيمانهم والمحافظة على وعودهم {أَجْرَهُمْ} بالآخرة {بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا فنعطيهم بمقابلة الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الأحسن منها {مَنْ عَمِلَ صالِحًا} في دنياه من وفاء العهد وغيره {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن من لا إيمان له لا ثواب له في الآخرة، لأن اللّه تعالى يكافئه على عمله الصالح في دنياه حتى يلقى اللّه وليس له عنده شيء من الخير: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} بعيش رغيد وجاء مديد ومال ولد وصحة وقناعة وأمن مماة حياته مع زوجة صالحة وإخوان صالحين حتى يلقى اللّه راضيا مرضيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} بالآخرة {بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا وعد حق من اللّه الحق، واللّه لا يخلف وعده.
واعلم أن هذه الآيات وإن كانت نزلت في الذين عاهدوا حضرة الرسول أوّل معاهدة عاهدها الناس له فهي عامة في كل عهد حق فيه صلاح، لأن نزولها في الجماعة الذين عاهدوا حضرة الرسول في الموسم في 8 محرم الحرام سنة 52 من ميلاده الشريف الثانية عشرة من البعثة لا يخصصها أو يقيدها بها، بل هي عامة، راجع الآية 113 من آل عمران في ج 3 تجد تفصيل هذه المعاهدة إن شاء اللّه، وإنما أخرناها عن موقعها هنا لما رأينا أن ذكرها هناك أكثر مناسبة، ومن اللّه التوفيق.
ثم التفت جل جلاله إلى حبيبه فخاطبه بقوله: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أيها الإنسان الكامل {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة، وقدمنا في المقدمة ما يتعلق بالاستعاذة فراجعها ففيه كفاية {إِنَّهُ} الشيطان {لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ} ولا قدرة {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} لضعف كيده وقوة يقينهم {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بدفع وساوسه والتغلب عليه {إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ويتخذونه وليا من دون اللّه ويركنون لدسائسه {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} بإغوائه ووساوسه وإغرائه {مُشْرِكُونَ} باللّه غيره ولما قال المشركون إن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو إلا مفتر يتقول من تلقاء نفسه، وذلك حينما يسمعون آية لين بعد آية شدة، وهذا هو المراد واللّه أعلم بهذا التبديل المزعوم من قبلهم مثل ذكر العفو بعد القصاص، وكظم الغيظ بعد الأمر بالمقابلة، والفطر بالسفر بعد الأمر بالصيام وهكذا، ومنه تبديل الكعبة عن بيت المقدس في التوجه بالصلاة أنزل اللّه: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ} لحكمة نراها، وهذا معنى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ} وهذه جملة اعتراضية فيها توبيخ للكفرة وتنبيه على فساد رأيهم جاءت بين صدر هذه الآية وبين قوله تعالى: {قالُوا} كفار قريش يا محمد {إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ} بما تسنده لربك وإنك تقول اختلافا من نفسك، قال تعالى ردًا عليهم {بَلْ} هو من عندنا ليس من قبل محمد و{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.