فصل: مطلب في الكفر والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فائدة:
هذا التبديل وما يترتب عليه من المصالح، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في المقدمة، وله صلة ستأتي في الآية 107 من سورة البقرة ج 3 إن شاء اللّه.
{قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة المعترضين علينا رجما بالغيب المتهمين جنابك بالافتراء إن ما نتلوه عليكم {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام وأضيف إلى القدس أي الطهر كإضافة حاتم الجود وطلحة الخير إضافة بيانية، أي الروح المقدس {مِنْ رَبِّكَ} نزل به عليك {بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ} به {الَّذِينَ آمَنُوا} على إيمانهم فيزدادوا يقينا به {وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} 102 وفي هذه الجملة تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغير المسلمين، واعلم أن من قال بعدم وجود النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وغيره ممن ذكرناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة قال إن هذا التبديل المشار إليه في هذه الآية هو لبعض الأحكام المبينة في التوراة وغيرها من الكتب القديمة، وهو من سنة اللّه القائل على لسان رسوله عيسى بن مريم {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} الآية 51 من آل عمران الآتية في ج 3 والآية 44 من سورة الزخرف المارة.
ومن قال بالنسخ قال هو كتبديل استقبال القبلة بالكعبة وما يضاهي ذلك.
قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} فيما بينهم {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} نزلت هذه الآية عند ما قال المشركون بعضهم لبعض إن محمدا يتعلم ما يتلوه علينا من القصص والأخبار من آدمي مثله، وليس هو كما يزعم أنه من عند اللّه، واختلفوا في الذي يتعلم منه، فمنهم من قال إنه عايش غلام حويطب، ومنهم من قال جبر غلام رومي لعامر الحضرمي، ومنهم من قال إنه بسار، ومنهم من قال إنه سلمان الفارسي أو عداس غلام عتبة بن ربيعة، أو بلعام غلام أيضا، لأنهم كلهم يقرءون، سبب هذه النسبة أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا آذاه المشركون قعد لأحدهم يسمع منه شيئا من القرآن ليستميلهم إلى الإيمان، لأنهم أهل كتاب يعرفون ما جاء في كتبهم مما هو موافق لما جاء في القرآن، وذلك ترويجا للنفس وتسلية لما أهمه من أمر قومه وما يتهمونه به، فكذبهم اللّه تعالى بقوله: {لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ} يميلون عليه ويشيرون {إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} والأعجمي وإن سكن في البادية والحاضرة العربية يعجز أن يتكلم بفصاحة العرب، فضلا عن بلاغة القرآن الذي عجز عن مباراته فصحاء العرب الذين ينزل بلغتهم، وهؤلاء العبيد ليسوا بعرب ولا فصحاء فيستحيل عليهم التكلم بالعربية الفصيحة {وَهذا} القرآن الذي نتلوه عليك يا سيد الرسل هو {لِسانُ} واضح فصيح بليغ {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} يستحيل على جميع الناس النطق بمثله وإذا استحال عليهم النطق به فمن باب أولى أن يستحيل عليهم تعليمه أو الإتيان بمثله فثبت بهذا البرهان أن الذي جاء به محمد هو وحي إلهي ليس من نفسه ولا من تعليم الغير.
وقال بعض العلماء المراد باللسان هو القرآن نفسه لأنه يطلق على القصيدة والكلمة، قال الشاعر: لسان السوء تهديه إلينا

أي كلام السوء وليس بشيء لمخالفته الظاهر.
واعلم يا محمد أن هؤلاء المتقوّلين ضلّال لا يؤمنون بآيات اللّه و{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} لفهمها بالدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة، ثم أشار إليهم بأن محمدا لا يفتري الكذب بقوله: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ} الكفرة {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} المنزلة على رسوله {وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} ومحمد براء ومعصوم مما يتهمونه به.

.مطلب في الكفر والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا:

واعلم أن الكذب من الكبائر لأنه إيجاد ما لم يوجد، روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد اللّه بن جرار قال: قلت يا رسول اللّه المؤمن يزني؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن يسرق؟ قال قد يكون ذلك، قلت المؤمن بكذب؟ قال لا، قال تعالى: {إِنَّما يَفْتَرِي} إلخ.
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ} مختارا طائعا وجب قتله في الدنيا وفي الآخرة هو خالد في جهنم {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} على كلمة الكفر من شخص يتحقق إيقاع الضرر منه فأجرى كلمه الكفر على لسانه تقية كما تجوز موالاة الكفرة تقية على ما يأتي في الآية 39 من آل عمران في ج 3، لأن التوسل لخلاص النفس بلفظ الكفر ظاهرا {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} فلا وزر عليه لأنها رخصة من اللّه تعالى أعتق بها نفسه، وقد تفضل اللّه تعالى على عباده بها واللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا قبلها وأخذ بها فلا بأس عليه، وإذا لم يقبلها ولم يأخذ بها وأبى أن يكفر وقتل من أجل إيمانه فقد أخذ بالعزيمة ولا وزر عليه بل يثاب، لأن الأفضل في مثل هذا أن يؤخذ بالعزيمة لا بالرخصة، لاحتمال عدم القتل، لأن بلالا وصهيبا وخبابا وسالما أوذوا بالضرب والحرق بالنار وألبسوا أدراع الحديد ووضعوا بحر الشمس في تلك البلاد الحارة، وقد وضعت عليهم الأحجار الحارة لإجبارهم على الكفر، فصبروا ولم يكفروا بلسانهم، ثم تركوا ولم يقتلوا وفازوا بخير الدارين، أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
{وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} والعياذ باللّه بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه {فَعَلَيْهِمْ} أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من {غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} في الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة {ذلِكَ} الغضب والعذاب {بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا} وزخارفها وآثروها {عَلَى الْآخِرَةِ} وكفروا بطوعهم واختيارهم {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} ولا يوفقهم للرشد والإيمان {أُولئِكَ} الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ} فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها {وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} عن اللّه وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ} حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار وللّه در القائل: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير ما وجب، هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان باللّه فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة اللّه، رحمهما اللّه رحمه واسعة، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى اللّه عليه وسلم بذلك فقال «كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه»، فجاء وهو يبكي، فقال «ما وراءك؟» قال شرّ، نلت منك يا رسول اللّه أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه، قال «كيف وجدت قلبك؟» قال مطمئنا بالإيمان، فجعل يمسح عينيه وقال «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، فنزلت هذه الآيات.
وهي عامة في كل من هذا شأنه، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها، وإن المكره على الكفر ليس بكافر، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا} فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم {مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا} عذبوا وأوذوا من أجل إيمانهم باللّه {ثُمَّ جاهَدُوا} أنفسهم على التثبت بإيمانهم {وَصَبَرُوا} على ما نالهم من أذى المشركين ومر الغربة وذلّها {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها} أي الفتنة التي ألجأتهم إلى الكلام بما ينافي الإسلام تقية، خشية القتل {لَغَفُورٌ} لهم على ما صدر منهم بالنظر لما وقر في قلوبهم {رَحِيمٌ} بهم لا يؤاخذهم على ما وقع منهم حالة الإكراه، وهذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة أخي أبى جهل من الرضاع وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد اللّه بن أسيد الثقفي، حينما عذبهم المشركون على إيمانهم، فأعطوهم من الكلام القبيح ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم أعلنوا إيمانهم وهاجروا من مكة، وبعد عودتهم من الهجرة بعد نزول آية السيف في المدينة جاهدوا مع المؤمنين أعداءهم الكفرة، وبما أن الجهاد متأخر عن زمن هجرتهم عبّر اللّه تعالى عنه بثم المفيدة للتراخي، وهؤلاء الذوات محميون بحماية اللّه تعالى بدليل قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ} إلخ، ومن كان اللّه له فلا يبالي من شيء، لأنه وليه وناصره، وهذه الآية الثالثة التي يعرض اللّه تعالى بها لنبيه في الهجرة ليتريض إليها ويمرن نفسه عليها.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في عبد اللّه بن أبي سرح الذي ارتد بعد إسلامه كما أشرنا إليه في الآية 193 من الأنعام المارة، وأنه عند فتح مكة شرفها اللّه استجار بعثمان لأنه أخوه لأمه وقبل إسلامه، فقيل ضعيف، لا يكاد يصح، إلا إذا كانت الآية مدنية، والقول بمدنيتها أضعف من القول في نزولها فيه، لأن هذه السورة مكية ولم يستثنى منها إلا الآيات الثلاث الأخيرات على قول الجمهور، لهذا فلا يلتفت إلى غير ما ذكرناه.
قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرسل: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} وتدافع وتخاصم عنها، ونفس الشيء عينه وذاته، فالنفس الأولى جملة الإنسان، والثانية عينه وذاته، فكأنه قيل كل إنسان يجادل عن ذاته لا عن غيره مهما كان قريبا له وحبيبا، لأن انشغاله بنفسه في ذلك الوقت العصيب ينسيه قريبه وحبيبه لعظم ما يشاهد ويلاقي من الهول، فيقول الكافر أضلنا كبراؤنا وأطعنا ساداتنا ما كنا مشركين وما حرمنا ولا حللنا من شيء فيتشبثون بكل ما يمكنهم من طرق الدفاع ليتخلصوا مما حل بهم، ولات حين خلاص، وهذه الآية لا تنافي الآية 84 المارة وهي {ثم لا يؤذن للذين كفروا} إلخ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام، وأخرى يبكون وتارة يجادلون، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {ما عَمِلَتْ} في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} شيئًا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله.

.مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل اللّه على عباده:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا} واسعا كافيا يبسر وسهولة {مِنْ كُلِّ مَكانٍ} كقوله تعالى: {يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1، بدعوة إبراهيم عليه السلام الواردة بالآية 156 من البقرة في ج 3، لأن المراد بالقرية مكة {فَكَفَرَتْ} أهاليها وسكانها {بِأَنْعُمِ اللَّهِ} المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ} الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من {الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} جزاء {بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الآية 60 من سورة العنكبوت الآتية والمراد من قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية، وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم اللّه عليهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله، فأمره اللّه تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة.
وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءهُمْ} أي أهل مكة {رَسُولٌ مِنْهُمْ} يعرفون مكانته قبل النبوة {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ} في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء {وَهُمْ ظالِمُونَ} أنفسهم وغيرهم بالكفر.
قال تعالى: {فَكُلُوا} أيها الناس {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا} وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية 130 من سورة المائدة في ج 3 في تفسيرها، {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} عليكم {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تخصونه وحده بالعبادة {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها ترنجيويس وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة، حتى أن الأميركيين هجروه بتاتا كما يقال، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه، وفضلا عن هذا، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة، ومنه يعلم أن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل {وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وفي الآية 4 من سورة المائدة الآتية {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهي بمعناها {فَمَنِ اضْطُرَّ} لأكل شيء من ذلك {غَيْرَ باغٍ} على الناس {وَلا عادٍ} على نفسه {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج 3 إن شاء اللّه، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية 145 من سورة الأنعام المارة فراجعها {وَلا تَقُولُوا} أيها الناس {لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص اللّه تعالى، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى اللّه تعالى، كما تقدم في الآية 138 من سورة الأنعام المارة.
يدل على هذا قوله جل قوله: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} بل يخيبون ويخسرون، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه {مَتاعٌ قَلِيلٌ} لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب، وفلما ترى المتصافين فيها للّه، قال:
والمرء يخشى من أبيه وأمه ويخونه فيها أخوه وحاره فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة، هذا ما يلاقونه في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} لا تطيقه قواهم {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} هو ما تقدم في الآية 146 من الأنعام المارة، {وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها اللّه كلحوم الإبل وغيرها، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية 160 من النساء في ج 3، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ} كلمة جامعة لكل قبح {بِجَهالَةٍ} غير متدبرين عاقبته ولا معاندين اللّه فيه عصيانا عليه، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال:
وما كانت ذنوبي عن عناد ** ولكن بالشقا حكم القضاء

{ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا، يدل عليه قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} أنفسهم واستقامت أحوالهم {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها} أي التوبة {لَغَفُورٌ} لما سبق منهم {رَحِيمٌ} بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل اللّه، وجليل رحمته، وكبر كرمه، وسعة مغفرته، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو، ومن كان اللّه كفيله فهو تاج رابح، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل اللّه وعفوه في الآية 160 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها.