فصل: (سورة النحل: الآيات 37- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة النحل: الآيات 37- 42]

{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}.

.الإعراب:

{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} إن شرطية وتحرص فعل الشرط وعلى هداهم متعلقان بتحرص أي ترغب فيه، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول به وجملة يضل صلة وقيل جواب الشرط محذوف وجملة فإن اللّه لا يهدي تعليل للجواب والتقدير لا تقدر أنت ولا يقدر أحد على هدايتهم. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} الواو عاطفة وما نافية حجازية ولهم خبر ما مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين اسم ما محلا أو مبتدأ مؤخر ومجرور لفظا. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} وأقسموا فعل وفاعل وباللّه جار ومجرور متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم نصب على المصدرية وقيل مصدر في موضع الحال أي جاهدين والجملة عطف على وقال الذين أشركوا أو استئنافية إخبارية. {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} لا نافية ويبعث اللّه من يموت فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق ومكذب وبلى حرف جواب أي بلى يبعثهم لأنه إثبات لما بعد النفي ووعدا عليه حقا مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى وقيل حقا صفة لوعدا وكذا عليه، وعليه متعلقان بحقا. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الجملة حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} اللام للتعليل ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين ولهم متعلقان بيبين والذي مفعول به وجملة يختلفون صلة وفيه متعلقان بيختلفون. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ} وليعلم عطف على ليبين والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وكاذبين خبر كانوا. {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إنما كافة ومكفوفة وقولنا مبتدأ ولشيء جار ومجرور متعلقان بقولنا وإذا ظرف متعلق بقولنا وجملة أردناه مضافة للظرف وأن ومدخولها مصدر مؤول خبر قولنا وله متعلقان بنقول وكن فعل أمر من كان التامة وجملة كن مقول القول، فيكون: الفاء عاطفة ويكون معطوف على مقدر تفصح منه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول له ذلك فيكون، واما جواب لشرط محذوف فتكون فصيحة أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وسيأتي مزيد بحث عن هذا القول والمقول والأمر والمأمور في باب البلاغة والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير القدرة على البعث أو كيفية التكوين على الإطلاق إبداء وإعادة. {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا} والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة أي انتقلوا من مكة إلى المدينة، ومنهم من هاجر إلى الحبشة فجمع بين الهجرتين وفي اللّه متعلقان بهاجروا وفي للتعليل أي لإقامة دين اللّه ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف إلى بعد، أي من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} اللام موطئة للقسم وجملة نبوئنهم خبر الذين وفي الدنيا حال وحسنة صفة لمصدر محذوف أي تبوئة حسنة فهي نائب مفعول مطلق ولك أن تعربها مفعولا ثانيا لنبوئنهم لتضمن معناه نعطينهم فتكون صفة لمحذوف أي دارا حسنة {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} الواو حالية واللام للابتداء وأجر الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكإن واسمها وخبرها. {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الذين خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا فمحله الرفع أو منصوب على المدح أي أعني الذين صبروا فمحله النصب وجملة صبروا صلة وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع وفاعل.

.البلاغة:

1- إنما:
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} عقد الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز فصلا ممتعا عن إنما ننقل خلاصته، فقد وقف يستلهم معاني إنما ويرى أن الوقوف فيها عند قول النحاة: أنه ليس في انضمام ما إلى إن فائدة أكثر من أنها تبطل عملها خطأ بيّن، وأصل انما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا ينكر صحته أو لما ينزل هذه المنزلة فمن الاول قوله تعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون} فكل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يعقل ما يقال له ويدعى اليه ومثال ما ينزل هذه المنزلة قول ابن الرقيات:
إنما مصعب شهاب من اللـ ** ـه تجلّت عن وجهه الظلماء

وتفيد انما في الكلام الذي بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره وتجعل الأمر ظاهرا فإذا قلت إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن يكون الجائي غيره فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي انك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وتجعل الأمر ظاهرا في أن الجائي زيد.
2- الاستعارة التمثيلية: في قوله: {كن فيكون} فهي استعارة للكينونة تمثل سرعة الإيجاد عند تعلق الارادة وليس هناك أمر حقيقة ولا كاف ولا نون وإلا لو كان هناك أمر لتوجه أن يقال إن كان الخطاب للشيء حال عدمه فلا يعقل لأن خطاب المعدوم لا يعقل وإن كان بعد وجوده ففيه تحصيل الحاصل وإنما القصد منه تصوير سرعة الحدوث بما لا يتجاوز أمده النطق بلفظ كن وما أسهلها.
3- الاخبار عن الماضي بالمستقبل أبلغ من الاخبار بالفعل الماضي وذلك في قوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} فالظاهر أن المعنى على المضي والتعبير بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البديعة حتى كأن السامع يشاهدها وقد تقدم بحثه.

.[سورة النحل: الآيات 43- 47]

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)}.

.اللغة:

{الزُّبُرِ} الكتب جمع زبور بمعنى مزبور.
{تَخَوُّفٍ} تنقص وهو من قولك تخوفته وتخونته إذا تنقصته قال زهير بن أبي سلمى- وقيل هو لأبي كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السفن

والمعنى يأخذهم على أن ينتقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا وعن عمر بن الخطاب أنه سأل عن معنى التخوف في قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} فيقوم له رجل من هذيل ويقول: هذه لغتنا التخوف التنقص قال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم وأنشد البيت الآنف فقال عمر: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.
الصحابة والغريب في القرآن:
بدأت مدرسة الرسول صلى اللّه عليه وسلم تترسّم خطاه في التفسير وتحفظ ما نقل عنه وترويه وقد تتزيد فيه بشرح لفظ غريب وعلى الرغم من هذا لا نعدم بعض الغريب في آيات الكتاب توفقوا عنده من ذلك ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: {وفاكهة وأبّا} فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم؟ ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وفاكهة وأبّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وقد انقسم الصحابة في صدر الإسلام إلى قسمين: متحرج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد اللّه بن عمر وكان عبد اللّه يأخذ على عبد اللّه بن عباس تفسيره القرآن بالشعر، والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا وفسروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب فهمهم الخاص بالمقارنة إلى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي ابن أبي طالب وعبد اللّه بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة إلى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على عبد اللّه بن عباس ويقول:
كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ومن هؤلاء أيضا ابن مسعود وأبي ابن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ويقول أحمد أمين في كتابه الممتع فجر الإسلام ما خلاصته ان هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين كانوا ينهجون منهجا يتلخص في الاسترشاد بحديث رسول اللّه وبروح القرآن وبالشعر العربي والأدب الجاهلي بوجه عام ثم عادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها وما قابلهم من أحداث وما لقي رسول اللّه من عداء ومنازعات وهجرة وحروب.
لمحة عن ابن عباس ومدرسته:
وشق ابن عباس طريقه بين هؤلاء جميعا متزعما مدرسة خاصة تسلطت على التفسير وطبعته بطابعها وقد أورد السيوطي في الإتقان مسائل ابن الأزرق المائة في القرآن وجواب ابن عباس عليها بالشعر مفسرا غريب كل آية ببيت ويقول ابن عباس في تفسير القرآن بالشعر:
إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ويقول:
إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب، وكان إلمام ابن عباس واسعا بلغة القرآن ومعانيه حتى أنه قال: كل القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين وحنانا والأواه والرقيم.
وقد بدأت بمحاولات ابن عباس مدرسة جديدة في التفسير تكشف عن أسلوب القرآن ومعانيه بمقارنته بالأدب العربي شعره ونثره ومهدت هذه المدرسة لقيام حركة واسعة لجمع اللغة والشعر من مضارب الخيام وبوادي العرب ليواجهوا ما في القرآن من الغريب الذي ابتعدت به الشقة عن الحجاز وقلب الجزيرة العربية في العراق وفارس والشام وغيرها من الأمصار الاسلامية وتلقط العلماء ما كانت تجود به ألسنة الأعراب من أمثلة توافق ما يجري في آيات القرآن وكانت هذه الحركة الكبرى سببا في حفظ العربية من الضياع.

.الإعراب:

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} الواو عاطفة ليتناسق الكلام يورد ناحية أخرى من نواحي تعنتهم وإصرارهم على القول: ان اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا، ولك أن تجعلها استئنافية قائمة بنفسها والجملة مسوقة لما ذكرناه، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة. {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الفاء الفصيحة أي إن شككتم فيما ذكر فاسألوا، واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعوله وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه فاسألوا وكإن واسمها وجملة لا تعلمون خبرها. {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} بالبينات يحتمل متعلقات شتى فإما أن يتعلقا بأرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ومثل له الزمخشري بقول القائل: ما ضربت إلا زيدا بالسوط لأن أصله ضربت زيدا بالسوط وإما متعلقان بمحذوف صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالبينات أي مصاحبين لها وإما بأرسلنا مضمرا كأنما قيل بم أرسلوا فقيل بالبينات وإما بنوحي أي نوحي إليهم بالبينات وهناك أوجه أخرى ضربنا عنها صفحا، وأنزلنا عطف على أرسلنا وإليك متعلقان بأنزلنا والذكر مفعول به ولتبين اللام للتعليل وتبين منصوب بأن مضمرة وهو متعلق بأنزلنا وللناس جار ومجرور متعلقان بتبين.
{ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ما مفعول تبين وجملة نزل إليهم صلة ولعلهم لعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف- كما تقدم- يرشد اليه النظم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه ولم يتفكروا في ذلك فكأنه قيل ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات؟ وأمن الذين فعل وفاعل وجملة مكروا صلة والسيئات صفة لمفعول مطلق محذوف أي المكرات السيئات ويجوز أن يكون مفعولا به لأمن أي أمنوا العقوبات السيئات أو منصوبا بنزع الخافض أي مكروا بالسيئات وان يخسف أن وما في حيزها مصدر مفعول أمن على الوجه الأول في السيئات وبدل من السيئات على الوجه الثاني واللّه فاعل يخسف، وبهم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} عطف على أن يخسف ومن حيث حال وجملة لا يشعرون مضافة للظرف.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ} عطف أيضا على أن يخسف وفي تقلبهم حال من المفعول أي حال كونهم متقلبين في الأسفار والمتاجر وأسباب الدنيا والفاء عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} عطف ثالث على أن يخسف وعلى تخوف حال أيضا من الفاعل أو المفعول أي يأخذهم متنقصا إياهم شيئا بعد شيء أو وهم متخوفون والفاء تعليل لما تقدم وإن واسمها واللام المزحلقة ورؤوف خبر إن الاول ورحيم خبر إن الثاني.

.[سورة النحل: الآيات 48- 52]

{أوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}.

.اللغة:

{يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} تفيأ الظل تقلب وانتقل من جانب إلى آخر والمصدر التفيؤ من فاء يفيء إذا رجع، وفاء لازم فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة كقوله تعالى: {ما أفاء اللّه على رسوله} أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيها فهو لازم واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو ينسجم مع الآية وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده فالفيء لا يكون إلا في العشي وهو ما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله، وفي القاموس والتاج وغيرهما: الظل: الفيء والجمع ظلال وأظلال وظلول وظل الليل سواده، يقال أتانا في ظل الليل، قال ذو الرمة:
قد أسعف النازح المجهول مسعفه ** في ظل أخضر يدعو هامة البوم

وهو استعارة لأن الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل وقال أصحاب العلم: الظل مطلقا هو الضوء الثاني ومعنى ذلك أن النير إذا ارتفع عن الأفق استضاء الهواء بإثبات الشعاع فيه فهذا هو الضوء الأول فإذا حجب هذا الضوء حاجب كان ما وراء ذلك الحاجب ضوءا ثانيا بالنسبة إلى الضوء الاول لأنه مستفاد منه وهذا الضوء الثاني هو الظل وقد أوحى خيال الظل إلى الشعراء طرائف بديعة فمن ذلك قول المناوي في راقصة:
إذا ما تغنت قلت: سكرى صبابة ** وإن رقصت قلنا احتكام مدام

أرتنا خيال الظل والستر دونها ** فأبدت خيال الشمس وهو غمام

وذكر ابن قتيبة في كتابه أدب الكاتب ما نصه: يذهب الناس إلى أن الظل والفيء واحد وليس كذلك لأن الظل يكون من أول النهار إلى آخره، ومعنى الظل الستر والفيء لا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما كان قبل الزوال فيء وانما سمي فيئا لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق والفيء الرجوع قال اللّه تعالى: {حتى تفيء إلى أمر اللّه} أي ترجع.
{الشَّمائِلِ}: جمع شمال أي عن جانبيهما أول النهار وآخره قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس إلى الغروب كان ظلك عن يسارك.
{داخِرُونَ} خاضعون صاغرون.