فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن فضح كذبهم.. في أنهم لا يمكن أن يتمنوا الموت لأنهم ظالمون.. وماداموا ظالمين فالموت أمر مخيف بالنسبة لهم.. وهم أحرص الناس على الحياة.. حتى إن حرصهم يفوق حرص الذين أشركوا.. فالمشرك حريص على الحياة لأنه يعتقد أن الدنيا هي الغاية.. واليهود أشد حرصا على الحياة من المشركين لأنهم يخافون الموت لسوء أعمالهم السابقة.. لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون عن عذاب الآخرة.. الحياة لا تجعلهم يواجهون العذاب ولذلك فهم يفرحون بها.
إن اليهود لا يبالون أن يعيشوا في ذلة أو في مسكنة.. أو أي نوع من أنواع الحياة.. المهم أنهم يعيشون في أي حياة.. ولكن لماذا هم حريصون على الحياة أكثر من المشركين؟ لأن المشرك لا آخرة له فالدنيا هي كل همه وكل حياته.. لذلك يتمنى أن تطول حياته بأي ثمن وبأي شكل.. لأنه يعتقد أن بعد ذلك لا شيء.. ولا يعرف أن بعد ذلك العذاب.. واليهود أحرص من المشركين على حياتهم.
وقوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}.. الود هو الحب.. أي أنهم يحبون أن يعيشوا ألف سنة أو أكثر.. ولكن هب أنه عاش ألف سنة أو حتى أكثر من ذلك.. أيزحزحه هذا عن العذاب؟ لا.. طول العمر لا يغير النهاية.
فمادامت النهاية هي الموت يتساوى من عاش سنوات قليلة ومن عاش ألوف السنين.
قوله تعالى: {يعمر} بفتح العين وتشديد الميم يقال عنها إنها مبنية للمجهول دائما.. ولا ينفع أن يقال يعمر بكسر الميم.. فالعمر ليس بيد أحد ولكنه بيد الله.. فالله هو الذي يعطي العمر وهو الذي ينهيه.. وبما أن العمر ليس ملكا لإنسان فهو مبني للمجهول.. والعمر هو السن الذي يقطعه الإنسان بين ميلاده ووفاته.. ومادة الكلمة مأخوذة من العمار لأن الجسد تعمر الحياة. وعندما تنتهي يصبح الجسد أشلاء وخرابا.
قوله تعالى: {ألف سنة}.. لماذا ذكرت الألف؟ لأنها هي نهاية ما كان العرب يعرفونه من الحساب.
ولذلك فإن الرجل الذي أسر في الحرب أخت كسرى فقالت كم تأخذ وتتركني؟ قال ألف درهم.. قالوا له بكم فديتها؟ قال بألف.. قالوا لو طلبت أكثر من ألف لكانوا أعطوك.. قال والله لو عرفت شيئا فوق الألف لقلته.. فالألف كانت نهاية العد عند العرب.. ولذلك كانوا يقولون ألف ألف ولم يقولوا مليونا.
وقوله تعالى: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر}.. معناها أنه لو عاش ألف سنة أو أكثر فلن يهرب من العذاب.
وقوله تعالى: {والله بصير بما يعملون}.. أي يعرف ما يعملونه وسيعذبهم به سواء عاشوا ألف سنة أو أكثر أو أقل. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}.
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} قال: اليهود {ومن الذين أشركوا} قال: الأعاجم.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} يعني اليهود {ومن الذين أشركوا} وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما صنع ما عنده من العلم {وما هو بمزحزحه} قال: بمنجيه.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس في قوله: {يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة} قال: هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم زه هزا رسال يعني ألف سنة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وما هو بمزحزحه} قال: هم الذين عادوا جبريل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
هذه اللام جواب قسم محذوف، والنون للتوكيد تقديره: والله لتجدنّهم.
ووجد هنا متعدية لمفعولين أولهما لضمير، والثاني {أحرص}، وإذا تعدّت لاثنين كانت: كعلم في المعنى، نحو: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102].
ويجوز أن تكون متعدية لواحد، ومعناها معنى لقي وأصاب، وينتصب {أحرص} على الحال، إما على رأي مَنْ لا يشترط التنكير في الحال، وإما على رأي من يرى أنَّ إضافة أفعل إلى معرفة غير مَحْضَةٍ، و{أحرص} أفعل تفضيل، ف {مِنْ} مُرادَةٌ معها، وقد أضيفت لمعرفة، فجاءت على أحد الجائزين، أعني عدم المُطَابقة، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحو الزَّيدان أفضلا الرجال، والزيدون أفاضل الرجال، وهند فُضْلى والهنود فُضْليات النِّسَاء ومن قوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] وعدمها، نحو: الزيدون أفضل الرجال، وعليه هذه الآية، وكلا الوجهين فصيح خلافًا لابن السّراج.
وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها، ولذلك منع النحويون يُوسُفُ أحسن إخوته على معنى التفضيل، وتأولوا ما يوهم غيره نحو: النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَلاَ بَنِي مَرْوَانَ بمعنى العَادِلاَنِ فيهم؛ وأما قوله: الرجز:
يَارَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ** فَاصْبُبْ عَلَيْهِ مَلكًا لاَ يَرْحَمُهْ

فشاذٌّ، وسوغ ذلك كون أظلم الثاني مقتحمًا كأنه قال: أَظْلَمُنَا.
وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41].
قوله تعالى: {على حَيَاةٍ} متعلّق بت {أَحْرَصَ} لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب {على} تقول: حرصت عليه.
والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً، وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قرأءة أبيّ {على الحياة} بالتعريف.
وقيل: إن ذلك على حذف مضاف تقديره: على طول الحياة، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف، بل يكون المعنى: أنهم أحرص النَّاس على مطلق الحياة.
وإن قلت: فيكف وإن كثرت، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك، وأصل حياة حَيَيَة تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا.
قوله: {ومِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا} يجوز أن يكون متصلًا داخلًا تحت أفعل التفضيل ويجوز أن يكون منقطعًا عنه وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه حمل علكى المعنى، فإن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس، فكأنه قيل: أحرص من النّاس، ومن الذين أشركوا.
الثاني: أن يكون حذف من الثَّاني لدلالة الأولى عليه، والتقدير: وأحرص من الذين أشركوا، وعلى ما تقرر من كون {مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا} متّصلًا بأفعل التفضيل، فلابد من ذكر من؛ لأن {أحرص} جرى على اليهود، فلو عطف بغير من لكان معطوفًا على النَّاس، فيكون المعنى: ولتجدنَّهم أحرص الذين أشركوا، فيلزم إضافة أفعل إلى غير من درج تحته؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم: إنهم المجوس، أو عرب يعبدون الأصنام، اللّهم إلا أن يقال: إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، فحينئذ لو لم يؤت بمن لكان جائزًا.
الثالث: أن في الكلام حذفًا وتقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس، فيكون من {مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا} صفة لمحذوف، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في {لتجدّنهم} وهذا وإن كان صحيحًا من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيب لاسيما على قول من يَخُصُّ التقديم والتأخير بالضرورة.
وعلى القول بانقطاعه من أفعل يكون {من الذين أشركوا} خبرًا مقدمًا، و{يودّ أحدهم} صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، وقوله:
منَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أقَامَ

والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزَّمخشري أن يكون من اليهود؛ لأنهم قالوا: عزيزٌ ابن الله، فيكون أخبارًا بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة، ويكون من وقوع الظَّاهر المشعر بالغَلَبَةِ موقع المضمر، إذ التقديرك ومنه قوم يودّ أحدهم.
وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول {من الَّذِين أَشْرَكُوا} تحت أفعل ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع.
قوله: {يودّ أحدهم} هذا مبني على ما تقدّم، فإن قيل بأن {من الذين أشركوا} داخل تحت أفعل كان في {يود} خمسة أوجه:
أحدها: أنه حال من الضمير في {لتجدنّهم} أي: لتجدنهم وَادًّا أحدهم.
الثاني: أنه حال من الذين أشركوا، فيكون العامل فيه {أحرص} المحذوف.
الثالث: أنه حال من فاعل {أشركوا}.
الرابع: أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
الخامس: وهو قول الكوفيين: أنه صلة لموصول محذوف، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم.
وإن قيل بالانقطاع، فيكون في محلّ رفع؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى أصل {يَوَدُّ} يَوْدَدُ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل.
وحكى الكسائي: وَدَدْتُ، فيجوز على هذا يَوِدُّ بكسر الواو وأحد هنا بمعنى واحد، وهمزته بدل من واو، وليس هو أحد المستعمل في النفي، فإن ذاك همزته أصل بنفسها، ولا يستعمل في الإيجاب المحض.
و{يود} مضارع وَدِدْت بكسر العين في الماضي، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، بخلاف يعد وبابه.
وحكى الكسائي فيه وَدَدْتُ بالفتح.
قال بعضهم: فعلى هذا يقال: {يودّ} بكسر الواو.
والوِدَادُ: التمني.
قوله: {لو يعمّر} في {لو} هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الجاري على قواعد نحاة البصرة أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف لدلالة {يَوَدُّ} عليه، وحذف مفعول {يَوَدُّ} لدلالة {لو يعمّر} عليه والتقدير: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر ألف سنة لَسُرَّ بذلك، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.
والثاني: وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء، أنها مصدرية بمنزلة أن الناصبة، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها وما بعدها مصدر يكون مفعولًا ل {يودّ}، والتقدير: يود أحدهم تعميره ألف سنة.
واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يلزمها المستقل ك أنْ وبأنّ {يَودّ} يتعدى لمفعول، وليس مما يُعَلق، وبأن أنْ قد وقعت يعد {يود} في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] وهو كثير، وجوابه في غير هذا الكتاب.
الثالث: وإليه نحا الزمخشري: أن يكون معناها التمني، فلا تحتاج إلى جواب؛ لأنها في قوة: يا ليتني أُعَمَّرُ، وتكون الجملة من {لو} وما حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب {يود} إجراء له مجرى القول.
قال الزمخشري رحمه الله تعالى: فإن قلت: كيف اتّصل {لو يعمر} ب {يود أحدهم}؟
قلت: هي حكاية لودادتهم و{لو} في معنى التمنّي، وكان القياس لو أُعَمَّر إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله: {يود أحدهم}، كقولك: حلف بالله تعالى ليفعلن انتهى وقد تقدّم شرحه، إلاّ قوله وكان القياس لو أعمر، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسندًا للمتكلم وحده، وإنما أجرى {يود} مجرى القول؛ لأن {يود} فعل قَلْبي، والقول ينشأ عن الأمور القلبية و{ألف سنة} منصوب على الظرف ب {يعمر}، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل، وفي {سنة} قولان:
أحدهما: أن أصلها: سنوة لقولهم: سنوات وسُنَيَّة وسَانَيْت.
والثاني: أنها من سَنَهَة لقولهم: سَنَهَاتٌ وسُنَيْهَةٌ وسَانَهْتُ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك.
قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} في هذا الضمير خمسة أقوال:
أحدها: أنه عائد على أحد وفيه حينئذ وجهان:
أحدهما: أنه اسم ما الحجازية، و{بمزحزحه} خبر ما فهو محل نصب والباء زائدة.
و{أن يعمر} فاعل بقوله: {بمزحزحه} والتقدير: وما أحدهم مزحزحهُ تَعْمِيرُه.
الثاني: من الوجهين في {هو}: أن يكون مبتدأ، و{بمزحزحه} خبره، و{أن يعمر} فاعل به كما تقدمن وهذا على كون {ما} تميمية، الوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز، وظهور النصب في قوله: {مَا هذا بَشَرًا} [يوسف: 31]، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2].
الثاني: من الأقوال: أن يعود على المصدر المفهوم من {يُعَمَّر}، أى: وما تعميره، ويكون قوله: {أن يعمر} بدلًا منه، ويكون ارتفاع {هو} على الوجهين المتقدمين أي قوله: اسم {ما} أو متبدأ.
الثالث: أن يكون كناية عن التعمير، ولا يعود على شيء قبله، ويكون {أن يعمّر} بدلًا منه مفسرًا له، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل، وهذا مُفَسَّرٌ بالبدل بعده، وقد تقدم أن في ذلك خلافًا، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون {هو} مبهمًا، و{أن يعمر} موضحه.
الرابع: أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في الحلبيَّات موافقة للكوفيين، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد مَعْنوي، نحو: ظننته قائمًا الزيدان، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة: ظننته يقوم الزيدان، وما هو يقوم زيد، والبصريون يأبون تفسيره إلاَّ بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر، وقد تقدم تحقيق القولين.
الخامس: أنه عماد، نعني به الفصل عن البصريين، نقله ابن عطيّة عن الطَّبري عن طائفة، وهذا يحتاج إلى إيْضَاحن وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العِمَاِ مع الخبر المقدم، يقولون في زيد هو القائم: هو القائم زيد، وكذلك هنا، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون {بمزحزحه} خبرًا مقدمًا و{أن يعمر} مبتدأ مؤخرًا، و{هو} عماد، والتقدير: وما تعميره وهو بمزحزحه، فلما قدم الخبر قدم معه العماد.
والبصريون لا يجيزون شيئًا من ذلك.
و{من العذاب} متعلّق بقوله: {بمزحزحه} و{من} لابتداء الغاية والزحزحة: التَّنحية، تقول: زحزحته فَزَحْزَح، فيكون قاصرًا ومتعديًا فمن مجيئه متعديًا قوله: البسيط:
يَا قَابِضَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتَضَرَتْ ** وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ

وأنشده ذو الرُّمَّة: البسيط:
يَا قَابِضَ الرُّوح مِن جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا

ومن مجيئه قاصرًا قول الآخر: الطويل:
خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لاَ يُزَحْزَحُ ** وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ

قوله: {أَنْ يُعَمَّرَ}: إما أن يكون فاعلًا أو بدلًا من {هو}، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في {هو}.
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأ وخبر، و{بما} يتعلّق ببصير.
وما يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: يعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: بعملهم.
والجمهور {يعملون} بالياء، نسقًا على ما تقدم، والحسن وغيره {تعملون} بالتاء، وللخطاب على الالتفات، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه محيطًا بأعمالهم السَّالفة مراعاة لرءوس الآي، وختم الفواصل.
قال ابن الخطيب: والبصير قد يراد به العليم، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصحّان عليه سبحانه إلاَّ أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة.
قال العلماء رحمهم الله تعالى: وصف الله تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيَّات الأمور، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به.
ومنه قولهم: فلان خبير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بُمَلاَقاةِ الرجال.
وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة. اهـ. باختصار.