فصل: قال الثعالبى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال صاحب اللوامح: الزهري دف بضم الفاء من غير همز، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة.
ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفًا.
وقال مجاهد: ومنافع الركوب، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عليها، وغير ذلك.
وأفرد منفعة الأكل بالذكر، كما أفرد منفعة الدفء، لأنهما من أعظم المنافع.
وقال الزمخشري: فإن قلت: تقدم الظرف في قوله: {ومنها تأكلون} مؤذن، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به، وكالجاري مجرى التفكه.
وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص.
وقد رددنا عليه ذلك في قوله: {إياك نعبد} والظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك: إذا أكلت من الرغيف.
وقال الزمخشري: ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر، والحب والثمار التي تأكلونها منها، وتكتسبون بإكراء الإبل، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى.
فعلى هذا يكون التبعيض مجازًا، أو تكون من للسبب.
الجمال مصدر جمل بضم الميم، والرجل جميل، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع ** بزت الخلق جميعًا بالجمال

ويطلق الجمال ويراد به التجمل، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد.
والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر، ويلقيه في ألقاب، فتتعلق به النفس من غير معرفة.
وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة: كالعلم، والعفة، والحلم، وفي الأفعال: بوجودها ملائمة لمصالح الخلق، وجلب المنفعة إليهم، وصرف الشر عنهم.
والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة، والمعنى: أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا، وكونه فيها من أهل السعة، فمنّ الله تعالى بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع الضروري، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها، والعرب تفتخر بذلك.
ألا ترى إلى قول الشاعر:
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم ** مرابط للإمهاز والعكر الدثر

أحب إلينا من أناس بقنة ** يروح على آثار شائهم النمر

والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين، والجمع عكر.
والدثر الكثير، ويقال: أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى، وسرحها يسرحها سرحًا وسروحًا أخرجها غدوة إلى المرعى، وسرحت هي يكون متعديًا ولازمًا، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة.
وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر، بخلاف وقت سرحها، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء، فيأتنس أهلها، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} وقوله تعالى: {زُين للناس حب الشهوات} ثم قال تعالى: {والأنعام والحرث} وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: حينًا فيهما بالتنوين، وفك الإضافة.
وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله: {واتقوا يومًا لا تجزى} ويكون العامل في حينًا على هذا، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار. اهـ.

.قال الثعالبى:

قوله سبحانه: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
ال {دِفْء} السَّخَانة، وذَهَاب البَرْد بالأَكْسِيَة ونحوها، وقيل: ال {دِفْءٌ} تناسُلُ الإِبل، وقال ابن عَبَّاس: هو نسْلُ كلِّ شيء، والمعنى الأول هو الصحيحُ، وال {منافع} ألبانها وما تصرَّف منها، وحَرْثُها والنَّضْح عليها وغَيْر ذلك.
وقوله: {جَمَالٌ}، أي: في المَنْظَر، و{تُرِيحُونَ} معناه: حين تردُّونها وقْتَ الرَّوِاح إِلى المنازلِ، و{تَسْرَحُونَ} معناه: تخرجُونها غُدْوة إِلى السَّرْح، والأثْقَالُ: الأمتعة، وقيل: الأجسام؛ كقوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]. أي: أجسادَ بني آدم، وسمِّيت الخيلُ خيلًا؛ لاختيالها في مِشْيتها.
ت: ويجبُ على من ملكه اللَّه شيئًا من هذا الحيوانِ أنْ يَرْفُقَ به، ويشْكُر اللَّه تعالى على هذه النعمة التي خَوَّلها، وقد رَوَى مالك في الموطَّأ عن أبي عُبَيْدٍ مولى سليمانَ بْنِ عبدِ المَلِكِ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ يرفعه، قال: «إِن اللَّه رفيقٌ يحبُّ الرِّفْق، ويرضَاهُ، ويعينُ عليه ما لاَ يُعِينُ على العُنْف، فإِذا ركبتم هذه الدوابَّ العُجْمَ، فأنزلوها منازِلَهَا، فإِنْ كانَتِ الأرض جَدْبةً، فانجوا عليها بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بسير اللَّيْلِ؛ فَإِن الأرض تُطْوَى باللَّيْلِ ما لا تُطْوَى بالنهار، وإِياكم والتَّعْرِيسَ على الطريقِ؛ فإِنها طُرُق الدَّوابِّ، ومأوى الحَيَّات». قال أبو عمر في التمهيد: هذا الحديث يستندُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ، فأمَّا الرفْقُ فمحمودٌ في كلِّ شيء، وما كان الرفْقُ في شيء إِلاّ زانه، وقد رَوَى مالك بسنده عن عائشة، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»، وأُمِرَ المسافرُ في الخِصْبِ بأنْ يمشي رويدًا، ويكثر النزول، لترعَى دابته، فأَما الأرْضُ الجَدْبة، فالسُّنَّة للمسافِرِ أَنْ يُسْرُع السيْر؛ ليخرجَ عنها، وبدابَّته شيءٌ من الشَّحْم والقُوَّة، والنِّقْي في كلام العرب: الشَّحْم والوَدَك. انتهى.
وروَى أبو داود عن أبي هُرَيْرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بِالغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فاقضوا حَاجَاتِكِمْ» انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال: {خَلَقَ الإنسان} أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه {مِن نُّطْفَةٍ} جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ، سيالٍ لا يحفظ شكلًا ولا وضعًا {فَإِذَا هُوَ} بعد الخلق {خَصِيمٌ} مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم {مُّبِينٌ} لحجته لقِنٌ بها، وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه، أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ: {مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة. روي أن أُبيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي أتى النبيَّ عليه السلام بعظم رميم فقال: يا محمد أترى الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ فنزلت {والانعام} وهي الأزواجُ الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعَزِ، وانتصابُها بمضمر يفسره قوله تعالى: {خَلَقَهَا} أو بالعطف على الإنسان، وما بعده بيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك، وقوله تعالى: {لَكُمْ} إما متعلقٌ بخلَقها، وقوله: {فِيهَا} خبرٌ مقدم، وقوله: {دِفْء} مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد، والجملةُ حالٌ من المفعول أو الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور، وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة {ومنافع} هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك، وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك، وتغييرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحقِ، فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها، ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل، وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبيل التفكّه مع أن فيه مراعاةً للفواصل، ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها.
{وَلَكُمْ فِيهَا} مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية {جَمَالٌ} أي زينةٌ في أعين الناس ووَجاهةٌ عندهم {حِينَ تُرِيحُونَ} ترُدّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} تخرِجونها بالغداة من حظائرها إلى مسارحها، فالمفعول محذوفٌ من كلا الفعلين لرعاية الفواصل، وتعيينُ الوقتين لأن ما يدور عليه أمرُ الجمال من تزين الأفنية والأكنافِ بها وبتجاوب ثُغائها ورُغائها إنما هو عند ورودِها وخطورها في ذينك الوقتين، وأما عند كونِها في المراعي فينقطع إضافتُها الحسية إلى أربابها، وعند كونِها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظرٌ، وتقديمُ الإراحةِ على السَّرْح لتقدم الورودِ على الصدور ولكونها أظهرَ منه في استتباع ما ذُكر من الجمال وأتمَّ في استجلاب الأنسِ والبهجة إذ فيها حضورٌ بعد غَيبة وإقبالٌ بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطونِ مرتفعةَ الضلوع حافلةَ الضروع، وقرئ {حينًا تريحون وحينًا تسرحون} على أن كِلا الفعلين وصفٌ لحينًا، بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه. اهـ.

.قال الألوسي:

{خَلَقَ الإنسان} أي هذا النوع غير الفرد الأول منه {مِن نُّطْفَةٍ} أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلًا ولا وضعًا {فَإِذَا هُوَ} بعد الخلق من ذلك {خَصِيمٌ} منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر.
{مُّبِينٌ} مظهر للحجة لقن بها؛ وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: {مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضى لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان الثاني قلنا: إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطًا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرى الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضى هو الفاعل المختار أيضًا جل شأنه وأيضًا إلى النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائمًا مع إمكان غيره علمان أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم ولا يصح أن يقال: إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه.
وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الام ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل: انسب بمقام تعداد هنات الكفرة فانه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مقله: {قَالَ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. فإنه فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]. فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله: {تعالى عَمَّا يشركون} [النحل: 3]. ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال: يا محمد أتوى ان الله تعالى يحيي هذا بعد ما قدرم فنزلت نظير ما في آخر يس، والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه: {فَإِذَا هُوَ} إلى آخره مع أن كونه خصيمًا مبينًا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم.
{وَالأنْعَامَ} وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والأن والمعز، قال الراغب: ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى: {خَلَقَهَا} وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرئ به في الشواذ أو على العطف على {الإنسان} [النحل: 4]، وما بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك، وقوله سبحانه: {لَكُمْ} إما متعلق- بخلقها- وقوله تعالى: {فيها} خبر مقدم وقوله جل وعلا: {دفءٌ} مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار، وقيل: حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ، وقيل: حال من {دفء} إذ لو تأخر لكان صفة، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائمًا في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع، وجوز أبو البقاء أيضًا أن يرتفع {دفء}- بلكم- أو- بفيها- والجملة كلها حال من الضمير المنصوب، وتعقبه أبو حيان أيضًا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد، ونقل أنهم جوزوا أن يكون {لكم} متعلقًا- بخلقها- وجملة {فيها دفء} استئناف لذكر منافع الأنعام، واستظهر كون جملة {لكم فيها جمال} فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند {خلقها} لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال: إن قوله تعالى: {خلقها لكم} بناء على تفسير الزمخشري له بقوله: ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه: {فإذا هو خصيم مبين} [النحل: 4]. لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه، وأما الحصر المشار إليه بقوله: ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة للاختصاصسيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز والاختصاص، وهذا أولى من جعل {لكم فيها دفء} مقابل {لكم فيها جمال} [النحل: 6]. لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون {فيها دفء} تفصيلًا للأول وكرر {لكم} في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع اه، والحق في دعوى أولوية تعلق {لكم} بما قبله معه كما لا يخفى.