فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والدفْ اسم لما يدفأ به أي يسخن، وتقول العرب دقىء يومنا فهو دفىء إذا حصلت فيه سخونه ودفىء الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على إدفاء، والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضًا أنه نسل كل دابة، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول.
وقرأ الزهري وأبو جعفر: {دفء} بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجه ذلك في {البحر} بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {دفء} بنقل الحركة والحذف دون تشديد، وفي اللوامح: قرأ الزهري {دفء} بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا.
واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا.
{وَمَنَافع} هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى {وَمنْهَا تَأْكُلُونَ} أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك- فمن- تبعيضية، والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان، وجوز أن تكون {من} ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازًا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلًا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من من اكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع، وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل، وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضًا، والحاصل أن الحصر إضافي وبذلك لا يرد أيضًا أكل الخبز والبقول ونحوها، ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل، وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقًا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة.
{وَلَكُمْ فِيهَا} مع ما ذكر من المنافع الضرورية {جَمَالٌ} زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم، والمشهور اطلاقه على الحسن الكثير، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في الأصل مصدر جمل بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع ** بذت الخلق جميعًا بالجمال

ورأى بعضهم اطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد {حِينَ تُرِيحُونَ} أي تردونها بالعشى من المرعى إلى مراحها يقال: أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال: سرحها يسرحها سرحًا وسروحًا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الا فنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية التي أربابها، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر.
وتقديم الا راحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع.
وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري {حينا} فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} [البقرة: 48]. أي حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه، والعامل في {حِينٍ} أما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل واما خبره لما فيه من معنى الاستقرار.
وجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف وقع صفة لجمال. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الإنسان من نطفة، وهي مني الرجل ومني المرأة. بدليل قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2]. أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة.
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط: من ماء الرجل وماء المرأة، وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} قال: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول:
كأن الريش والفوقين منه ** خلال النصل خالطه مشيج

ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي، وأنشده هكذا:
كأن النصل والفوقين منها ** خلال الريش سيط به مشيج

قال: ورواه المبرد:
كأن المتن والشرجين منه ** خلاف النصل سيط به مشيج

قال: ورواه أبوعبيدة:
كأن الريش والفوقين منها ** خلال النصل سيط به مشيج

ومعنى سيط به مشيج: خلط به الخلط.
إذا عرفت معنى ذلك، فاعلم أنه تعاى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفةن منه ما هو خارج منالصلب، أي وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو ماء المرأة، وذلك قوله جل وعلا: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} [الطارق: 5-7]. لأن المراد بالصلب الرجل وهو ظهره، والمراد بالترائب ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها، ومنه قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء مفاضة ** ترائبها مصقوله كالسجنجل

واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل أو ابن ربيعة:
والزعفران على ترائبها ** شرقا به اللبات والنحر

فقوله هنا {من بين الصلب والترائب} يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]. تنبيه له على حقارة ما خلق منه. ليعرف قدره، ويترك التكبر والعتو، ويدل لذلك قوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20]. الآية.
وبين جل وعلا حقارته بقوله: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 38-39]، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله: {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} فيه غاية تحقير ذل الأصل الذي خلق منه الإنسان، وفي ذلك أظم ردع، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم.
وقوله جل وعلا: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 4]. أظهر القولين فيه: أنه ذم للإنسان المذكور، والمعنى: خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع. ففاجأ بالخصومة والتكذيب، كما تدل عليه {إذا} الفجائية، ويوضح هذا المعنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. مع قوله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77-79]، وقوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 54-55]، وقوله: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66-67]. إلى غير ذلك من الآيات، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة لهذا المبحث في سورة الطارق.
تنبيه:
اختلف علماء العربية في {إذا} الفجائية. فقال بعضهم: هي حرف، وممن قال به الأخفش. قال ابن هشام في المغني: ويرجح هذا القول قولهم: خرجت فإذا إن زيدًا بالباب بكسر إن لأن {إن} المكسورة لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقال بعضهم: هي ظرف مكان، وممن قال به المبرد، وقال بعضهم: هي ظرف زمان، وممن قال به الزجاج، والخصيم: صيغة مبالغة، أي شديد الخصومة، وقيل الخصيم المخاصم، وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب، كالقعيد بمعنى القاعد، والجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، ونحو ذلك.
وقوله: {مبين} الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة، بمعنى بان وظهر. اي بين الخصومة، ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير.
إذا آباؤنا وأبوك عدوا ** أبان المقرفات من العراب

أي ظهر، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها ** لأبان من آثارهن حدور

يعنى لظهر من آثارهن وروم في الجلد، وقيل: من أبان المتعدية والمفعول محذوف. أي مبين خصومته ومظهر لها، والعلم عند الله تعالى.
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعوم بها تفضلًا منه علهيم، وقد قدمنا في آل عمران أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي الذكر والأنثى من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، والمراد بالدفء على أظهر القولين: أنه اسم لما يدفأ به، كالملء اسم لما يملأ به، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها..
ويدل لهذا قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ} [النحل: 80]، وقيل: الدفء نسلها، والأول أظهر، والنسل داخل في قوله: {وَمَنَافِعُ} أي نسلها ودرها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
ومنافع الأنعام التي بين الله جل وعلا امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الآية الكريمة، بينها لهم ايضًا في آيات كثيرة، كقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 21-22]، وقوله: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} [غافر: 79-81]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71-73]، وقوله: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 21-14]، وقوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]. إلى غير ذلك من الآيات.
والأظهر في إعراب {والأنعام} أن عامله وهو {خلق} اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبًا يفسره {خلق} المذكور، على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
فالسابق انصبه بفعل أضمرا ** حتما موافق لما قد أظهر

وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع لأن امعطوف على معمول فعل، وهو قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} [النحل: 4]. الآية، فيكون عطف الجملة الفعليه على الجملة الفعليه أولى من عطف الإسمية على الفعليه لو رفع الاسم السابق، وإلى أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفًا على ما يختار فيه النصب:
وبعد عاطف بلا فصل على ** معمول فعل مستقر أولا

وقال بعض العلماء: إن قوله: {والأنعام} معطوف على {الإنسان} من قوله: {خَلَقَ الإنسان} والأول أظهر كما ترى.
وأظهر أوجه الإعراب في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أن قوله: {دِفْءٌ} مبتدأ خبره {لَكُمْ فِيهَا} وسوغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف.
خلافًا لمن زعم أن {دِفْءٌ} فاعلى الجار والمجرور الذي هو {لكم}.
وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركننا ذكرها لعدم اتجاها عندنا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6]. يعني أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال. أي عظمة ورفعة، وسعادة في الدنيا لمقتنيها، وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. فعبر في الأنعام بالجمال، وفي غيرها بالزينة، والجمال: مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة، ويقال أيضًا: هي جملاء، وأنشد لذلك الكسائي قوله الشاعر:
فهي جملاء كبدر طالع ** بذت الخلق جميعًا بالجمال

والزينة: ما يتزين به، وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك كالسلاح، ولا تفتخر بالبقر والغنم، ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم:
واذكر بلاء سليم في مواطنها ** ففي سليم لأهل الفخر مفتخر

قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا ** دين الرسول وأمر الناس مشتجر

لا يغرسون فسيب النخل وسطهم ** ولا تخاور في مشتاهم البقر

إلا سوابح كالعقبان مقربة ** في دارة حولها الأخطار والعكر

والسوابح: الخيل، والمقربة: المهيأة المعدة قريبًا، والأخطار: جمع خطر- بفتح فسكون- وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره، والعكر- بفتحتين-: جمع عكرة، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضًا على اختلاف في تحديد قدره، وقول الآخر:
لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم ** مرابط للأمهار والعكر الدثر

أحب إلينا من أناس بقنة ** يروح على آثا شائهم النمر

وقوله: العكر الدثر أي المال الكثير من الإبل، وبدأ بقوله: {حِينَ تُرِيحُونَ} [النحل: 6]. لأنها وقت الرواح أملأ ضروعًا وبطونًا منها وقت سراحها للمرعي.
وأظهر أوجه الإعراب في وقوله: {وَزِينَةً} [النحل: 8]. أنه مفعول لأجله، معطوف على ما قبله. اي لأجل الركوب والزينة. اهـ.