فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان أكثر الخلق ضالًا، كان ربما توهم متوهم أنه خارج عن الإرادة، فنفي هذا التوهم بقوله- عطفًا على ما تقديره: فمن شاء هداه قصد السبيل، ومن شاء أسلكه الجائر، وهو قادر على ما يريد من الهداية والإضلال-: {ولو شاء} هدايتكم {لهداكم أجمعين} بخلق الهداية في قلوبكم بعد بيان الطريق القصد، ولكنه لم يشأ ذلك فجعلكم قسمين.
ولما كان ما مضى كفيلًا ببيان أنه الواحد المختار، شرع يوضح ذلك بتفصيل الآيات إيضاحًا يدعه في أتم انكشاف في سياق معدّد للنعم مذكر بها داع إلى شكرها، فقال بعد ما دل به من الإنسان وما يليه في الشرف من الحيوان مبتدئًا بما يليهما في الشرف من النبات الذي هو قوام حياة الإنسان وما به قوام حياته من الحيوان: {هو} لا غيره مما تدعي فيه الإلهية {الذي أنزل} أي بقدرته الباهرة {من السماء} قيل: نفسها.
وقيل: جهتها، وقيل: السحاب- كما هو مشاهد {ماء} أي واحدًا تحسونه بالذوق والبصر {لكم منه} أي خاصة {شراب} ظاهر على وجه الأرض من العيون والأنهار والغدران وغيرها.
ولما كان أول ما يقيم الآدمي شراب اللبن الناشىء عن الماء فقدمه، أتبعه ما ينشأ منه أشرف أغذيته وهو الحيواني، فقال تعالى: {ومنه شجر} لسريانه في الأرض الواحدة واختلاطه بها، فينعقد من ذلك نبات {فيه تسيمون} أي ترعون على سبيل الإطلاق ليلًا ونهارًا ما خلق لكم من البهائم، والشجر هنا- بما أفهمته الإسامة- عام لما يبقى في الشتاء حقيقة، ولغيره مجازًا؛ قال القزاز: الشجر ما بقي له ساق في الشتاء إلى الصيف، ثم يورق، والبقل ما لا يبقى له ساق، قال الخليل: جل الشجر عظامه وما يبقى منه في الشتاء، ودقه صنفان: أحدهما تبقى له أرومة في الأرض في الشتاء، وينبت في الربيع، ومنه ما ينبت من الأرض كما تنبت البقلة، والفرق بينه وبين البقل أن الشجر يبقى له أرومة على الشتاء ولا يبقى للبقل، وعن أبي حنيفة- رضي الله عنهم- أن النبات ثلاثة أقسام: شجر وهو ما يبقى في الشتاء، ولا يذهب فرعه ولا أصله، وما نبت في بزر ولم ينبت في أرومة ثابتة فهو البقل، وما نبت في أرومة- أي أصل- وكان مما يهلك فرعه وأصله في الشتاء فهو الجنبة، لأنه فارق الشجر الذي يبقى فرعه وأصله، والبقل الذي يبيد فرعه وأصله، فكان جنبة بينهما.
ولما كان الشجر عامًا، شرع سبحانه يفصله تنويعًا للنعم وتذكيرًا بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئًا بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه: {ينبت} أي هو سبحانه: {لكم} أي خاصة {به} مع كونه واحدًا في أرض واحدة {الزرع} الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثًا وأصغره قدرًا، {والزيتون} الذي ترونه من أطول الأشجار عمرًا وأعظمها قدرًا.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى: {والنخيل} ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى: {والأعناب} وهما من أوسط ذلك {ومن كل الثمرات} وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه {إن في ذلك} أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة {لآية} بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته- لقربه وسهولة ملابسته- ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى: {لقوم يتفكرون} أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء- كما قال تعالى في آية {تسقى بماء واحد} [الرعد: 4]، وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى: {فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92]، وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين: {فسوف يعلمون} أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1]، وزاد هذا بيانًا قوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم، وأتبع ذلك تنزيهًا وتعظيمًا فقال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته {خلق الإنسان من نطفة} ثم أبلغه تعالى حدًا يكون فيه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله: {ولو شاء لهداكم أجمعين} فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد، وابتدأهم ابتداء واحدًا {خلق الإنسان من نطفة} فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر} إلى قوله: {لآية لقوم يتفكرون} انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}.
اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: القصد استقامة الطريق يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك، إذا عرفت هذا ففي الآية حذف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، ثم قال: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} تعود على السبيل، وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال، والله أعلم.
المسألة الثانية:
قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار، لأنه تعالى قال: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} وكلمة {على} للوجوب قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97]، ودلت الآية أيضًا على أنه تعالى لا يضل أحدًا ولا يغويه ولا يصده عنه، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلًا للضلال لقال: {وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل} وعليه جائرها أو قال: وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحدًا.
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قوله: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان، لأن كلمة {لو} تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله؛ {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ} معناه: لو شاء هدايتكم لهداكم، وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم، وذلك يدل على المقصود.
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل.
وأجاب الجبائي بأن المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان، لأنه مقدور جميع المكلفين.
وأجاب بعضهم فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب، والله أعلم.
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مرارًا وأطوارًا مع الجواب فلا فائدة في الإعادة.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات، فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات، أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.
واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر، وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مرارًا، والحاصل: أن ماء المطر قسمان: أحدهما: هو الذي جعله الله تعالى شرابًا لنا ولكل حي، وهو المراد بقوله: {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حيّ} [الأنبياء: 30].
فإن قيل: أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر، أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره، وهو الماء الموجود في قعر الأرض؟
أجاب القاضي: بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره.
ولقائل أن يقول: ظاهر الآية يدل على الحصر، لأن قوله: {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره.
إذا ثبت هذا فنقول: لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك، والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} [المؤمنون: 18]، ولا يمتنع أيضًا في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر، والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سببًا لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} إلى آخر الآية، وفيه مباحث:
البحث الأول: ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة، وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب، وههنا قولان:
القول الأول: قال الزجاج: كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد:
يطعمها اللحم إذا عز الشجر

يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ، وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ.
ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]، والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، هكذا قال المفسرون، وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما، ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضًا فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى: {حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ، فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه.
القول الثاني: أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.
البحث الثاني: قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي تسوم سومًا إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة.
وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات، وقال غيره: لأنها تعلم للإرسال في المرعى، وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى: {والخيل المسومة} [آل عمران: 14].
أما قوله تعالى: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} ففيه مباحث:
البحث الأول: هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان: أحدهما: معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات، وهو المراد من قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ}.
والثاني: ما كان مخلوقًا لأكل الإنسان وهو المراد من قوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون}.
فإن قيل: إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} [طه: 54]. فما الفائدة فيه؟
قلنا: أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».
البحث الثاني: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {ننبت} بالنون على التفخيم والباقون بالياء، قال الواحدي: والياء أشبه بما تقدم.
البحث الثالث: اعلم أن الإنسان خلق محتاجًا إلى الغذاء، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات.
والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة، وأما الغذاء النباتي فقسمان: حبوب.
وفواكه، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون.
والنخيل.
والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل، ثم قال في صفة البقية: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
[النحل: 8]. فكذلك هاهنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في صفة البقية: {وَمِن كُلّ الثمرات} تنبيهًا على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.
ثم قال: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وههنا بحثان:
البحث الأول: في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول: إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء.
ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان.
إذا عرفت هذا فنقول: نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة.
ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة، فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة.
البحث الثاني: أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب}.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال: إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب؟ وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تامًا وافيًا بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقيًا، فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله: {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. اهـ.