فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وعلى الله قصد السبيل}.
القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل: معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين {ومنها جائر} يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله: قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع {ولو شاء لهداكم أجمعين} فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.
قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة: عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال: هو الذي أنزل من السماء.
يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر {لكم منه} يعني من ذلك الماء {شراب} يعني تشربونه {ومنه} يعني ومن ذلك الماء {شجر} الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا: الشجر أصناف ما جل وعظم وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول وقال أبو إسحاق: كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد:
نطعمها اللحم إذا عز الشجر

أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة: في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر {فيه} يعني في الشجر {تسيمون} يعني ترعون مواشيكم.
يقال: أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت {ينبت لكم} أي ينبت الله لكم وقرئ {ينبت} على التعظيم لكم {به} أي بذلك الماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} لما ذكر الله في الحيوان تفصيلًا وإجمالًا ذكر الثمار تفصيلًا وإجمالًا فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكة، والتعذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالًا لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى: {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من أنواع الثمار {لآية} يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا {لقوم يتفكرون} يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.
والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، والسبيل هنا مفرد اللفظ.
فقيل: مفرد المدلول، وأل فيه للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز.
والمعنى: وعلى الله تبين طريق الهدى، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: إنّ من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه، وإلى ذلك مصيره.
وعلى أنّ للعهد يكون الضمير في قوله: {ومنها جائر} عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية، كأنه قيل: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر، لأنّ مقابلها يدل عليها.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون مِن للتبعيض، والمراد: فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: ومن بنيات الطرق في هذه السبيل، ومن شعبها.
وقيل: أل في السبيل للجنس، وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق، وإلى جائر وهو طريق الباطل، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال:
يجور بها الملاح طورًا ويهتدي

وكما قال الآخر:
ومن الطريقة جائر وهدى ** قصد السبيل ومنه ذو دخل

قسم الطريقة: إلى جائر، وإلى هدى، وإلى ذي دخل وهو الفساد.
وقال الزمخشري: ومعنى قوله: {وعلى الله قصد السبيل} إنّ هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله: {إن علينا للهدى} فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله: {ومنها جائر}؟ قلت: ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل، وعليه جائرها، أو وعليه الجائر.
وقرأ عبد الله: {ومنكم جائر} يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره، والله بريء منه.
ولو شاء لهداكم أجمعين قسرًا والجاء انتهى.
وهو تفسير على طريقة الاعتزال.
وقيل: الضمير في {ومنها} يعود على الخلائق أي: ومن الخلائق جائر عن الحق.
ويؤيده قراءة عيسى: {ومنكم جائر}، وكذا هي في مصحف عبد الله، وقراءة علي: فمنكم جائر بالفاء.
قال ابن عباس: هم أهل الملل المختلفة.
وقيل: اليهود والنصارى والمجوس.
ولهداكم: لخلق فيكم الهداية، فلم يضل أحد منكم، وهي مشيئة الاختيار.
وقال الزجاج: لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان.
قال ابن عطية: وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد، لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد انتهى.
ولم يعرف ابن عطية أنّ الزجاج معتزلي، فلذلك تأول أنه لم يحصله، وأنه وقع فيه من غير قصد.
وقال أبو علي: لو شاء لهداكم إلى الثواب، أو إلى الجنة بغير استحقاق.
وقال ابن زيد: لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر.
ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي: ولو شاء هدايتكم.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: {ومن كل الثمرات} ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.
والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائنًا لكم منه شراب.
ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافًا، وشراب مبتدأ.
لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه.
والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال: أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر.
وقال ابن الأنباري: هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي: ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي: شرب شجر كقوله: {وأُشربوا في قلوبهم العجل} أي حبه.
والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج.
وقال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجرًا.
وقال ابن قتيبة: الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة: «لا تأكلوا الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ.
ويقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج: من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات.
وقرأ زيد بن علي: {تسيمون} بفتح التاء، فإن سمع متعديًا كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازمًا فتأويله على حذف مضاف {تسيمون} أي: تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر.
أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله: {ومنه شجر} العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف اخبار منافع الماء.
ويقال: نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت.
وقيل: يقال أنبت الشجر لازمًا.
وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ** قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل

أي نبت.
وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت.
وقرأ أبو بكر: {ننبت} بنون العظمة.
وقرأ الزهري: {ننبت} بالتشديد قيل: للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية.
وقرأ أبيّ: {ينبت} من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه.
وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع.
وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة.
ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله: {ويخلق ما لا تعلمون} كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال: ومن كل الثمرات، تنبيهًا على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر.
وختم ذلك تعالى بقوله: {لآية لقوم يتفكرون} لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر.
ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل}.
القصدُ مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ، أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه، كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه، أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه، أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل كذا قاله أبو البقاء، أي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق، لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداء كذلك على نهج قوله: سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل، وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ، وقد فعَل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التي كلُّ واحد منها لاحبٌّ يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره، وأَرسل رسلًا مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتبًا من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى، المنْجية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى، ألا يُرى كيف بيّن أولًا تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك، ثم أوضح سرَّ إلقاء الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك، ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشدًا إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى: {خُلِقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين، ثم ذكر ما يتعلق بما لابد لهم منه في معايشهم، ثم بين قدرتَه على خلق ما لا يحيط به علمُ البشر بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ، فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصدِ إليه وقوله تعالى: {وَمِنْهَا} في محل الرفع على الابتداء، إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} وقد مر في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر} إلخ.، أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر {جَائِرٌ} أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه، وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر، وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أن تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداء على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافِه، وأيًا ما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل، فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى للظاهرُ سبكًا معينًا ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه: {الذى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال: والذي يُسقِمني ويشفينِ، ولكن غُيِّر إلى ما عليه النظم الكريم تفاديًا عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه، وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك، على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ، وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ، بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقالَ: وجائرُها حتى يصرفَ ذلك الإسنادُ منه تعالى إلى غيره لنكتة تستدعيه، ولا يتوهمه متوهمٌ حتى يقتضيَ الحالُ دفعَ ذلك بأن يقال: لا جائرُها، ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك، والمعنى: على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصلِ إلى الحق وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد، وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء ألبتةَ، فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته، بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعي تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أشير بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه ألبتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك، ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها، ولا حكمةَ في تلك المشيئةِ لِما أن الذي عليه يدور فلَكُ التكليفِ وإليه ينسحب الثوابُ والعقابُ إنما هو الاختيارُ الجُزئي الذي عليه يترتب الأعمالُ التي بها نيط الجزاء.