فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا هو الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظام، وقد فُسّر كونُ قصدِ السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه على نهج الاستقامةِ، وإيثارُ حرفِ الاستعلاء على أداة الانتهاء لتأكيد الاستقامةِ على وجه تمثيليَ من غير أن يكون هناك استعلاء لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علوًا كبيرًا كما في قوله تعالى: {هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} فالقصدُ مصدرٌ بمعنى الفاعل، والمرادُ بالسبيل الجنسُ كما مر في قوله تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} معطوفٌ على الجملة الأولى والمعنى أن قصدَ السبيلِ واصلٌ إليه تعالى بالاستقامة وبعضُها منحرفٌ عنه ولو شاء لهداكم جميعًا إلى الأول، وأنت خبيرٌ بأن هذا حقٌّ في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبةٍ لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيدِ وبين ما لحِق، ولمّا بُيِّن الطريقُ السمعيُّ للتوحيد على وجه إجماليَ وفصِّلَ بعضُ أدلتِه المتعلقة بأحوال الحيواناتِ، وعُقب ذلك ببيان السرِّ الداعي إليه بعثًا للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثًّا على حسن التلقي لما لحِق أُتبِع ذلك ذِكرَ ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل: {هُوَ الذي أَنَزلَ} بقدرته القاهرة {مّنَ السماء} أي من السحاب أو من جانب السماء {مَاء} أي نوعًا منه وهو المطرُ، وتأخرُه عن المجرور لِما مر مرارًا من أن المقصودَ هو الإخبارُ بأنه أنزل من السماء شيئًا هو الماء لا أنه أنزله من السماء، والسرُّ فيما سلف من أن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ يبقى الذهنُ مترقبًا له مشتاقًا إليه فيتمكّن لديه عند وروده عليه فضلُ تمكن {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} أي ما تشربونه، وهو إما مرتفعٌ بالظرف الأول أو مبتدأٌ وهو خبرُه والجملةُ صفة لماء، والظرفُ الثاني نصبَ على الحالية من شراب ومن تبعيضيةٌ وليس في تقديمه إيهامُ حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياهَ العيون والأبيارِ منه لقوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} وقوله تعالى: {فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} وقيل: الظرفُ الأولُ متعلقٌ بأنزل والثاني خبرٌ لشرابٌ والجملةُ صفةٌ لماء، وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوبِ بين المجرورين وتوسيطِ الثاني منهما بين الماء وصفتِه مما لا يليق بجزالة نظمِ التنزيلِ الجليل {وَمِنْهُ شَجَرٌ} من ابتدائيةٌ أي ومنه يحصل شجرٌ ترعاه المواشي، والمرادُ به ما ينبُت من الأرض سواء كان له ساق أو لا، أو تبعيضيةٌ مجازًا لأنه لما كان سقيُه من الماء جعل كأنه كقوله:
أسنمةُ الآبالِ في ربابه

يعني به المطرَ الذي ينبت به الكلأُ الذي تأكله الإبلُ فتسمَن أسنمتُها، وفي حديث عكرِمة: {لا تأكُلوا ثمنَ الشجر فإنه سُحْت} يعني الكلأ {فِيهِ تُسِيمُونَ} ترون من سامت الماشيةُ وأسامها صاحبها، وأصلُها السُّومة وهي العلامةُ لأنها تؤثر بالرعي علاماتٍ في الأرض.
{يُنبِتُ} أي الله عز وجل، وقرى بالنون {لَكُمْ بِهِ} بما أنزل من السماء {الزرع والزيتون والنخيل والاعناب} بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض بطريق الاستئنافِ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على التجدد والاستمرار وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور، أو لاستحضار صورةِ الإنبات، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفًا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداء، وتقديمُ الزرعِ على ما عداه لأنه أصلُ الأغذية وعَمودُ المعاش، وتقديمُ الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه إذام من وجه وفاكهة من وجه، وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتِها وبقائها، وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفةِ، وتخصيصُ الأنواعِ المعدودة بالذكر مع اندراجها تحت قوله تعالى: {وَمِن كُلّ الثمرات} للإشعار بفضلها وتقديمُ الشجر عليها مع كونه غذاء للأنعام لحصوله بغير صنعٍ من البشر، أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاقِ فإن مقتضاها أن يكون اهتمامُ الإنسان بأمر ما تحت يده أكملَ من اهتمامه بأمر نفسه، أو لأن أكثرَ المخاطَبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرعٌ ولا ثمرٌ، وقيل: المراد تقديمُ ما يسام لا تقديمُ غذائه فإنه غذاء حيوانيّ للإنسان وهو أشرف الأغذية، وقرئ {يَنبُت} من الثلاثي مسندًا إلى الزرع وما عُطف عليه.
{إِنَّ في ذَلِكَ} أي في إنزال الماء وإنباتِ ما فُصّل {لآيَةً} عظيمةً دالةً على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلمِ والقدرةِ والحكمة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن من تفكر في أن الحبةَ أو النواة تقع في الأرض وتصِل إليها نداوةٌ تنفُذ فيها فينشق أسفلُها فيخرُج منه عروق تنبسط في أعماق الأرضِ، وينشق أعلاها وإن كانت منتكِسةً في الوقوع ويخرج منه ساقٌ فينمو ويخرج منه الأوراقُ والأزهارُ والحبوبُ والثمار المشتملةُ على أجسام مختلفةِ الأشكال والألوان والخواصِّ والطبائع، وعلى نواة قابلةٍ لتوليد الأمثالِ على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الموادِّ واستواء نسبة الطبائعِ السفلية والتأثيراتِ العلوية بالنسبة إلى الكل، علم أن مَنْ هذه أفعالُه وآثارُه لا يمكن أن يشبهه شيءٌ في شيء من صفات الكمال فضلًا عن أن يشاركه أخسُّ الأشياء في أخص صفاتِه التي هي الألوهيةُ واستحقاقُ العبادة تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وحيث افتقر سلوكُ هذه الطريقةِ إلى ترتيب المقدّماتِ الفكرية قطَع الآيةَ الكريمةَ بالتفكر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.
القصد مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار وطريق سائر و{على} للوجوب مجازًا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق الذي هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل و{على} على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب.
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول و{على} ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى وما عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل؛ وقيل: أل للعهد.
والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من ذلك بل قسيمه، ومن اراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود على سبيل الشرع، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل؛ وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت عن ابن مسعود {وَمِنكُمْ} وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل خبر مقدم و{جَائِرٌ} مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء أما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل جائر، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والإنزال الأمور المذكورة سابقًا واظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك هو الهداية المفسرة بادلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه اصلًا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قول تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء، وقيد {أَجْمَعِينَ} للمنفى لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب؛ وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجارها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبًا فهو كقوله تعالى: {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7].
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة.
وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الاغواء والاضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما أن بينا الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.
وقال ابن المنير: إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قومًا اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودًا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنًا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له.
والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيها اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد اعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهم متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه، وذكر أن الجلمة اعتراضية حسبما نقلناه سابقًا، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل لمستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الاعلام الذي ذكره؛ ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعصهم: إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.
وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضًا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالًا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لابد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اه فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجأوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.
{هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء}.
شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه، والمراد من الماء نوع منه وهو المطرد ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به، و{مِنْ} على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق بما عنده، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه، وقوله تعالى: {لَكُمْ} يحتمل أن يكون خبرًا مقدمًا، وقوله سبحانه: {مِنْهُ} في موضع الحال من قوله عز وجل: {شَرَابٌ} أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف الأول والجملة صفة لماء و{مِنْ} تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر، ومن توهمه قال: لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} [الزمر: 21]، وقوله سبحانه: {فَأَسْكَنَّاهُ في الأرض} [المؤمنون: 18]، ويحتمل أن يكون متعلقًا بما عنده {وَمِنْهُ شَرَابٌ} مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة ومن كما تقدم.
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك {وَمِنْهُ شَجَرٌ} أي نبات مطلقًا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول الراجز:
نعلفها اللحم إذا عز الشجر ** والخيل في إطعامها اللحم ضرر

فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف، وكذا فسره في النهاية بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار، وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازًا شاملًا، و{مِنْ} إما للتبعيض مجازًا لأن الشجر لما كان حاصلًا بسقيه جعل كأنه منه كقوله:
أسنمة الابال في ربابه

يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر، والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله.
وقال أبو البقاء: هي سببية أي وبسببه إنبات شجر، ودل على ذلك {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع} [النحل: 11]، وجوز ابن الأنباري الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله: الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر وأما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ في قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93]. أي حبه اه وهو بعيد وإن قيل: الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة.
{فِيهِ تُسِيمُونَ} أي ترعون يقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، وأصل ذلك على ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {تُسِيمُونَ} بفتح التاء فإن سمع سام متعديًا كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم.
{يُنبِتُ} أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت، وقيل: يقال أنبت الشجر لازمًا وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ** قطينًا بها حتى إذا أنبت البقل

أي نبت، وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت.
وقرأ أبو بكر: {ننبت} بنون العظمة، والزهري {تُسِيمُونَ يُنبِتُ} بالتشديد وهو للتكثير في قول، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية.
وقرأ أبي: {يُنبِتُ} بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية، وجملة ينبت {لَكُمْ بِهِ} أي بما أنزل من السماء {الزرع والزيتون والنخيل والاعناب} يحتمل أن تكون صفة أخرى لماء وأن تكون مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنه قيل: وهل له منافع أخر؟ فقيل: ينبت لكم به إلخ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفًا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء، وتقديم الزرع على ما عداه قيل: لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعي، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث أنه أدام من وجه وفاكهة من وجه، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة، وذكر غير يسير منها في التذكرة، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته.