فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}.
جملة معترضة.
اقتضَتْ اعتراضَها مناسبة الامتنان بنعمة تيسير الأسفار بالرواحل والخيل والبغال والحمير.
فلما ذكرت نعمة تيسير السبيل الموصلة إلى المقاصد الجثمانية ارتُقِي إلى التذكير بسبيل الوصول إلى المقاصد الرُّوحانية وهو سبيل الهدى، فكان تعهّد الله بهذه السبيل نعمة أعظمَ من تيسير المسالك الجثمانية لأن سبيل الهدى تحصل به السعادة الأبدية.
وهذه السبيل هي موهبةُ العقل الإنساني الفارق بين الحقّ والباطل، وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى الحقّ، وتذكيرهم بما يغفلون عنه، وإرشادهم إلى ما لا تصل إليه عقولهم أو تصل إليه بمشقّة على خطر من التورّط في بنيّات الطريق.
فالسبيل: مجاز لما يأتيه الناس من الأعمال من حيث هي موصلة إلى دار الثواب أو دار العقاب، كما في قوله: {قل هذه سبيلي} [سورة يوسف: 108].
ويزيد هذه المناسبة بيانًا أنه لما شرحت دلائل التوحيد ناسب التنبيه على أن ذلك طريق للهدى، وإزالة للعذر، وأن من بين الطرق التي يسلكها الناس طريق ضلال وجور.
وقد استعير لتعهّد الله بتبيين سبيل الهدى حرف على المستعار كثيرًا في القرآن وكلام العرب لمعنى التعهّد، كقوله تعالى: {إن علينا للهدى}.
شبه التزام هذا البيان والتعهّد به بالحقّ الواجب على المحقوق به.
والقصد: استقامة الطريق.
وقع هنا وصفًا للسبيل من قبيل الوصف بالمصدر، لأنه يقال: طريق قاصد، أي مستقيم، وطريق قصد، وذلك أقوى في الوصف بالاستقامة كشأن الوصف بالمصادر، وإضافة {قصد} إلى {السبيل} من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهي صفة مخصّصة لأن التعريف في {السبيل} للجنس.
ويتعين تقدير مضاف لأن الذي تعهّد الله به هو بيان السبيل لا ذات السبيل.
وضمير {ومنها} عائد إلى {السبيل} على اعتبار جواز تأنيثه.
و{جائر} وصف ل {السبيل} باعتبار استعماله مذكرًا.
أي من جنس السبيل الذي منه أيضًا قصد سبيل جائر غير قَصْد.
والجائر: هو الحائد عن الاستقامة.
وكنّي به عن طريق غير موصل إلى المقصود، أي إلى الخير، وهو المفضي إلى ضُرّ، فهو جائر بسالكه.
ووصفه بالجائر على طريقة المجاز العقلي.
ولم يضف السبيل الجائر إلى الله لأن سبيل الضلال اخترعها أهل الضلالة اختراعًا لا يشهد له العقل الذي فطر الله الناس عليه، وقد نهى الله الناس عن سلوكها.
وجملة {ولو شاء لهداكم أجمعين} تذييل.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
استئناف لذكر دليل آخر من مظاهر بديع خلق الله تعالى أدمج فيه امتنان بما يأتي به ذلك الماء العجيب من المنافع للناس من نعمة الشراب ونعمة الطعام للحيوان الذي به قوام حياة الناس وللناس أنفسهم.
وصيغة تعريف المسند إليه والمسند أفادت الحصر، أي هُوَ لا غيرُه.
وهذا قصر على خلاف مقتضى الظاهر، لأن المخاطبين لا ينكرون ذلك ولا يدّعون له شريكًا في ذلك، ولكنهم لما عَبدوا أصنامًا لم تنعم عليهم بذلك كان حالهم كحال من يدّعي أن الأصنام أنعمت عليهم بهذه النّعم، فنزلوا منزلة من يدّعي الشركة لله في الخلق، فكان القصر قصر إفراد تخريجًا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر.
وإنزال الماء من السماء تقدم معناه عند قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم} في سورة البقرة (22).
وذكرَ في الماء منّتين: الشّراب منه، والإنبات للشجر والزّرع.
وجملة {لكم منه شراب} صفة ل {ماء}، و{لكم} متعلق بـ {شراب} قدم عليه للاهتمام، و{منه} خبر مقدم كذلك، وتقديمه سوّغ أن يكون المبتدأ نكرة.
والشراب: اسم للمشروب، وهو المائع الذي تشتفّه الشفتان وتُبلغه إلى الحلق فيبلعَ دون مضغ.
و{من} تبعيضية.
وقوله تعالى: {ومنه شجر} نظير قوله: {منه شراب}.
وأعيد حرف {من} بعد واو العطف لأن حرف {من} هنا للابتداء، أو للسببية فلا يحسن عطف {شجر} على {شراب}.
والشجرَ: يطلق على النبات ذي الساق الصُلبة، ويطلق على مطلق العُشب والكلأ تغليبًا.
وروعي هذا التغليب هنا لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز لقلة الكلأ في أرضهم، فهم يرعون الشعاري والغابات.
وفي حديث: «ضالة الإبل تَشرب الماء وتَرعى الشجر حتى يأتيا ربّها».
ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف {في} الظرفية، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه والأكل مما تحته من العشب.
والإسامة: إطلاق الإبل للسّوْم وهو الرعي.
يقال: سامت الماشية فهي سائمة وأسامها ربّها.
{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ}.
جملة {ينبت} حال من ضمير {أنزل} [سورة النحل: 10]، أي ينبت الله لكم.
وإنما لم يعطف هذا على جملة {لكم منه شراب} [سورة النحل: 10]. لأنّه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لابد معه من زرع وغرس.
وهذا الإنبات من دلائل عظيم القدرة الربّانية، فالغرض منه الاستدلال ممزوجًا بالتذكير بالنّعمة، كما دلّ عليه قوله: {لكم} على وزان ما تقدم في قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [سورة النحل: 5]. الآية، وقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} [سورة النحل: 8]. الآية.
وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيهًا للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم، ولذلك قال: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.
وذكر الزرع والزيتون وما معهما تقدم غير مرة في سورة الأنعام.
والتفكّر تقدم عند قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصيرأفلا تتفكرون} في سورة الأنعام (50).
وإقحام لفظ قوم للدلالة على أن التفكّر من سجاياهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
{ومن كل الثمرات} عطف على {الزرع والزيتون}، أي وينبت لكم به من كل الثمرات مما لم يذكر هنا.
والتعريف تعريف الجنس.
والمراد: أجناس ثمرات الأرض التي ينبتها الماء، ولكل قوم من الناس ثمرات أرضهم وجَوّهم.
و{من} تبعيضية قصد منها تنويع الامتنان على كل قوم بما نالهم من نعم الثمرات.
وإنما لم تدخل على الزرع وما عطف عليه لأنها من الثمرات التي تنبت في كل مكان.
وجملة {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} تذييل.
والآية: الدلالة على أنه تعالى المبدع الحكيم.
وتلك هي إنبات أصناف مختلفة من ماء واحد، كما قال: {تسقى بماء واحد} في سورة الرعد (4).
ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج.
وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرّد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.
وقرأ الجمهور: {ينبت} بياء الغيبة.
وقرأه أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}.
والسبيل هو الطريق؛ والقَصْد هو الغاية، وهو مصدر يأخذون منه القول {طريق قاصد} أي: طريق لا دورانَ فيه ولا التفاف، والحق سبحانه يريد لنا أنْ نصلَ إلى الغاية بأقلِّ مجهود.
ونحن في لغتنا العاميّة نسأل جندي المرور: هل هذا الطريق ماشي؟ رغم أن الطريق لا يمشي، بل أنت الذي تسير فيه، ولكنك تقصد أن يكون الطريق مُوصِّلًا إلى الغاية، وأنت حين تُعجِزك الأسباب تقول: خلِّيها على الله أي: أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلى المُسبِّب الأعلى.
وهكذا يريد المؤمن الوصول إلى قَصْده، وهو عبادة الله وُصولًا إلى الغاية، وهي الجنة، جزاء على الإيمان وحُسْن العمل في الدنيا.
وأنت حين تقارن مَجْرى نهر النيل تجد فيه التفافاتٍ وتعرُّجات؛ لأن الماء هو الذي حفر طريقه؛ بينما تنظر إلى الريَّاح التوفيقي مثلًا فتجده مستقيمًا؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلى مَقْصد معين، وحين يكون قَصْد السبيل على الله؛ فالله لا هَوى له ولا صاحبَ، ولا ولدَ له، ولا يحابي أحدًا، وكلُّ الخَلْق بالنسبة له سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقًا فهو يضعُه مستقيمًا لا عِوجَ فيه؛ وهو الحق سبحانه القائل: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
أي: الطريق الذي لا التواء فيه لأيِّ غَرَض، بل الغرض منه هو الغاية بأيسرَ طريق.
وقول الحق سبحانه هنا: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9].
يجعلنا نعود بالذاكرة إلى ما قاله الشيطان في حواره مع الله قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
وردَّ الحق سبحانه: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].
والحق أيضًا هو القائل: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} [الليل: 12].
أي: أنه حين خلق الإنسان أوضح له طريق الهداية، وكذلك يقول سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10].
أي: أن الحق سبحانه أوضح للإنسان طُرق الحق من الباطل، وهكذا يكون قوله هنا: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9].
يدلُّ على أن الطريق المرسوم غايتُه موضوعة من الله سبحانه، والطريق إلى تلك الغاية موزونٌ من الحق الذي لا هَوى له، والخَلْق كلهم سواء أمامه.
وهكذا.. فعلى المُفكِّرين ألاَّ يُرهِقوا أنفسهم بمحاولة وَضْع تقنين من عندهم لحركة الحياة، لأن واجدَ الحياة قد وضع لها قانون صيانتها، وليس أدلّ على عَجْز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم حياة البشر إلا أنهم يُغيِّرون من القوانين كل فَتْرة، أما قانون الله فخالد باقٍ أبدًا، ولا استدراكَ عليه.
ولذلك فمِنَ المُرِيح للبشر أنْ يسيروا على منهج الله والذي قال فيه الحق سبحانه حكمًا عليهم أنْ يُطبِّقوه؛ وما تركه الله لنا نجتهد فيه نحن.
وقول الحق: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9].
أي: أنه هو الذي جعل سبيلَ الإيمان قاصدًا للغاية التي وضعها سبحانه، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر؛ ولذلك قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9].
ولكي يمنع الجَوْر جعل سبيلَ الإيمان قاصدًا، فهو القائل: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
بينما السبيل العادلة المستقيمة هي السبيل المُتكفّل بها سبحانه، وهي سبيل الإيمان، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر أي: يُطِيل المسافة عليك، أو يُعرِّضك للمخاطر، أو توجد بها مُنْحنيات تُضِل الإنسانَ، فلا يسيرُ إلى الطريق المستقيم.
ونعلم أن السبيل تُوصِّل بين طرفين {من وإلى} وكل نقطة تصل إليها لها أيضًا {من وإلى} وقد شاء الحق سبحانه ألاَّ يقهرَ الإنسانَ على سبيل واحد، بل أراد له أنْ يختار، ذلك أن التسخير قد أراده الله لغير الإنسان مِمَّا يخدم الإنسان.
أما الإنسان فقد خلق له قدرة الاختيار، ليعلم مَنْ يأتيه طائعًا ومَنْ يعصي أوامره، وكل البشر مَجْموعون إلى حساب، ومَن اختار طريق الطاعة فهو مَنْ يذهب إلى الله مُحبًا، ويُثبِت له المحبوبية التي هي مراد الحق من خَلْق الاختيار، لكن لو شاء أنْ يُثبِتَ لنفسه طلاقة القَهْر لخَلقَ البشر مقهورين على الطاعة كما سخَّر الكائنات الأخرى.
والحق سبحانه يريد قلوبًا لا قوالب؛ ولذلك يقول في آخر الآية: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9].
وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد لله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
وفي آية أخرى يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].