فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر}.
شروعٌ في تعداد النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيوانًا ونباتًا، أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به للركوب والغَوْص والاصطياد {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} هو السمك، والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيوانًا للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل، ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَأكلِه، وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذبًا طريًا في ماء زعاق، ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلف لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله، والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ، ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق، ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلًا بالأمر، ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} كاللؤلؤ والمَرْجان {تَلْبَسُونَهَا} عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم {وَتَرَى الفلك} السفن {مَوَاخِرَ فِيهِ} جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها، من المخْر وهو شقُّ الماء، وقيل: هو صوتُ جَرْي الفلك {وَلِتَبْتَغُواْ} عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه، وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادي الابتغاء ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية، أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغوا {مِن فَضْلِهِ} من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعًا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر، بل من غير حركة أصلًا مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر، وجعله بعضهم عديلًا لقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء لَّكُم} [النحل: 10]. فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزءين، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه، والبحر على ما في {البحر} يشمل الملح والعذب، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} وهو السمك، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانًا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الإنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق، وقيل: للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل.
و{مِنْ} متعلق بتأكلوا أو حال مما بعده وهي ابتدائية، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه، وحينئذٍ يجوز أن من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك، والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة، وقال الفراء: من طري يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة، والطراوة ضد اليبوسة، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبًا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة، وقد قال الأطباء: إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي؛ وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللًا كما توهم، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضًا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانًا أيضًا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبًا طريًا في ماء مر لا يشرب، وفيه شيء لا يخفى، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك، ويؤيده تفسير اللحم به المروى عن قتادة وغيره، وعن مالك وجماعة من أهل العلم إطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير.
والكلب والإنسان، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: هو السمك وما في البحر من الدواب.
نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا» وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وميتة البحر في خبر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه ليكون موته مضافًا إليه لا ما مات فيه من غير آفة، وما قطع بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتًا فميتته حلال، ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في جب ماء، وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئًا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء، وفي موت الحر والبرد روايتان: إحدهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء على اليبس.
والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب، ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي، واشتهر عن الشيعة حركة أكل الأول فليراجع، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لما فيها من إطلاق اللحم عليه، وروي ذلك عن مالك أيضًا.
وأجيب بأن مبنى الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل: ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطًا} [نوح: 19]. فقال له: كأنك السائل أمس؟ فقال: نعم، فقال: لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولًا، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال من أن القياس الحنث، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم والدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالإلية فإنها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها.
واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف، وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عسكه الكليء وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام.
نعم قد يقال: مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه، وما ذكر بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرًا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 55]، وفي الكشاف بيانًا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفًا أنه إذا قال واحد لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحمًا فجاء بالسمك كان حقيقًا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الإيمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله.
واعترض بأنه لو قال لغلامه: اشتر لحمًا فاشترى لحم عصفور كان حقيقًا بالإنكار مع الحنث بأكله.
وتعقب بأن الإنكار إنماجاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} كاللؤلؤ والمرجان {تَلْبَسُونَهَا} أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم.
قال ابن المنير: ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدًا بالحديث المروي في الباب.اهـ.
ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف، وصرح بذلك بعضهم وفسر {تَلْبِسُونَ} بتتمتعون وتتلذذون، ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم، وقيل: الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدًا ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل.
وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول: فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس، وأما الثاني: فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على النحو السابق، إلى هذا، وقال بعضهم: لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ.
وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعًا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه، ولا يصح ما يقال: إن في {البحر} زمرذًا بحريًا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضًا، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم اخفي التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى.
واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليًا حتى لو حلف لا يلبس حليًا فلبسه حنث.
وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: لا يحنث لأن الؤلؤ وحده لا يسمى حليًا في العرف وبائعه لا يقال له الحلي كذا في أحكام الجصاص.
واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء، فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وهو كما ترى، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر الملح والحلية إنما تخرج من الملح، وقيل: إن العذب يخرج منه لؤلؤ أيضًا ألا أنه لا يلبس إلا قليلًا والكثير التداوي به، ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك.
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال: كلم الله تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادًا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم قال: بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادًا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد، وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وظاهر كلام الأكثرين حمل {البحر} في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في موضع مخصوصة منه.
{وَتَرَى الفلك} السفن {مَوَاخِرَ فِيهِ} جواري فيه جمع ماخرة بمعنى جارية، وأصل المخر الشق يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها، وقال الفراء: هو صوت جري الفلك بالرياح {وَلِتَبْتَغُواْ} عطف على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادىء الابتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانًا بأن ذاك غير مسوق مساقهما، وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفًا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، وأن يكون متعلقًا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا، وهو تكلف يغني الله تعالى عنه.
{مِن فَضْلِهِ} من سعة رزقه بركوبها للتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام من حيث أنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببًا للانتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل في ذلك:
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ** نظن وقوفًا والزمان بنا يسري

وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معًا.
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر. اهـ.