فصل: من فوائد ابن عاشور في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآيتين:

قال رحمه الله:
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين}.
موقع هاته الجملة موقع الجمل قبلها من قوله: {قل فلم تقتلون أنبياء الله} [البقرة: 91].
وقوله: {قل بئسما يأمركم} [البقرة: 93].
وقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} [البقرة: 94].
فإن الجميع للرد على ما تضمنه قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} [البقرة: 91] لأنهم أظهروا به عذرًا عن الإعراض عن الدعوة المحمدية وهو عذر كاذب ستروا به السبب في الواقع وهو الحسد على نزول القرآن على رجل من غيرهم فجاءت هاته المجادلات المصدرة بقل لإبطال معذرتهم وفضح مقصدهم.
فأبطل أولًا ما تضمنه قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} من أنهم إنما يقبلون ما أنزل على رسلهم بأنهم قد قابلوا رسلهم أيضًا بالتكذيب والأذى والمعصية وذلك بقوله: {قل فلم تقتلون} وقوله: {قل بئسما} إلخ.
وأبطل ثانيًا ما تضمنه من أنهم شديدو التمسك بما أنزل عليهم حريصون على العمل به متباعدون عن البعد عنه لقصد النجاة في الآخرة بقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة}.
وأبطل ثالثًا أن يكون ذلك العذر هو الصارفَ لهم عن الإيمان مع إثبات أن الصارف لهم هو الحسد بقوله هنا: {قل من كان عدوًا لجبريل} إلخ.
ويؤيد هذا الارتباط وقوع الضمير في قوله نَزَّله عائدًا على {ما أنزل الله} في الآية المجابة بهاته الإبطالات، ولذلك فصلت هذه كما فصلت أخواتها ولأنها لا علاقة لها بالجمل القريبة منها فتعطف عليها فجاءت لذلك متسأنفة.
والعدو المبغض وهو مشتق من عَدَا عليه يعدو بمعنى وثب، لأن المبغض يثب على المبغوض لينتقم منه ووزنه فَعول.
وجبريل اسم عبراني للمَلَك المرسل من الله تعالى بالوحي لرُسله مركب من كلمتين.
وفيه لغات أشهرها جِبْرِيل كقِطمير وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ الجمهور.
وجَبْريل بفتح الجيم وكسر الراء وقع في قراءة ابن كثير وهذا وزن فَعْليل لا يوجد له مثال في كلام العرب قاله الفراء والنحاس، وجَبْرَئِيل بفتح الجيم أيضًا وفتح الراء وبين الراء والياء همزة مكسورة وهي لغة تميم وقيس وبعضضِ أهل نجد وقرأ بها حمزة والكسائي.
وجَبْرَئِل بفتح الجيم والراء بينها وبين اللام همزة مكسورة قرأ بها أبو بكر عن عاصم وفيه لغات أخرى قرئ بها في الشواذ.
وهو اسم مركب من كلمتين كلمة جبر وكلمة إِيل.
فأما كلمة جبر فمعناه عند الجمهور نقلًا عن العبرانية أنها بمعنى عبد والتحقيق أنها في العبرانية بمعنى القُوة.
وأما كلمة إِيل فهي عند الجمهور اسم من أسماء الله تعالى.
وذهب أبو علي الفارسي إلى عكس قول الجمهور فزعم أن جبر اسم الله تعالى وإِيل العبد وهو مخالف لما في اللغة العبرانية عند العارفين بها.
وقد قفا أبوالعلاء المعري رأي أبي علي الفارسي في صدر رسالته التي خاطب بها علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح وهي المعروفة برسالة الغُفران فقال: قَدْ علم الجَبْر الذي نسب إليه جبريل وهو في كل الخيرات سبيل أنَّ في مسكني حَمَاطَة إلخ.
أي قد علم الله الذي نُسب جبريل إلى اسمه أي اسمه جبر يريد بذلك القَسَم وهذا إغراب منه وتنبيه على تباصره باللغة.
وعدواة اليهود لجبريل نشأت من وقت نزوله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: لأنه ينزل على الأمم التي كذبت رسلها بالعذاب والوعيد، نقله القرطبي عن حديث خرجه الترمذي.
وقوله: {من كان عدوًا لجبريل} شرط عام مراد به خاص وهم اليهود.
قصد الإتيان بالشمول ليعلموا أن الله لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل إن كان له معاد آخر.
وقد عرف اليهود في المدينة بأنهم أعداء جبريل ففي البخاري عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله وهو في أرض يخترف فأتى النبيء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيء: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال رسول الله: «أخبرني بهن جبريل آنفًا» قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فإنهم أبغضوه لأنه يجيء بما فيه شدة وبالأمر بالقتال... الحديث وفي سفر دانيال من كتبهم في الإصحاحين الثامن والتاسع ذكروا أن جبريل عبر لدانيال رؤيا رآها وأنذره بخراب أورشليم.
وذكر المفسرون أسبابًا أخرى لبغضهم جبريل.
ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه وهذا من أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظاهر آرائهم على الخطأ والأوهام.
وقوله: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} الضمير المنصوب ب {نزله} عائد للقرآن إما لأنه تقدم في قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} [البقرة: 91] وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] {فلولا إذا بلغت الحلقوم} [الواقعة: 83].
وهذه الجملة قائمة مقام جواب الشرط لظهور أن المراد أن لا موجب لعداوته لأنه واسطة أذنه الله بالنزول بالقرآن فهم بمعاداته إنما يعادون الله تعالى فالتقدير من كان عدوًا لجبريل فلا يعاده وليعاد الله تعالى.
وهذا الوجه أحسن مما ذكروه وأسعد بقوله تعالى: {بإذن الله} وأظهر ارتباطًا بقوله بعد {من كان عدوًا لله وملائكته} كما ستعرفونه ويجوز أن يكون التقدير فإنه قدنزله عليك سواء أحبوه أم عادوه فيكون في معنى الإغاظة من باب {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران: 119]، كقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورًا بمقتل مالك ** فليأتتِ ساحَتنا بوجه نهار

يجد النساءَ حواسرًا يندبنه ** بالليل قبل تبلج الإسفار

أي فلا يسر بمقتله فإنا قد قتلنا قاتله قبل طلوع الصباح فإن قاتله من أولياء من كان مسرورًا بمقتله.
ويجوز أن يكون المراد فإنه نزل به من عند الله مصدقًا لكتابهم وفيه هدى وبشرى، وهذه حالة تقتضي محبة من جاء به فمن حمقهم ومكابرتهم عداوتهم لمن جاء به فالتقدير فقد خلع ربقة العقل أو حلية الإنصاف.
والإتيان بحرف التوكيد في قوله: {فإنه نزله} لأنهم منكرون ذلك.
والقلب هنا بمعنى النفس وما به الحفظ والفهم، والعرب تطلق القلب على هذا الأمر المعنوي نحو: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [ق: 37] كما يطلقونه أيضًا على العضو الباطني الصنوبري كما قال:
كأنّ قلوب الطير رطبًا ويابسًا

و{مصدقًا} حال من الضمير المنصوب في {أنزله} أي القرآن الذي هو سبب عداوة اليهود لجبريل أي أنزله مقارنًا لحالة لا توجب عداوتهم إياه لأنه أنزله مصدقًا لما بين يديه من الكتب وذلك التوراة والإنجيل.
والمصدق المخبر بصدق أحد.
وأدخلت لام التقوية على مفعول {مصدقًا} للدلالة على تقوية ذلك التصديق أي هو تصديق ثابت محقق لا يشوبه شيء من التكذيب ولا التخطئة فإن القرآن نوه بالتوراة والإنجيل ووصف كلًا بأنه هدى ونور كما في سورة المائدة.
وتصديق الرسل السالفين من أول دلائل صدق المصدق لأن الدجاجلة المدعين النبوات يأتون بتكذيب من قبلهم لأن ما جاءوا به من الهدى يخالف ضلالات الدجالين فلا يسعهم تصديقهم ولذا حذر الأنبياء السابقون من المتنبئين الكذبة كما جاء في مواضع من التوراة والأناجيل.
والمراد بما بين يديه ما سبقه وهو كناية عن السبق لأن السابق يجيء قبل المسبوق ولما كان كناية عن السبق لم يناف طول المدة بين الكتب السابقة والقرآن ولأن اتصال العمل بها بين أممها إلى مجيء القرآن فجعل سبقهما مستمرًا إلى وقت مجيء القرآن فكان سبقهما متصلًا.
والهدى وصف للقرآن بالمصدر لقصد المبالغة في حصول الهدى به.
والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله، وأنه منزل على قلب الرسول، وأنه مصدق لما سبقه من الكتب، وأنه هاد أبلغ هدى، وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل وكرم المقر وكرم الفئة ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيرًا عاجلًا وواعد لهم بعاقبة الخير.
وهذه خصال الرجل الكريم محتده وبيته وقومه، السخي بالبذل الواعد به وهي خصال نظر إليها بيت زياد الأعجم:
إنَّ المساحةَ والمروءةَ والنَّدى ** في قبة ضُربت على ابن الحَشْرج

وقوله: {من كان عدوًا لله} إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالأخرة إلى إلزامهم بعدواتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل.
وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] فإن ذلك بعيد.
وقد أثبت لهم عدواة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمدًا لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمدًا لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحدًا كان حقيقًا بأن يعاديهم كلَّهم وإلا كان فعله تحكمًا لا عذر له فيه.
وخُص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليُذكَرَ معه ميكائيل ولعلهم عادَوهما معًا أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا: نحن نحب ميكائيل فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته.
وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور.
الثانية ميكائيل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع.
الثالثة ميكالَ بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز.
وقوله: {فإن الله عدو للكافرين} جواب الشرط.
والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي

البيت.
وقوله تعالى: {ووجد الله عنده فوفاه حسابه} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله.
ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة: أميرُ المؤمنين يأمر بكذا حثًّا على الامتثال.
والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل، وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن تلك العداوة كفر، ولتكون الجملة تذييلًا لما قبلها. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [97، 98].
روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال: سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبيّ. فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفًا»، قال: جبريل؟ قال: «نعم» قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {من كان عدوًا لجبريل فإنّه نزله على قلبك}. «أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة، نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بُهُتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي: رجل عبد الله فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام»؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه.
قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. وساق نحوًا مما تقدم. وتتمته قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليّك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: «فإن ولي جبريل، ولم يبعث الله نبيًّا قط، إلا وهو وليه». قالوا: فعندها نفارقك. ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما منعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدوّنا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} إلى قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} فعندها باءوا بغضب على غضب.
وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة: فأخبرنا من صاحبك؟ قال: «جبريل عليه السلام». قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب، عدونا. لو قلت: ميكائيل، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان! فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عُمَر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال: نزل عمر الرَّوحاء، فرأى رجالًا يبتدرون أحجارًا يصلّون إليها. فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. قال فكره ذلك، وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركته. ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْراسِهم، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم، قالوا: يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب! ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. قال: فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظَّم عليكم فأجيبوه. قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أمّا إذ نشدتنا به. فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت ويحكم، إذًا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوًا من الملائكة وسلمًا من الملائكة.
وإنه قُرن به عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم، ومن سلمكم؟. قالوا عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار، والتشديد والعذاب، ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره.
قال: قلت: فو الله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان. فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ عليّ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ} حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك بالخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر.
ورواه مختصرًا ابن أبي حاتم أيضًا، وفيه انقطاع، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه. كذا قاله الحافظ ابن كثير، وساقه أيضًا الواحديّ، وزاد في آخره: قال عمر: فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر.
قال العلامة البقاعيّ: وقد روى هذا الحديث أيضًا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبيّ، عن عمر رضي الله عنه. قال شيخنا البوصيريّ: وهو مرسل صحيح الإسناد،. انتهى.
وثَمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره، لا نطوّل كتابنا بسردها، ومرجعها واحد. فإن قيل: بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف!. فالجواب: لا منافاة؛ لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام، ردًّا لقول اليهود، لا يستلزم نزولها حينئذ. فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات. فإن طرقها يقوي بعضها بعضًا، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام: إن جبريل عدو لليهود، تلا عليه الآية، مذكّرًا له سبب نزولها كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في الإتقان حيث قال:
تنبيه:
قد يكون في إحدى القصتين، فتلا فَيَهِمُ الراوي، فيقول: فينزل. وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه أصول التفسير وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرًا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذِكْرَ بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيليًا كان ذلك أو جاهليًا أو إسلاميًا، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها، والله أعلم.
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلًا، وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية. انتهى.
وقوله تعالى: {لجبريل} قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز، وبفتح الجيم بدونها أيضًا، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها. قال ابن جنيّ: العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه.
وقوله: {فإنه نزله} تعليل لجواب الشرط قائم مقامه، والبارز الأول لجبريل عليه السلام، والثاني للقرآن، أضمر من غير سبق ذكر، إيذانًا بفخامة شأنه، واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته، لاسيما عند ذكر شيء من صفاته.
وقوله: {على قلبك} زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحي، فإنه القابل الأول له، إن أريد به الروح. ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو، وهذا كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194]، وكان حق الكلام أن يقال: على قلبي؛ لأنه المطابق لِقُل ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقًا لكونه كلام الله، وأنه أمر بأبلاغه.
وقوله: {بِإِذْنِ اللّهِ} أي: بأمره.
وقوله: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من التوراة وبقية الصحف المنزلة.
وقوله: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] الآية، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وفيه رد على اليهود، حيث قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما والشدة، فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضًا. فإن قيل: من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب، فكيف استقام قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} جزاء للشرط؟ أجيب بأن قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} تعليل لجواب الشرط، كما أسلفنا. والمعنى: من عادى جبريل من أهل الكتاب، فلا وجه لمعاداته، بل يجب عليه محبته، فإنه نزل عليك كتابًا مصدقًا لكتبهم. فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه، في إنزاله ما ينفعهم، ويصحح المنزل عليهم. وقيل: الجواب محذوف تقديره: فليمت غيظًا. وعليه فلا يكون: {فإنه نزله} نائبًا عنه. ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرًا عن قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} ويكون هو تعليلًا وبيانًا لسبب العداوة، كأنه قيل: من عاداه؛ لأنه نزل على قلبك فليمت غيظًا.
قال الرضى: كثيرًا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام، قال الله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، وقيل تقديره: فهو عدو لي وأنا عدوه، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، هي قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} أي: من كان عدوًا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر.
وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه، وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة حديثًا قدسيًا «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
وصدّر الكلام بذكر الجليل تفخيمًا لشأنهم، وإيذانًا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا، وقدم الملائكة على الرسل، كما قدم الله على الجميع؛ لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي، ونزوله بتنزيل الملائكة، وتنزيلهم لها بأمر الله، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما، والدلالة على فضلهما، وإنهما، وإن كانا من الملائكة، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة، تنزيلًا للتغاير الوصفي، منزلة التغاير الذاتيّ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع؛ إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما. ووضع: الكافرين، موضع: لهم؛ ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وقد قرئ في السبع: {مِيْكَالَ} كميزان، و: {مِيْكَائِل} بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و: {مِيْكَائِيْلَ} بالهمزة والياء. اهـ.