فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإذَا قيل لهم ماذا أنزل ربُّكم} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذِكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث.
{مَّاذَا أنزل ربكم} يحتمل القائل ذلك لهم وجهين:
أحدهما: أنه قول بعض لبعض، فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم، لأنهم منكرون لنزوله من ربهم.
والوجه الثاني: أنه من قول المؤمنين لهم اختبارًا لهم، فعلى هذا يكون محمولًا على حقيقة نزوله منه.
{قالوا أساطير الأولين} وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين:
أحدهما: أي أحاديث الأولين استرذالًا له واستهزاء به.
الثاني: أنه مثل ما جاء به الأولون، تكذيبًا له ولجميع الرسل.
قوله عز وجل: {ليحملوا أوزارهم} أي أثقال كفرهم وتكذيبهم.
{كاملة يوم القيامة} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنها لم تسقط بالتوبة.
الثاني: أنها لم تخفف بالمصائب.
{ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ} يعني أنه قد اقترن بما حملوه من أوزارهم ما يتحملونه من أوزار من أضلوهم.
ويحتمل وجهين: أحدهما: أن المضل يتحمل أوزار الضال بإغوائه.
الثاني: أن الضال يتحمل أوزار المضل بنصرته وطاعته.
ويحتمل قوله تعالى: {بغير علمٍ} وجهين:
أحدهما: بغير علم المضلّ بما دعا إليه.
الثاني: بغير علم الضال بما أجاب إليه.
ويحتمل المراد بالعلم وجهين:
أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم لأنه تقليد بغير استدلال ولا شبهة.
الثاني: أراد أنهم لا يعلمون بما تحملوه من أوزار الذين يضلونهم.
{ألا ساء ما يزرون} يحتمل وجهين:
أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم.
الثاني: معناه أنه يسوؤهم ما تحملوه من أوزارهم. فيكون على الوجه الأول معجلًا في الدنيا، وعلى الوجه الآخر مؤجلًا في الآخرة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين وأنهم يعتقدون ألوهية أشياء أخر، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها، واطراح طريقة آبائهم في عبادتها، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة إذ هي أقوى رتب الكفر، أعني الجمع بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث، لأن كل مصدق يبعث فمحال أن يكذب بالله، وقوله: {لا جرم} عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد ولا محالة، وقالت فرقة: معناها حق أن الله، ومذهب سيبويه أن {لا}، نفي لما تقدم من الكلام، و{جرم} معناه حق ووجب، ونحو هذا، هذا هو مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما {لا} مُلازمةٌ ل {جرم} لا تنفك هذه من هذه، وفي {جرم} لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود، وأنشد أبو عبيدة: جرمت فزارة وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا، و{أن} على مذهب سيبويه فاعلة ب {جرم}، وقرأ الجمهور: {أن}، وقرأ عيسى الثقفي {إن} بكسر الألف على القطع، قال يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {إنه لا يحب المستكبرين} عام في الكافرين والمؤمنين، فأخذ كل واحد منهم بقسطه، وفي الحديث: «لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر» وفيه «أن الكبر منع الحق وغمص الناس» ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم، ثم يقول {إنه لا يحب المستكبرين}، ويروى في الحديث: «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برىء من الكبر» وقوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} الآية، الضمير في {لهم} لكفار مكة، ويقال إن سبب الآية كان النضر بن الحارث، سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار السندباد، ورستم، فجاء إلى مكة، فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وقوله: {ماذا} يجوز أن تكون (ما) استفهامًا، و(ذا) بمعنى الذي، وفي {أنزل} ضمير عائد، ويجوز أن يكون (ما) و(ذا) اسمًا واحدًا مركبًا، كأنه قال: أي شيء وقوله: {أساطير الأولين} ليس بجواب على السؤال لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء ولا أن تم منزلًا، ولكنهم ابتدوا الخبر بأن هذه {أساطير الأولين}، وإنما الجواب على السؤال، قول المؤمنين في الآية المستقبلة {خيرًا} [النحل: 30]، وقولهم: {أساطير الأولين} إنما هو جواب بالمعنى، فأما على السؤال وبحسبه فلا، واللام في قوله: {ليحملوا} يحتمل أن تكون لام العاقبة لأنهم لم يقصدوا بقولهم {أساطير الأولين} ليحملوا الأوزار، ويحتمل أن يكون صريح لام كي، على معنى قدر هذا، ويحتمل أن تكون لام الأمر، على معنى الحتم عليهم بذلك، والصغار الموجب لهم، والأوزار الأثقال، وقوله: {ومن} للتبعيض، وذلك أن هذا الواهن المضل يحمل وزر نفسه كاملًا ويحمل وزرًا من وزر كل مضل بسببه ولا تنقص أوزار أولئك، وقوله: {بغير علم} يجوز أن يريد بها المضل أي أضل بغير برهان قام عنده، ويجوز أن يريد {بغير علم} من المقلدين الذي يضلون، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثًا، نصه: «أيما داع إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» و{ساء} فعل مسند إلى {ما}، ويحتاج في ذلك هنا إلى صلة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إلهكم إله وَاحِدٌ}.
لما بيّن استحالة الإشراك بالله تعالى بيّن أن المعبود واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
{فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} أي لا تقبل الوعظ ولا ينجع فيها الذكر، وهذا ردّ على القدرية.
{وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون متعظمون عن قبول الحق.
وقد تقدم في البقرة معنى الاستكبار.
{لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي من القول والعمل فيجازيهم.
قال الخليل: {لا جرم} كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابًا؛ يقال: فعلوا ذلك؛ فيقال: لا جرم سيندمون.
أي حقًا أن لهم النار.
وقد مضى القول في هذا في هود مستوفىً.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم.
وعن الحسين بن عليّ أنه مرّ بمساكين قد قدّموا كِسَرًا بينهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبد الله، فنزل وجلس معهم وقال: {إنه لا يحِب المستكبِرِين} فلما فرغ قال: قد أجبتَكم فأجيبوني؛ فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا.
قال العلماء.
وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر؛ فإنه فسق يلزمه الإعلان، وهو أصل العصيان كله.
وفي الحديث الصحيح: «إن المتكبرين يحشرون أمثال الذَّرّ يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «تَصْغُر لهم أجسامُهم في المحشر حتى يضرهم صِغَرُها وتَعْظُم لهم في النار حتى يضرهم عِظَمُها».
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث {ماذا أنزل ربكم}.
قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحِيرة فاشترى أحاديث {كَلِيلة ودِمْنة} فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين؛ أي ليس هو من تنزيل ربّنا.
وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارًا فأجابوا بقولهم: {أساطِير الأوّلِين} فأقرّوا بإنكار شيء هو أساطير الأوّلين.
والأساطير: الأباطيل والتُّرَّهات.
وقد تقدّم في الأنعام.
والقول في {ماذا أنزل ربكم} كالقول في {مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215]، وقوله: {أَسَاطِيرُ الأولين} خبر ابتداء محذوف، التقدير: الذي أنزله أساطير الأولين.
قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ}.
قيل: هي لام كَي، وهي متعلقة بما قبلها.
وقيل: لام العاقبة؛ كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
أي قولهم في القرآن والنبيّ أدّاهم إلى أن حملوا أوزارهم؛ أي ذنوبهم.
{كَامِلَةً} لم يتركوا منها شيئًا لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم.
وقيل: هي لام الأمر، والمعنى التهدّد.
{وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال مجاهد: يحملون وِزْر من أضلّوه ولا يَنْقُص من إثم المُضَلّ شيء.
وفي الخبر: «أيُّما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وأيّما داع دعا إلى هُدًى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» خرّجه مسلم بمعناه.
و{مِن} للجنس لا للتبعيض؛ فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي يضلون الخلق جهلًا منهم بما يلزمهم من الآثام؛ إذ لو علموا لما أضلوا.
{أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي بئس الوزر الذي يحملونه.
ونظير هذه الآية {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقد تقدّم في آخر الأنعام بيان قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {إلهكم إله واحد} يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} يعني جاحدة لهذا المعنى {وهم مستكبرون} يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبرًا {لا جرم} يعني حقًا {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين} يعني عن اتباع الحق {م} عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا وفعله حسنًا قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقًا من توحيده، وعبادته باطلًا وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقًا، وقيل: البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله: «وغمط الناس» يقال: غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئًا وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته.
قوله: {وإذا قيل لهم} يعني لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم كفار مكة الذين اقتسموا عقابها، وطرقها إذا سألهم الحاج الذين يقدمون عليهم {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} يعني أحاديثهم وأباطيلهم {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} اللام في ليحلموا لام العاقبة وذلك أنهم وصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين، كانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم وإنما قال سبحانه وتعالى: كاملة لأن البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البر التي عملوها في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئًا يوم القيام بل يعاقبون بكل أوزارهم قال الإمام فخر الدين: وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلًا في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة.
وقوله سبحانه وتعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} يعني ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم وصدوهم عن الإيمان، مثل أجور الاتباع والسبب فيه ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
أخرجه مسلم ومعنى الآية، والحديث أن الرئيس أو الكبير إذا سنَّ سنه حسنة أو سنة قبيحة، فتبعه عليها جماعة، فعملوا بها فإن الله سبحانه وتعالى يعظم ثوابه أو عقابه حتى يكون ذلك الثواب أو العقاب مساويًا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، الذين عملوا بسنته الحسنة أو القبيحة، وليس المراد أن الله تعالى: يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، لأن ذلك ليس بعدل ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال الواحدي: ولفظة من في قوله ومن أوزار الذين يضلونهم، بغير علم ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص عن الأتباع بعض الأوزار، وذلك غير جائز لقوله «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»، ولكنها للجنس أي لحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله: {بغير علم} يعني أن الرؤساء إنما يقدمون على إضلال غيرهم، بغير علم، بما يستحقونه من العقاب، على ذلك الإضلال بل يقدمون على ذلك جهلًا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد.
{ألا ساء ما يزرون} يعني ألا بئس ما يحملون ففيه وعيد وتهديد. اهـ.