فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجعل ما ذكره هنالك وجهًا ثالثًا وأنه طوبق به الجواب هاهنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولًا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اهـ.
وقرئ {أساطير} بالنصب كما نص عليه أبو حيان وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع.
{لِيَحْمِلُواْ} متعلق ب {قالوا} كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا {أَوْزَارَهُمْ} أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيهًا بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {ليحملوا أثقالهم} {كَامِلَةٌ} لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين، وقال الإمام: معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليه بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلًا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها.
وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجهًا وأنتنه ريحًا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئًا زاده خوفًا فيقول: بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا.
فيقول: أنا عملك كان قبيحًا فلذلك تراني قبيحًا وكان منتنًا فلذلك تراني منتنًا طاطىء إلى أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} {يَوْمُ القيامة} ظرف ليحملوا {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم فمن تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى: {كَامِلَةٌ} يعين ذلك.
والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة، وقال الأخفش: إن {مِنْ} زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابًا يكون مساويًا لعقاب كل من اقتدى بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا» وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي: إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكر وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤل من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير، ولام {لِيَحْمِلُواْ} للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثًا ولا غرضًا لهم، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا، ويجىء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالإغراض وأنت تدري أن فيه خلافًا.
وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه: {أساطير الاولين} [النحل: 24]، والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في {يُضِلُّونَهُمْ} للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من المفعول كأنه قيل: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل: إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل: المعنى حينئذٍ يضلون جهلًا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى: {أَلاَ سَاء مَا يَرَوْنَ} وقوله سبحانه: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]. يقويه، وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالًا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه.
ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحًا، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في {قَالُواْ} [النحل: 24]. على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال؛ وأيد بقوله تعالى: {وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]. من حيث أن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرن، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالًا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27]، وهو خلاف الظاهر، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي بئس شيًا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا سئلوا عما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: لم ينزل عليه شيء، وإنما هذا الذي يتكلم به من أساطير الأولين، نقله من كتبهم، والأساطير: جمع أسطورة أو إسطارة، وهي الشيء المسطور في كتب الأقدمين من الأكاذيب والأباطيل. أصلها من سطر: إذا كتب، ومنه قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} [الطور: 2]، وقال بعض العلماء: الأساطير: الترهات والأباطيل، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر. كقوله: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]، وقوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنفال: 31]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {ماذا} يحتمل أن تكون (ذا) موصوله و(ما) مبتدأ، وجملة {أنزل} صلة الموصول، والموصول وصلته خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون مجموعهما اسمًا واحدًا في محل نصب، على أنه مفعول {أنزل} كما أشار به في الخلاصة بقوله:
ومثل ماذا بعد ما استفهام ** أو من إذا لم تلغ في الكلام

وبين جل وعلا كذب الكفار في دعواهم أن القرآن أساطير الأولين بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر} [الفرقان: 6]. الآية، وبقوله هنا: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة} [النحل: 25].
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمن: أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين، تحملوا أوزارهم- أي ذنوبهم- كاملة، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال، كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو {من} في قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} الآية.
وقال القرطبي: {من} لبيان الجنس. فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة.
وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، واللام في قوله: {ليحملوا} تتعلق بنحذوف دل المقام عليه. أي قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن: اساطير الأولين. ليحملوا أوزارهم.
تنبيه:
فإن قيلك ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]. مع أن الله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7]، ويقول جل وعلا: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164]، ويقول {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، إلى غير ذلك من الآيات.
فالجواب- والله تعالى أعلم- أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين: أحدهما- وزر ضلالهم في أنفسهم.
والثاني: وزر إضلالهم غيرهم. لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، وإنما أخذ بعمل غيره لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه، فعوقب عليه من هذه الجهة لأنه من فعله، فصار غير مناف لقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} الآية.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، وأبي الضحى عن عبد الرحمن بن هلال العبسي عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه. قال: ثم إن رجلًا من الأنصار جاء بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثمَّ تتابعوا حتَّى عرف السرور في وجهه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء».اهـ.
أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث عن جرير بن عبد الله من طرق متعددة.
وأخرجه نحوه أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه: هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النَّبي صلى الله عليه وسلم، فله مثل أجور جميعهم. لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {بغير علم} يدل على أن الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات، الذي لا لبس معه في الحق، ولو كان يظن أن كفره هدى، لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في الأعراف. كقوله: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103-104]، وقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار- أعذانا الله والمسلمين منها؟
وقال بعض العلماء: معنى حملهم أوزارهم: أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة، وانتنها ريحًا. فيقول: من أنت؟ فيقول: أو ما تعرفني! فيقول: لا والله، إلا ان الله قبح وجهك! وأنتن ريحك! فيقول: أنا عملك الخبيث، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا! هلم اركبك اليوم. فيركب على ظهره. اهـ.
وقوله: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} {ساء} فعل جامد. لإنشاء الذم بمعنى بئس، و{ما} فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة:
وما مميز وقيل فاعل ** في نحو نعم ما يقول الفاضل

وقوله: {يَزِرُونَ} أي يحملون، وقال قتادة: يعملون.اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
استئناف نتيجةً لحاصل المحاجّة الماضية، أي قد ثبت بما تقدّم إبطال إلهية غير الله، فثبت أن لكم إلهًا واحدًا لا شريك له، ولكون ما مضى كافيًا في إبطال إنكارهم الوحدانية عُرّيت الجملة عن المؤكّد تنزيلًا لحال المشركين بعدما سمعوا من الأدلّة منزلة من لا يظن به أنه يتردّد في ذلك بخلاف قوله تعالى: {إن إلهكم إله واحد} في سورة البقرة (163) خطاب لأهل الكتاب.
وتفرّع عليه الإخبار بجملة {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة}، وهو تفريع الأخبار عن الأخبار، أي يتفرّع على هذه القضية القاطعة بما تقدّم من الدّلائل أنكم قلوبكم منكرة وأنتم مستكبرون وأن ذلك ناشىء عن عدم إيمانكم بالآخرة.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته {الذين لا يؤمنون بالآخرة} لأنهم قد عُرفوا بمضمون الصّلة واشتهروا بها اشتهارَ لمز وتنقيص عند المؤمنين، كقوله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [سورة الفرقان: 21]، وللإيماء إلى أن لهذه الصّلة ارتباطًا باستمرارهم على العناد، لأن انتفاء إيمانهم بالبعث والحساب قد جرّأهم على نبذ دعوة الإسلام ظهريًا فلم يتوقعوا مؤاخذة على نبذها، على تقدير أنها حقّ فينظروا في دلائل أحقّيتها مع أنهم يؤمنون بالله ولكنّهم لا يؤمنون بأنه أعدّ للناس يوم جزاء على أعمالهم.
ومعنى {قلوبهم منكرة} جاحدة بما هو واقع.
استعمل الإنكار في جحد الأمر الواقع لأنه ضدّ الإقرار.
فحذف متعلق {منكرة} لدلالة المقام عليه، أي منكرة للوحدانية.
وعبر بالجملة الاسمية {قلوبهم منكرة} للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلّة.
وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجيّة وتمكّن من نفوسهم لأنهم ضروا به من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصّر في العواقب.
وكذلك جملة {وهم مستكبرون} بنيت على الاسمية للدّلالة على تمكّن الاستكبار منهم.
وقد خولف ذلك في آية سورة الفرقان (21) {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرًا} لأن تلك الآية لم تتقدّمها دلائل على الوحدانية مثل الدلائل المذكورة في هذه الآية.
وجملة {لا جرم أن الله يعلم} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والجَرم بالتحريك: أصلهُ البُدُّ.
وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حَقًّا.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} في سورة هود (22).
وقوله: {أن الله يعلم} في موضع جرّ بحرف جرّ محذوف متعلق بـ {جَرَم}.
وخبر {لا} النافية محذوف لظهوره، إذ التقدير: لا جرم موجودٌ.
وحذْف الخبر في مثله كثير.
والتقدير: لا جرم في أن الله يعلم أو لا جرم من أنه يعلم، أي لابد من أنه يعلم، أي لابد من علمه، أي لا شكّ في ذلك.
وجملة {أن الله يعلم} خبر مستعمل كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرهما بالمُؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار وغيرهما مؤاخذةَ عقاب وانتقام، فلذلك عقب بجملة {إنه لا يحب المستكبرين} الواقعةِ موقع التعليل والتذييل لها، لأن الذي لا يحب فعلًا وهو قادرٌ يجازي فاعله بالسّوء.
والتعريف في {المستكبرين} للاستغراق، لأن شأن التذييل العموم.
ويشمل هؤلاء المتحدّث عنهم فيكون إثبات العقاب لهم كإثبات الشيء بدليله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)}.